أجرى الحوار: إزابيل فوجتنسبرغر
ترجمة: الحسن علاج
وقّع الأكاديمي والأستاذ الفخري بالكوليج دو فرانس، أنطوان كومبانيون Antoine Compagnon) (دراسة جديدة تحت عنوان “الأدب له ثمن” Equateurs، حيث قارب الأدب من وجهة نظر مردوديته. ليس من أجل جعله يمتثل لقوانين السوق، لكن بهدف إنقاذه، عاملا على إبراز عوائد الاستثمار التي يمكن توقعها منه.
خلال إلقاء درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانس سنة 2006، ركز أنطوان كومبانيون على أزواجه: ” هل الأدب مجد؟ ” وقّع الأكاديمي حاليا دراسة جديدة، في جواب ليس أقل استفزازا: الأدب، له ثمن !. إذا كان الوضع المالي للكُتّاب، في المخيال الجمعي، والمهن التي تدور في فلك الكتابة والانتقال (من مهنة التدريس إلى الصحافة مرورا بالنشر)، غالبا ما يبدو ذلك عابرا، مقارنة بمهن أخرى بالنسبة لمستوى تكويني مماثل، ينتقد أنطوان كومبانيون تلك الفكرة، مثلما يقلص التمييز بين عالم المال وعالم الروح.
ليس الأدب استثمارا مدرا للربح فقط، لكنه يضمن أعظم قيمة مضافة: إنه يجعلنا قادرين على أن نكون على أحسن ما يرام مهما كانت وظيفتنا. دراسة لا غنى عنها، حينما أزاحت الشاشات الكتب وفرض المنطق التجاري قانونه القاسي في كل ميادين حياتنا تقريبا. آثر المؤلف نزعة تفاؤلية، في حين أن الوضع مثير للقلق. لأنه كما قال شارل بيغوا Charles Péguy) (في كتاب المال:“لأول مرة في تاريخ العالم، يتم كبح كل القوى الروحية في مجموعها (…) بواسطة قوة مادية واحدة هي قوة المال “.
موقع ماريان: بينما تعمل الرأسمالية على تسليع كل شيء، فقد انخرطتم في آخر المطاف في لعبتها. لماذا تتبنون هذا المنطق التجاري الذي يعتبر في الصميم منطقا نقيضا للأدب؟
أنطوان كومبانيون: لقد بدا لي أنه من الأفيد مقاربة الأدب، بطريقة مستفزة إلى حد ما، من وجهة نظر المردودية. وهو الشيء الذي لا يستبعد، بطبيعة الحال، مراعاة مجانيته. يميل الشباب إلى التخلي عن القراءة، تحديدا لأنهم لا يدركون جيدا أهميتها. أعتقد أنه من الأهمية بمكان، العمل على تسويقه، في ثانوية، إعدادية، مع إثبات جدواه للتلاميذ، وليس فقط لأن هذا سيسمح لهم بتكوين سيرة ذاتية جيدة.
أشير إلى شريط بين الحيطان، الذي شكل بالتأكيد نقطة بدايتي في التفكير. لقد فوجئت كون أن التلاميذ، في آخر السنة الدراسية، كانوا يجنون شيئا مامن كل المواد الدراسية، لكن لم يكن لديهم ما يقولونه بشأن ما الذي أضافته لهم دروس الفرنسية. هذا الإحساس الذي كانوا يمتلكونه عن اللاجدوى، مجانية هذا التعليم، أوقعني في صدمة. وبالنسبة للعديد من التلاميذ والطلاب، فكما لو أن درس الفرنسية، الأدب، القراءة، لا ترجى منه أي فائدة تذكر. لقد وددت إبراز لماذا كان ذلك مهما. ففي عبارة ” فائدة “، ثمة مفهوم اقتصادي طبعا، لا يشكل لدي أي مصدر للإزعاج.
موقع ماريان: هل يصدر الحط من شأن المهارات الأدبية، بالنسبة لكم، جزئيا عن عجزها في أن ” تُسوق ” وتأكيد قدراتها. وعلى الرغم من ذلك، هل يكمن المشكل في نقص العروض وفي عدم استقرار تلك الوظائف؟
أنطوان كومبانيون: إن نقطة انطلاق تأملي هي دراسة لمركز الدراسات والأبحاث حول الكفاءة المهنية التي تبرز أن أصحاب الشواهد الأدبية ليسوا أكثر عطالة من أصحاب التخصصات الأخرى، الشيء الذي يعتبر مفارقا إلى حد ما. أظهرت الدراسة أنه في بحر ثلاث سنوات من العمل، يحصل عدد كبير من أصحاب الشواهد الأدبية على عمل في مستوى تكوينهم. وتكمن الصعوبة الأساسية بالنسبة لتلك الملفات في وقف التشغيل في البداية، علاوة على ذلك، فهي ظاهرة فرنسية بامتياز، لكن يتم في الغالب تصحيحها بعد ثلاث سنوات.
ثمة عدم الثقة من جانب المشغِّلين الذين يوظفون أصحاب الشواهد الأدبية، أدنى من مستوى تكوينهم غالبا، على أنه ثمة أيضا، من جانب أصحاب تلك الشواهد صعوبة في إثبات مهاراتهم، خبراتهم، المؤهلات التي اكتسبوها في دراساتهم.
يبدو أن النشاط الأدبي، يشكل في الجوهر، عالما مختلفا، في مأمن من البحث عن المردودية والإنتاجية. ألم يصبح في الوقت الراهن سوقا؟ يشهد على ذلك بعض الجوائز،مثل جائزة الغونكور، لكن أيضا المنطق التجاري الذي ترتبط به دور النشر؟
لطالما كانت لدى لجنة تحكيم جائزة غونكور اهتمامات تجارية، لكن، في السنوات الأخيرة لوحظ أنهم انقسموا تماما بما أن الصوت الراجح للرئيس هو الذي حسم الأمر على الأقل مرتين. منذ عقود، كان يتم التحكم في الجوائز الأدبية من خلال دور النشر التي كان لديها مؤلفون أعضاء في لجنة التحكيم وكانت مهمتهم التصويت لصالح دار النشر التي ينتمون إليها. لقد أصبح المرء أكثر حساسية تجاه تلك الأسئلة في الوقت الراهن. لمدة طويلة ظلت الجوائز الأدبية على مقربة مما هو تجاري، وكانت أقرب إلى تضارب المصالح التي كانت تدار جيدا بدرجة أو بأخرى.
موقع ماريان: لقد عكستم حجة ال” رجال المنهمكين ” الذين يتهكمون على المثقفين العاطلين عن العمل. لكن هل يمت الترف وراحة البال دائما بصلة باختيار ما؟
أنطوان كومبانيون: ثمة 35 ساعة، إجازة مدفوعة الأجر. فإذا كان لدى الرجال والنساء الوقت لمشاهدة التلفاز فبإمكانهم أيضا قراءة الكتب. لا أعتقد أن انعدام الوقت يعتبر مشكلة. لدى المرء كامل الوقت لقراءة الكتب.
موقع ماريان:بالنسبة للرئيس إيمانويل ماكرون، يكفي عبور الطريق لإيجاد عمل. أبرزتم من جانبكم أن الأدب يساعدنا على عبور الطريق. هل يتعلق الأمر بنفس السبيل ونفس الوجهة إلى النهاية؟
أنطوان كومبانيون: أنطلق من قولة لفليب دجيان (Philippe Djian) والذي، تبعا له، لم يساعده بروست على عبورالطريق. لست متفقا معه. أعتقد أن بروست ساعد العديد من الناس على عبور الطريق، عبور المدينة، عبور الحياة،مثلما أعتقد بودلير ذلك تماما. فهل ذلك من أجل العثور على وظيفة؟ لا، لكن ذلك يساعدنا على العيش. يمنح الأدب تجربة لا يمكن الاستغناء عنها والتي يتردد صداها في كافة الأنشطة.
إن الحجة التي أسعى إلى تطويرها، انطلاقا من بروست، وهو أنه مهما كان نشاط المرء المهني، فإذا كان قارئا، فإن نجاحه يكون أفضل نجاح. هذا هو اعتقادي. علاوة على ذلك، فإن مهندسا قارئا سوف يصبح مهندسا مرموقا. وقاض قارئ يصبح قاضيا متميزا إلخ. أعتقد أن الأدب يوفر خبرة وتربية جيدة لا بديل عنهما.
موقع ماريان: ألا يبدو هذا تفاؤلا مبالغا فيه؟
أنطوان كومبانيون: أحاول مقاومة الفكرة النمطية التي ترغب في أن يكون الأدب معزولا. صحيح أن زمن القراءة هو زمن انزواء. لا أنكر ذلك، إنه زمن تركيز. لكني لطالما فكرت أنه زمن انسحاب وانتباه كان يسمح بالعودة إلى الآخر، بالعودة إلى العالم. ربما لأنني تكونت معرفيا من خلال مونتيني Montaigne) (، والذي أعجبت كثيرا لديه بتلك الحركة من الذهاب والإياب بين الانسحاب والنشاط.وهذا هو السبب في كوني أتحدث عن تلك اللعبة بين الخلومن العمل otium) (والنشاط المنتج negotium) (. إن مونتيني وشيشرون كانا في حاجة ماسة إلى الاعتزال، لكن بغية العودة إلى العالم، وليس الانسحاب لعزل نفسيهما.
” يبدو لي أن هذه هي الطريقة، التي يكون بإمكان المرء من خلالها أن يكون مبتكرا لحياته: متأملا صورته وهو يعبر الطريق، بسخرية وتباعد، وعاملا على رفع قبعته. “
لم يسبق لمونتيني حبس نفسه في برج عاجي أبدا. فلطالما كان يعود لما تتم دعوته لكي يتفاوض بين الأحزاب، وإذا لزم الأمر، يسافر. يعتبر مونتيني مثالا للقارئ،لكنه أيضا مثالا للرحالة الفضولي، والمفاوض الحاذق. ليس ثمة تنافر بين القراءة والاتجار.
موقع ماريان: ماهي المهارات متعددة المهن التي يمنحنا إياها الأدب؟
أنطوان كومبانيون: إنهاالتجربة التي تمنحهاالأفلام والمسلسلات بصورة جزئية، لكن بشكل غير مكتمل،بما أنها ليست أنشطة منفردة، وكونها تتطلب خيالا أقل. تمنحنا القراءة في الوقت نفسه الذكاء السردي، وتسمح لنا بوضع الأمور في نصابها الصحيح، والحدس الشعري للكلمات. أعتقد أن القارئ هو من يمتلك خبرة في الحياة لا يمتلكها الآخرون، أعني أداب السلوك. يحيا المرء حياة هنيئة إذا كان قارئا.
موقع ماريان: لقد أشرتم أيضا إلى ” موهبة الاكتشاف بالصدفة “. هل بإمكانكم شرح ذلك؟
أنطوان كومبانيون: يتعلق الأمر بنوع من الحدس الذي تمنحنا إياه المواظبة على الأدب،أعني ملكة عقليةفي انتهاز فرصة تمر، بينما يكون المرء بصدد البحث عن شيء ما، وإدراك أنه يعثر على شيء آخر.
إن إدراك أننا نعثر على شيء آخر غير ما كنا نسعى في البحث عنه، فهذا في الأساس هو ما تزودنا به القراءة. ليس الحظ، بل قليل من الرُّواء. فهذا الرُّواء هو ما يساعدنا على استعادة التوازن.
موقع ماريان: لديكم هذا المقطع المؤثر حول الكشف عن الموت الوشيك لوالدتكم عند قراءة ستاندال. في ماذا يشكل الأدب مدخلا عميقا إلى الحياة؟
أنطوان كومبانيون: نتيجة لهذه المصادفة بين قراءتي وهذا الفهم، قمت باقتناء دفتر وشرعت في الكتابة، محاولة مني لكي أعيش هذا الوضع وفهمه. لقد كان هذا درسا. إنها المرة الأولى التي شرعت فيها في الكتابة بعد مواجهتي ذلك الوضع، من أجل اكتشاف عمق الأشياء. في الواقع ثمة إحساس داخلي أن الأدب وحده بإمكانه إنقاذكم.
موقع ماريان: باعتباركم ناقدا في النظريات السردية، ومع ذلك فقد أتيتم على ختم كتابكم بفكرة تقول بأن الأدب يسوغ للمرء أن يكون مبتكرا لحياته. بأي طريقة؟
أنطوان كومبانيون: بصفتي ناقدا فيما يخص تلك النظريات التبسيطية،إلى حد ما، والتي توجد في كتب الرفاهية، على أنه في نفس الوقت، فإني أعود إلى هذا الطرح. بمعنى أن الأدب يزودنا بسخرية معينة إزاء وجودنا. أعتقد أن هذا هو الأهم. أستحضر هذه الإمكانية التي يمنحنا إياها الأدب لإيجاد حل لتناقض الفلاسفة، وهو أننا لا نستطيع أن نكون متواجدين في الطريق والشرفة في نفس الوقت، نتفرس في بعضنا البعض ونحن نعبر نفس الطريق.
وحده الأدب يسمح لي بالتواجد في الطريق وفي الشرفة في آن واحد.أثناء القراءة، يحدث القليل بداخلي، ذلك النوع من الازدواجية الواعية بين التواجد في الطريق والشرفة. فعلى هذه الشاكلة، يمكن للمرء ابتكار حياته كما يبدو لي: متأملا ذاته وهو يعبر الطريق بسخرية وتباعد، وعاملا على رفع قبعته احتراما.
……………..
مصدر الحوار: موقع www.marianne.net