قراءة في مجموعة “عين سحرية تطل على خرابة “

عين سحرية تُطل على خرابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زكريا صبح

فلسفة اختيار العناوين

ربما كان أول ما يلفت نظر القارئ في هذه المجموعة هو عنوانها الذى جاء جملة خبرية مكتملة “عين سحرية تطل على خرابة” فالعنوان كما نرى مكون من مبتدأ هو “عين سحرية” وخبر هو “تطل على خرابة”، ولم يأت العنوان كما تعودنا فى القصص القصيرة مكونا من كلمة واحدة او كلمتين ولكنه اختار ان يكون العنوان معبرا عن عالم نحن مقبلون عليه، ربما ليمهد القارئ إلى حجم الخراب الذى صار اليه العالم، وقد كان دقيقا عندما أكد اننا سنطل على هذا العالم ليس اطلالة مباشرة، بعين طبيعية بل من خلال عين سحرية، وهنا تقفز فى مخيلة القارئ فكرة السرية والتلصص، وربما استدعى عقل القارئ الكاميرا باعتبارها قادرة على التصوير المباغت السرى من خلال عينها السحرية

ولم يشذ عنوان المجموعة عن العناوين الفرعية للقصص فلم نصادف عنوانا واحدا مكونا من كلمة أو كلمتين بل جل العناوين هى جمل خبرية تعطى إشارة لعالم القصة التى نحن مقبلون عليها، فمثلا عنوان القصة الأولى التى جاءت تحت عنوان (الشاعر يتعلم فن التنكر قبل أن يعتزل) جملة مكتملة تتحول فى رأس القارئ إلى قصة مكتملة. فإذا ما ولجنا القصة وجدنا موضوعها شاعر لديه شعور بالمعاناة على مستويات عدة ولذا ليس غريبا ان يكون قراره هو اعتزال الشعر وكل ما يتصل به.

**والقصة الثانية جاءت بعنوان (وردة معتقلة فى كتاب) اظن انك تشعر حيال هذا العنوان _ من غير قراءة القصة _ انك بصدد حالة من القهر والسجن والظلم، كما يستدعي الارتباط بين الوردة والكتاب حالة عاطفية لم ينجو منها احد وقد صدق حدسك إذ القصة حالة من الفقدان، فقدان الحبيبة الذى ترتب عليه فقدان الذات

** والقصة الثالثة جاءت بعنوان (المرأة التى باعت حلمها للصائغ المزيف) هل لاحظت الطول المبالغ فيه لهذا العنوان وكأن الكاتب اراد ان يسوق لنا مختصرا للقصة، والحقيقة ورغم طول العنوان فإنه ليس كاشفا لان الأسئلة ستتوالى على رأس القارئ مثل : من تراها هذه المرأة؟ وماهو حلمها الذى باعته؟ ولماذا كان البيع للصائغ وليس لغيره؟ ولن يطول بك البحث إذ سنكتشف ان العنوان جاء ملخصا للقصة، ولكن بعد الانتهاء من القراءة، حيث أن البطلة امرأة تزوجت من رجل لا تحبه وهى تعيش بعاطفتها مع رجل اخر ربما هو (الصائغ الذى أهداها اسورة مزيفة مقابل قبلة جعلت قلبها ينبض لنصف يوم).

* وعلى هذا النحو جاءت معظم عناوين القصص مثل (زجاجة ملونة فارغة،) (محاولات للهروب من مخرج الطوارئ)،(اسباب غير مقنعة للعزلة) وغيرها من العناوين التى لم تشذ عن هذه القاعدة

 

البطولة فى المجموعة

هذه المجموعة تنشغل باناس نكاد نعرفهم معرفة حقيقية عبر الواقع الذى نعيشه ولكن الكاتب يعيد استحضار الشخصيات بشكل فنى بحيث يجعل منهم نماذج ترقى لأن تكون نماذج سحرية ساحرة تبقى عالقة بالإذهان ولذا ليس غريبا ان تجده يحدثنا عن الابطال باعتبارهم أجسادا من غير روح تسرى فيهم فهم بين ميت ومحمول على الاعناق، ومنهزم يسأل :(هل انا موجود)؟

نحن أمام ابطال من لحم ودم تعانى من مشكلات وجودية فالبطل مثلا فى قصة (ابتسامة شاحبة لقمر مريض) يعانى وحدة مؤلمة ويقتنص لحظات السعادة مهما كانت المعوقات، فهاهو يحتفل بعيد ميلاده الأربعين بعلاقة ساخنة ربما كانت له عوضا عن لحظات الحرمان التى عددها فى نصه ، وفى قصة(عفوا الدخول من النافذة)، نرى البطل الذى يمثل شريحة ثورية ترصد التفاوت الطبقى والتفاوت بين اهل الوطن والزائرين، كيف يتعامل الشرطى رمز الأنظمة القمعية مع مواطنه وكيف تحول اهل الوطن إلى متسولين وكيف تحول الوطن إلى مكان مؤجر،،لكن ترى من الذى الات اليه ملكية الوطن؟؟

وها هو الكاتب يرصد انحراف إدارى عبر رجل مرتشى فى قصة (عين سحرية تطل على خرابة) وعلاقته المنحرفة بزميلته كأنه صار عبدا للشيطان ويعرج على معاناة هذه الزميلة التى تفتقد دفئ زوجها، انه يرصد أمراض المجتمع فى كل نص من نصوصه كأنه يصرخ فى وجه العالم ان هذا الوطن جد مريض مرضا عضالا

هذا قليل من كثير للدلالة على انغماس الكاتب فى قاع مجتمعه راصد معاناته كاشفا عن مشكلاته واصفا مأساته،مخلدا شخوصه وربما كان من الضروري هنا التأكيد على انحياز الكاتب للفقراء والمهمشين ومحطمى الأحلام والامال

 

تغير الرواة فى نصوص المجموعة

ما من شك أن لعبة الفن تقتضي المراوحة فى طريقة السرد، ومن ضمن الأدوات التى يستطيع الكاتب اللعب بها هى (الرواة) والكاتب الماهر هو الذى لا يصر. ولا ينحاز لراو بعينه جاعلا منه ساردا اوحد للحكاية ولذا ليس غريبا ان نجد الكاتب يختار بين راو عليم مرة وراو مشارك مرة وهذا ما ظهر مبكرا فى القصتين الاوليين الذى بدأ بهما ففى الأولى كان الراوي عليما بينما فى الثانية كان مشاركا ثم جاءت الثالثة براو عليم بينما الرابعة جاءت براوا مشارك ثم غلب على المجموعة اختيار الراوي المشارك وقد كان موفقا. إذ الحكاية بضمير الأنا تشعر القارئ بصدق الحالة وكأن صاحبها يرويها بنفسه ونحن نعلم انها ليست الا حيلة فنية يختار فيها الكاتب الحكى بضمير الأنا متقمصا دور البطل الذى انحاز لقضيته

** وثيق الصلة باختيار الكاتب لرواته، هذه الاستهلالات التى تخطف القارئ لتضعه مباشرة فى بؤرة الأحداث من غير. تمهيد، استهلال يوحى بأن الكاتب كأنه فى حالة ممتدة من الحكى معتبرا قارئه فى حالة ممتدة من الاستماع فلا عجب اذن ان تكون البدايات على هذا النحو مثلا (اختار الشاعر كرسيا وطقطوقة تعانى الإهمال…..ثم يستكمل

وفى نص اخر يستهله بهذه الجملة (وكأنها تهدهد الحلم او تقربه من ثدييها لتنام مبتسمة) انه يتعامل معنا وكأننا كنا قبل قليل نستمع لجزء من الحكاية وهو يستكملها الان

وفى نص ثالث يبدأ بهذا الحكم (لم اندهش من ردة فعله ولم أقف حائرا)….ثم يستكمل الصورة، هل لاحظت كيف وضعنا فى قلب الحدث؟

وعلى هذا المنوال نسج نصوصه نسجا مشوقا مكتنزا مبتعدا عن التمهيد الذى قد يصيب القارئ بالملل ويصيب النص بالترهل

 

** ويكتمل اكتناز النص بالايقاع السريع الذى اثر الكاتب من خلاله استخدام

الجمل القصيرة السريعة المصورة تصويرا سحريا عبر كاميرا سحرية لا تفارق يد الكاتب ونحن نقول ذلك على سبيل المجاز إذ الكاتب لا يحمل كاميرا ولكنه يحتفظ بعينين أشد حساسية من الكاميرا ولكن دعنى أصف لك _ على سبيل المجاز _ هذه الكاميرا

 فهى كاميرا مفتوحة العدسات، تلتقط كل حدث وصوت وشخص فى محيط التقاط الصورة، وهى كاميرا ذكية إلى حد انها تختار بعناية من بين هذه المفردات الكثيرة ما يناسب موضوع القصة، تختار الكاميرا كل مفردة تكون مشحونة بمعنى ما من المعاني التى يريد الكاتب ان يؤكد عليها، انظر اليه يقول فى قصة (البحر لا يعرف) متحدثا عن بطل يهوى التصوير يقول :(الكاميرا لا تفارق يده،يلتقط الصورة تلو الأخرى، يتأمل الصورة ويبتسم ابتسامة واسعة عندما ينجح فى اصطياد لحظة كادت تفلت مترجلة تغافله وتقف خلف ظهره كأنها موجة اجهضت قبل أن تصل للشاطئ)، هكذا يرصد الكاتب شخوصه ولحظاتهم لا يريد لهم ان ينفلتوا او تنفلت تفصيلة ما فى المشهد،وبعد أن ينتهى من تصويره المشاهد لا يصنع منها مشهدا متصلا بل يضعها متفرقة على رقعة لعبة البازل

فهو يتعامل مع القصة مثل التعامل مع لعبة البازل حيث يضع بين يدي قارئه عددا من الصور المبعثرة مختبرا بذلك قدرة القارئ على إعادة تكوين الصورة الكلية التى تنطق بالمعنى الكلى الذى يسعى الكاتب لتجسيده،فيما يعرف باعادة كتابة النص مرتبا وفق رؤية القارئ وثقافته وقدرته على الغوص فى أعماق النص وكذا وفق المفاتيح التى يتركها الكاتب مختبئة فى نصوصه

** نحن بلا شك أمام نصوص تبدو سردية البناء والصورة قصصية القالب،لكن هذا الحكم مخادع اذ النصوص مكتوبة بقلم شاعر لم ينس روح القصيدة التى تسرى فى اى نص فتحيل بنائه السردى إلى قصيدة بغير قافية لكنها مفعمة بالموسيقى مترعة بالصور البلاغية من استعارات وتشبيهات ومجازات والتفاتات.

قصص غلب عليها الأداء الشعرى الذى يترفع عن الأداء الدرامى، نحن أمام نصوص تبدو مثل بستان متعدد الفاكهة فيما يوحى البستاني لزائريه ان الحديقة. مزروعة بصنف واحد من الفاكهة، والبستاني لا يتبرع ان يكتب على باب حديقته (حديقة المانجو) لكننا ما ان ولجنا إليها كى نقطف ثمار المانجو حتى فاجأتنا الحديقة بثمار شتى.،

ومثل ذلك فعل بنا الكاتب الذى كتب على غلاف كتابه (مجموعة قصصية) فإذا ما شرعنا فى القراءة وجدنا السرد يختبئ خلف الشعر وأصبح لزاما علينا اقتطاف السرد بلغته ودرامته وتسلسل احداثه واكتشاف مفارقاته ومنطقية تتابعاته وكذا اصبح لزاما علينا_ بما اننا نقرأ مجموعة قصصية _ ان نقتنص (الحدوتة) التى هى جوهر السرد، نجمع الخط السردى كالذي دخل الحديقة باعتبارها حديقة للمانجو فإذا به أمام أصناف شتى لفواكه مختلفة وأصبح عليه شحذ همته لحصد المانجو دون غيرها

وهذا لعمرى امر عسير يشق على القارئ الذى يهدف إلى متعة السرد فيجد نفسه أمام نصوص تغلب عليها روح الشعر. وهنا تكون المخاطرة التى خاضها الكاتب بروح الفارس النبيل، فإما ان يصبر القارئ مهما كانت صعوبة التوغل في النصوص وصعوبة إعادة تجميع الصورة السردية من أجل الحصول على المانجو اقصد متعة السرد او ينصرف إلى خارج الحديقة كى يتأكد انه لم يخطئ العنوان

 

وليس ادل على ما أقول من تشبيه القصة بالقصيدة فى هذه المجموعة مثل تعامل الكاتب مع الزمن فى هذه النصوص، فمما يلفت النظر غياب الزمن الظاهر الواضح فهو غير معنى بزمن وقوع الحدث من ليل او نهار او الإشارة إلى ما يرمز إلى الزمن من شمس او قمر.، وهل القصيدة تبعد عن ذلك، فإذا ما أضفنا إلى ذلك كم التشبيهات والاستعارات والصور المجازية فى النصوص تأكدنا انها إلى القصيدة اقرب

** سمات عامة

١ _ لغة السرد مكونة من جمل قصيرة، وكل جملة تصور مشهدا، الجمل سريعة الإيقاع والتنقل بين مشهد واخر، والإيقاع السريع يدفع بالأحداث قدما،جاعلة القارئ فى حالة عدو خلف الصور والأحداث، لاهثا لجمع شتات الحكاية المبعثرة فى بين كلمات النص

٢- تأنيس الأشياء المادية مثل قوله : يضغط رأسه محاولا تجاهل الايادى الكثيرة المرتدة، قسط الملابس، إيجار الشقة، قسط العفش، قسط الأجهزة، وكأنه أراد أن يقول : كل هذه الأقساط استحالت إلى إياد تحيط به

٣ قد تبدو القصة تناقش أمرا شخصيا للبطل الا انها تنجرف إلى مناقشة الشأن العام، ولذا ليس غريبا ان يعرض الكاتب مأساة بطله من خلال عرضه لمأساة مجتمعه او العكس، وليس المقصود بالمجتمع هنا وطنه المحدود بل قد يكون وطنه الأشمل الذى قد يمتدد حتى يصبح الإنسانية بأسرها

** الرموز التى تشى بالبعد السياسي والوطني

القلم المكسور،كتاب الدراسات المفتوح على خريطة الوطن العربى،

** البسطاء هم عصب المجموعة ومحور اهتمام كاميرا الكاتب الذكية والامثلة على ذلك كثيرة

فى قصته الأولى نتبين أسرة فقيرة ربها شاعر. ولديه ابنة تعانى من السرطان والولد محبط ولا امل له فى تحقيق أحلامه مادام الممثل البلطجي يتصدر المشهد، ورغم ذلك يتعفف الشاعر عن تقبل الجائزة لانه لا يشعر بالحرية، ولانه شعر بالانسحاق أمام الهجمة الشرسة من الاعلانات المحبطة عن السيارات والعقارات والاطعمة وغيرها

** الثنائيات التى صنعت المفارقات

 ١_ الشاعر فى مقابل العالم المادى

مقهى العمال البسطاء فى مقابل عالم المال والاعمال والحياة المترفة (قصة الشاعر يتعلم فن التنكر قبل أن يعتزل)

٢_شخص ما فى مقابل نفسه، انقسام الذات على نفسها (قصة وردة معتقلة فى كتاب)

٣_ المرأة الممزقة بين زوج تقليدى أجبرت عليه وحبيب لم تتمكن من الارتباط به (قصة المرأة التى باعت حلمها للصائم المزيف)

** يجيد الإشارة والتلميح ويبعد عن الوضوح التصريح

فمثلا يشير للفقر المدقع بقوله (لكن الطفل الأصغر سقطت أسنانه وهو يحاول تخليص اللحم من حول صدر دجاجة صغيرة مجمدة اشترتها زوجتى احتفالا بالعيد)

هذه الفقرة كفيلة بنقل الحالة الاجتماعية المتردية لأسرة. تحتفل بالعيد على هذا النحو،فما بالنا بحياتهم العادية؟

**ويشير إلى الحالة السياسية بجملة خاطفة عندما يقول (كيف اقبل التكريم وانا لم انجح حتى فى الكتابة عن جسدى المهلهل؟

هل وصلك الشعور بكبت الحريات والقهر السياسي الذى اجبر شاعرا على الصمت حتى فيما يخص التعبير عن جسده، اذا كان هذا حال شاعر فما بالنا بحال عوام الناس !

وفى النهاية، نحن أمام كاتب اختار طريقا خاصا فى معالجة قضايا تشغله، نحن أمام كاتب له صوته وبصمته، له لغته وادائه له طريقته فى استلاب الإعجاب من نفس محبيه،

المتعة حاضرة ما حضر الفن.

……………..

* قاص و ناقد مصري

مقالات من نفس القسم