صالح  الشّرنوبي مأساة النّبوغ والرّحيل الباكر

صالح الشرنوبي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

ظاهرة النبوغ والرحيل الباكر قبل الأوان ظاهرة عالمية في كل آداب العالم ،وفي العالم العربي وفي مصر تحديدا شعراء وكتاب كثر نبغوا وأبدعوا قليلا أو كثيرا  ورحلوا فجأة قبل الأوان إراديا (انتحارا) أو مرضا عضالا، ومنهم الشاعر الموهوب عبد الحليم المصري، منير رمزي،فخري أبو السعود ، أحمد العاصي ،محمد عبد الحليم عبد الله ،وجيه غالي، عنايات الزيات ،أروى صالح  ،عبد الحميد الديب وغيرهم.

كان الشاعر المصري صالح الشّرنوبي (1924/1951)واحدا من هذه الفئة من المبدعين الشباب الذين سطع نجمهم في سماء الشعر ثم أفل سريعا فقد انتحر في عام 1951 على أرجح الأقوال ،وهو من مواليد بلدة بلطيم بمحافظة كفر الشيخ على البحر الأبيض المتوسط ، ولكنه بالرغم من حياته القصيرة ترك ديوانا ضخما من أجزاء عديدة : “أصداف الشاطئ”، “نسمات وأعاصير”، “في موكب الحرمان” ،”وطنيات” “أقاصيص في الحب والحياة”، “أشعار ورسوم “، “ظلال وألوان ” ،”مع الريح”، وواضح من عناوين الأجزاء وهي عتبات دالة على مضمون هذه الكرّاسات الشعرية نزوع نحو الطبيعة والتأمل على عادة شعراء الرومنطيقيّة ،وقد حقق الديوان عبد الحي دياب وراجعه أحمد كمال زكي الذي كتب في حق الشاعر: (كان الشاعر إنسانا فذا وكان فنانا لا يشغل نفسه بأكثر من أنه يريد أن يقول وسيقول رغم كل شيء وسيسمع منه الناس اليوم أو غدا ،ولما مات بكاه عارفوه وقال عارفوه إنه لو عاش لبزّ أعلام الشعر قاطبة).

في بلدته عاش محفوفا برعاية والده تاجر السمك ووالدته العطوف ،وقد أدخله الكتاب فحفظ القرآن في العاشرة وتلقى تعليمه  بالمعاهد الأزهرية حتى نال الشهادة الثانوية في معهد طنطا عام 1946 ،وكان والده يريد لابنه أن يصبح عالما أزهريا،ولكن الشاعر الشاب أخفق في الالتحاق بكلية دار العلوم التي خرجت كبار الكتاب كأحمد أمين فدخل كلية أصول الدين فلم يوفق فيها ،ثم دخل كلية الشريعة ولم يستمر فيها كذلك.

يرجع سبب هذا الإخفاق إلى ميول الشاعر كذلك الفطرية فقد كان فنانا يتحرى الجمال وينزع نحو التحرر ويستمع لصوت عقله الباطن ويسيح مع المشاعر الدافقة التي تطوح به في دنيا الحسن وعشق الحياة بعيدا عن تقاليد الدراسة الأزهرية  وقيودها الصارمة ،وبما تهيأ له من رصيد لغوي كبير وثقافة أدبية وافرة وما آنس به في نفسه من ملكات ومواهب فطرية صاغ تلك التجارب الحياتية على الرغم من قصرها شعرا ذا مسحة رومنطيقيّة حزينة موغلة في التشاؤم بنفس شعري مجدد لا يقلد ولا يتحرى مثلا شعرية كلاسيكية، وكان العقاد قد امتدح في مقالة خاصة إحدى قصائد الشاعر وتنبأ له بمستقبل شعري واعد .

عقدة المدينة عقدة تلازم كثيرا من النابغين الذين يتركون الريف إلى مدينة كوزموبوليتية كالقاهرة، ففي الريف الطهرانية والطبيعة البكر والحب العفيف المخلوط بأنات الحرمان والعلاقات الاجتماعية المتلاحمة والروابط الأسرية المتينة، في حين تبدو المدينة مثل غابة يتنارع الناس فيها من أجل البقاء بالمخلب والناب في سباق محموم ضد الزمن، وتبدو المدينة في الشعر الحديث عند بعض الشعراء مثل سدوم فهي مدينة الرياء واللذة والتصنع والجشع والأنانية المفرطة والمظاهر المادية والليل المنذور للعلب والتحشيش والسّكرعلى حساب الجوهر، وللسياب قصيدة عن  بغداد يقول فيها:

 بغداد مبغى كبير

لواحظ المغنّية

كساعة تتكّ في الجدار

في غرفة الجلوس في محطّة القطار

يا جثة على الثرى مستلقية

الدود فيها موجة من اللهيب و الحرير

لازمت الشاعر صالح الشّرنوبي هذه العقدة فهو في صراع بين إلحاح عقله الباطن وبين العقل الواعي الذي يخضع لتوجهات أنا أعلى مرجعيته قيم البلدة الدينية وأعرافها وقوانينها الأخلاقية ،ولكنه إنسان قدّ من طين تتنازعه اللذه والهواجس والرغبات  وتلح عليه بغية الإشباع !وهذا بالتحديد ما عاناه الشاعر فقد ترك العلم الأزهري وانغمس في حياة المدينة والليل تلك الحياة التي زودته بثيمات شعرية أبدع  فيها في توصيف حياة الحرمان والأمل ومأساة النبوغ وغبن الحياة للنوابغ ولا عدالة الحياة ،وتأمل معضلة الوجود والموت والروح والمادة والميل إلى التشاؤم من بطلان الحياة وزوال متعها وفساد الإنسان وتحلل القيم  وهي الثيمات المفضلة عند الرومنطيقيين، فهو يقول متأملا كنه الحياة وحتمية الموت:

غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا

وآمالنا تفنى وتفنى المشــــاعر

وتسلمنا أيدي الحياة إلى  البلى

ويحكم فينا الموت والموت قادر

حين علمت أسرته بانقطاعه عن الدراسة بالأزهر أوقفت إرسال المال إليه فاضطر إلى العمل مدرسا في إحدى المدارس الأجنبية ، لكن عدم التزامه بالمواعيد تسبب في طرده وهذا طبيعي فحياة الليل والسهر والسّكر ،فقد  نصّ وليم جيمس على أن  الخمر تتيح القابليات الصوفية فهي تشل الديدان الماصة للحيوية وتتيح الاستغراق في الموضوع المتأمل فيه على طريقة الاندغام فيه في لحظة انتشاء وصفاء بعيدا عن الهواجس والشكوك والأحكام القبلية والأعراف والتقاليد المرعية وتمنع الشاعر من الانضباط والالتزام بمواعيد العمل ، ثم انخراطه في تأليف الأغاني للفنانين العابرين طلبا للرزق دفع  به لاحقا  إلى الإدمان الذي هدّ توازنه النفسي وسلامته الجسدية .

ولأنه وجد نفسه بلا مأوى لعدم قدرته على دفع الإيجار لجأ إلى غار بجبل المقطم وقد أسماه بالجبل المضياف في إشارة إلى بخل الناس وتهميشهم للشاعر حتى سمع به الشاعر العطوف والرقيق كامل الشناوي فاستضافه في بيته ودبر له عملا بجريدة الأهرام تقديرا منه لموهبته ونبوغه وعبقريته الشعرية.ولكن الشاعر سرعان ما ترك القاهرة وعاد إلى بلدته بلطيم تتنازعه حياة المدينة بما فيها من لهاث وراء المتع والحرية وما تبشر به من إرهاصات الذيوع والشهرة والنجاح الأدبي وحياة الريف وما تحمله رمزانية العودة إلى الأصل إلى حضن الأم والاستكانة إلى راحة اليأس في حمى الطبيعة ،أي الصراع بين المثل والواقع أو بين الروح والمادة.

لقد عاش ميخائيل نعيمة حياة غنية بالطول والعرض في أمريكا ومارس مختلف المهن وعاش تجارب عميقة مع المرأة كما اعترف في سيرته الشعرية الموسومة “سبعون”، ولكنه عاد في النهاية إلى بسكنتا وإلى كهفه المفضل “الشّخروب” متنسكا فيه غنيا بوحدته، قانعا بعزلته الخلاقة التي أتاحت له هذا الفيض الشعري والزخم الإبداعي النادر في استكناه جوهر الوجود والإنسان والموت والروح والمادة ،تجربة صوفية فريدة عاشها الشاعر أتاحت لشعرنا العربي الحديث أن يعرج على شعر الهمس كما أسماه محمد مندور، شعر يخرج من القلب ليلج إلى القلب دون المرور بحاسة السمع ، لأن مداره على التأمل والفكرة والتوتر الروحي الهادئ وطالما اتهم شعرنا العربي بأنه خلو من ذلك.

عاد شاعرنا صالح إلى بلطيم لينتهي نهاية فاجعة تحت عجلات قطار على أرجح الأقوال فقد عاش حياة الشظف والبؤس واليأس من الحياة وفقد الثقة في كل شيء:

فما أظن الأرض تحوي فتى

وجوده قد كـــان إحدى الكبر

مثل فتى يدعونه شاعـــــــرا

وما بغير الموت يومــا شعر

حيــــاته ليل دميم الرؤى

مروع الأشباح كابي الصور

تفترس الآلام أحلامــــــــــه

وترتوي من دمهـــا المنهمر

وكان مما يزيد ويعمق من مأساة الشاعر ما كان في وجهه من بثور تصرف عنه نظر الحسان، والشعراء يتعشقون الوسامة والقرب من حمى المرأة ،وقد نشرنا مقالة بالقدس العريي الأسبوعي بتاريخ 15حزيران /جوان2024 بعنوان  ( الدّمامة المبدعة وتنمّر الآخرين) فهذه عقدة أخرى لازمت الشاعر ووجدت متنفسها فيما ينفثه قلمه من أنّات وأوجاع:

لك يا وجهي التعيس هجائي

في صباحي ومغربي وعشائي

أنت يا متحف الدمامة والقبح

تنزهت عن صفات البهاء

إنني كلما لقيت فتــــــــــاة

صفعتني بالنظرة الشزراء

وهذه عقدة أخرى  تجعل الشاعر انطوائيا، قليل الثقة  بالناس، سلبيا إزاء الحياة حتى إذا فقد الثقة في كل شيء أسلم نفسه لرحيل إرادي  يبدو مفاجئا لكن الإنذارات تتالى في صوره  الشعرية وقد فعلها قبله وبعده شعراء وكتاب كثر كأحمد العاصي، منير رمزي، فخري أبو السعود، أروى صالح ،عنايات الزيات وجيه غالي وغيرهم.

وهناك من يفند قضية انتحار الشاعر ويعزوها إلى حالة الشرود التي كانت تنتابه بتأثير من المخدر وبسبب من إدمانه.

تتكرس أهمية الشاعر من الثيمات التي عالجها في ديوانه الضخم في عمره القصير في اللغة والمضمون والموسيقى الشعرية  مما يكرسه كذلك شاعرا مجددا باقتدار وأهلية بشهادة نقاد عصره بل مارس التجديد في موسيقى الشعر ففي قصيدة “أطياف” يقول:

كما منيتني يوما وفي خديك توريد

وسالت من شفاه السحب الترانيم

تهدهد ربة الإشراق إذ أسكرها الحب

لكن لا تعجل الخطوا

وأسكرها نداء الحب فاستقبلت الليلا

وحيته وألقت ثوب نساك معابيد

وغيب خصرها البحر

والاستعانة بمفردات الطبيعة ظاهر هنا على عادة شعراء الرومنطيقيّة  والابتكار في الصور الشعرية بالبحث عن الحركة والتفاعل ،ونزعة الشاعر نحو التجديد في موسيقى الشعر لا الخروج على عروض الخليل هدما وتسفيها بل تجاوبا مع طول الفكرة أو قصرها وشدة الانفعال ودرجته وهذه القصيدة كتبها الشاعر قبل قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة وقصيدة “في السوق القديم” لبدر شاكر السياب.

إذا كان الحرمان والبؤس ومختلف العقد النفسية التي عاشها الشاعر قد حرمته من حياة مديدة وشهرة قياسية وحياة أسرية مستقرة ،فإن عمره القصير قد أغناه بالتجربة الشعرية الناضجة والتعبير الحي الديناميكي والصورة الشعرية المبتكرة والفكرة المتأملة العميقة، مما يكرسه في عمره الإبداعي شاعرا مجددا  أكبر بكثير من عمره البيولوجي ،والكتابة والإبداع ذاتهما يعود ان إلى مواهب وعوائق  في حياة فذة فريدة لا تريد أن تحقق رفاها أو  نجاحا كما يريده عامة الناس، فالكتابة  الحقيقية وليدة الأزمة أو هي الحياة المتخيلة التي يبدعها المبدع  بعقله الواعي واللاواعي ويلوذ بها ويحيا فيها ،وكان فرويد قد عالج الإبداع من وجهة نظر التحليل النفسي وفسر العقاد شعر أبي نواس المثلي بالثأر من الرجال وانتقاما لأمه  كذلك بل حتى ولع المتنبي بالتصغير من وجهة نظر نفسية  تجد تفسيرها في النرجسية المفرطة كذلك ،وللراحل عز الدين إسماعيل كتاب مفيد “التفسير النّفسي للأدب “، ويفيد علم النفس كثيرا في فهم توترات الشاعر صالح الشرنوبي ويضئ دياجير قصره الإبداعي المفعم جمالا وغرائبية  وتعرجات مظلمة.

 

مقالات من نفس القسم