معتصم الشاعر
وأنا أتصفح فيسبوك، إذا بمنشور يصدمني، في صفحة صديقي الأديب الكردي الكبير جلال زنكابادي، يقول المنشور بأن هذه الصفحة لم تعد للأديب، لأنه توفي وترك وراءه الكثير من الأعمال غير المكتملة والأوراق على المنضدة في مكتبه، التوقيع زوجة الأديب جلال.
تأثرت لموته، فقد كان بيننا معرفة إسفيرية، قبل سنوات، أي قبل أن تأخذني الحياة من عالم الثقافة والكتابة، كنت وقتها على اتصال بعدد من المبدعين، ومررت بحالة من الجذب تجاه المبدعين الأكراد، منهم الراحل جلال، كان بيننا حوارات عبر مسنجر، وكنت أنوي أن أجري معه حوارا صحفيا أقدمه فيها للقارئ السوداني، ولست أدري ما الذي دعاني للتسويف، وقد تحسرت على ذلك كثيرا.
أتذكر الآن عناوين الكتب التي أنوي كتابتها منذ أكثر من عشرين عاما، والأفكار التي جالت بخلدي ثم وجدتُ آخرين نفذوها، مثلا كانت في خيالي شخصية اسمها جمانة جابر، وإذا بي وأنا أتصفح صحيفة سودانية وجدت قصة منشورة عنوانها جمانة جابر، هكذا هي الحياة، ما نتركه نحن يفعله غيرنا.
عندما نكون منهمكين في عمل ما نشعر بأن العمر لا يكفي، ومع ذلك نخدع أنفسنا أحيانا وكأننا مخلدون، الحياة قصيرة، ودرب الأحلام طويل، و كل أديب ساعة موته إما أن يكون لديه مسودات لم يبيضها أو أفكار يود ترجمتها على الورق، كأنما الموت يقف حاجزا أمام اكتمال المشاريع الإبداعية التي نحلم بتحقيقها، حين يُسأل بعض الأدباء عن أفضل أعمالهم، يقولون: تلك التي لم نكتبها بعد، ولو أنني أستطيع أن أجري حوارا مع صديقي جلال زنكابادي، لسألته عن العمل الذي كان يحلم به؟، وسألته أيضا هذا السؤال: أستاذ جلال، إذا كنت تعلم أنك ستموت في اليوم الذي مت فيه، فكيف سيكون العملٍ النهائيٍ الذي يعكس رؤيتك للعالم؟، وسألته عن الأوراق التي في المنضدة، والتي كان يعمل عليها، ولكن الأجل لم يمنحه فرصة لإنهائها.
بعد علمي بموت زنكابادي، مررت بتجربة أخرى وأنا أتصفح بريدي الإلكتروني، إذ وجدت رسالة منه تقول:” إلى الأخ العزيز معتصم مع المودة والتمنيات الحميمة”، وأرسل لي عددا من مؤلفاته والحوارات التي أجريت معه، منها: “هكذا شطح الكائن مستقبلئذ”، “ها هي معجزتي”، “خورخيه مانريكي شاعر عصره”، “قصائد تأبى أي عنوان و…”، “سنة في الجحيم مهاباد قرداغي”،”ترجمة ديوان عمر الخيام”، “ثلاث قصص للفتيان”، “الرحيل الدامي”، “الخادمة”، “الثقافة الكردية مشكلات ومعضلات وآفاق”، “ترجمة لأسطورة مضيق ناوكردان”، وغيرها.
لا أدري لماذا أرسل لي كل هذه المؤلفات والترجمات، ربما أعطاني فرصة لأجري معه-بعد موته- ذلك الحوار الذي لم يتم، ستكون روحه حاضرة، ربما عليّ أن أخدم أدبه وفكره بطريقة ما، ربما علي أن أتواصل مع زوجته بشأن الأوراق التي لم تكتمل.
مهما يكتب الأديب سيظل في حاجة إلى التعبير عن المزيد، يكتب ألف كتاب، لكنه سيموت متحسرا على كتب أخرى لم ينجزها، مات فرانز كافكا قبل أن يكمل روايته الشهيرة “القلعة”. ورغم أنها غير مكتملة، نُشرت الرواية بعد وفاته لتصبح واحدة من أعظم الأعمال الأدبية التي تُحلل العزلة والبيروقراطية. ومات مارسيل بروست، وترك روايته “البحث عن الزمن المفقود” غير مكتملة، لكن بُنيت الفصول الأخيرة على المسودات التي وُجدت. ومات إرنست همنغواي وهو يعمل على رواية “جنة عدن” والتي نُشرت بعد وفاته عام 1986، بعد مجهود تحريري مكثف أثار الجدل. وماتت سليفيا بلاث – تاركة روايتها “ذا بيل جار” والتي أُعتبرت مكتملة، وكشفت مذكراتها ورسائلها- التي نُشرت بعد وفاتها- عن مشاريع أدبية أخرى لم ترَ النور.
ربما ترك جلال قصائد غير منشورة، مثل إيملي ديكنسون التي لم تنشر سوى عدد قليل من قصائدها في حياتها، واكتُشفت مئات القصائد التي نُشرت بعد وفاتها، لتصبح من أعظم شعراء الأدب الأمريكي. ومثل ستيج لارسون الذي كتب ثلاثية “الفتاة ذات وشم التنين”، والتي نُشرت بعد وفاته، وحققت شهرة عالمية ضخمة.
قصتي القصيرة مع جلال زنكابادي، تلفت نظري إلى الحياة وإلى نفسي وإلى الآمال، تقول لي: “ما تود أن تقوله، قله حالا، وما تود أن تفعله، أفعله الآن، انشر كل ما لديك، فربما لن تُحظى بفرصة أن يبحث الناس في أوراقك بعد موتك، لا تترك الكثير من أعمالك التي لن تكتمل”، ما أقصر العمر حين نفكر في إنجازات كبيرة، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.