متلازمة درويش وأثرها في توجيه النقد- صبحي حديدي نموذجاً

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فراس حج محمد

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي إلى طراز رفيع الثقافة من الشعراء الإنسانيين”.

هذه اللغة غير المحدودة في مفردات التبجيل والتفخيم النقدي ومعانيه التي لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات هذا المؤلف الكبير الحجم الذي زاد عن أربعمائة صفحة، جاءت تقريظية لمنجز شعري ممتد منذ 1960 حيث ديوان محمود درويش الأول غير المعترف به “عصافير بلا أجنحة”، وحتى وفاته عام 2008، متوقفا عند بعض كتابات درويش النثرية، وقصائده الشعرية المفردة المنشورة حتى هذا التاريخ، وأسقط من حساباته مجموعته الأخيرة التي صدرت بعد وفاته تحت عنوان “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، هذه المجموعة الشعرية التي “ضمت مسودات لقصائد لم يتسنَّ للراحل اعتمادها نهائياً؛ فلا يعتدّ بهذا الكتاب”. معتبرا حديدي نشرها واقعا ضمن القول الشائع: “ومن الحب ما قتل”.

ولعلّ هذا الحبّ الذي قتل مرّة عند نشر هذه المسودات سيقتل ثانية صاحبه في اعتماده هذه الطريقة من النقد، هذا هو الهاجس الذي تلبّسني وأنا أقرأ تلك العبارات التي لا تدع مجالا للشك أنك أمام أسطورة إبداعية من العيار “النادر جدا”، ولذلك فهو شاعر ذو “شاعرية عالية” أنتجت “ذلك النوع الاستثنائي من القصائد التي تعيد تعريف مشهد شعري بأسره”. لأنه نتاج “مبدع هضم التراث الثقافي الإنساني ويحسن توظيفه وتمثيله على نحو تشكيلي”. بتلك القصائد وما تنطوي عليه “من سطوح ثقافية وتاريخية وإنسانية كونية بالغة العمق والتنوع”. وبالتالي فهي “نصوص أدبية نادرة على نطاق عالمي”. وغير ذلك كثير جدا مما يتوزع في ثنايا تلك القراءات النقدية، وتؤشّر إلى أن الناقد مصاب بمتلازمة درويش.

فهل لهذه اللغة من مخاطر نقدية على الشاعر نفسه، وعلى غيره من الشعراء؟

كثيرا ما يعاني الدارسون والنقاد والقراء كذلك من أعراض هذه المتلازمة، إذ تظهر في سيطرة محمود درويش الإبداعية، إلى الحدّ الذي يسعى أحدهم إلى التقرير أن محمود درويش هو “الشاعر الأوحد” لا بديل له، ولن يتكرر مثاله، ولن يكون الشعر بعده صالحا للقراءة أو الإنتاج، فكل ما كتبه الآخرون بعده هو الهباء المنثور الذي لن يصل إلى شسع نعل درويش الشعري، ففي محادثة بيني وبين د. عادل الأسطة الذي يعدّ أحد النقاد المنحازين لمحمود درويش قال: “الشعر لم يعد يساوي شيئاً. ما أكثر الشعراء! وما أقل الشعر! ما أكثر الافتعال!”. لكنه مع هذا الانحياز كتب في شعر درويش منتقدا بعض مواقفه، على الرغم من أنه لا يرى أن ثمة شاعرا يوازيه.

هكذا يريد أن يقول حديدي من خلال كتابه “الانطباعيّ” هذا، فهو لا يدرس ويحلل بنى لغوية وشعرية للكشف عن أفكار الشاعر بقدر ما يكتب انطباعاته الشخصية، وتذوقاته النقدية “لشاعر صديق كبير” يتحتم عليه من باب الوفاء له أن يكتب عنه بهذه الطريقة العلنية المغرقة في التقريظ؛ بحيث تنسى للحظة أنك تقرأ لشاعر من طينة البشر العاديين الذين “يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق”.

إن هذه الطريقة من الكتابة عن أي شاعر هي طريقة محبطة للجيل الجديد من الشعراء، فقد أقام لهم النقاد سورا عظيماً، يصعب، بل يستحيل عليهم تجاوزه، فيأخذون حياله موقفين متعارضين، إما التسليم له والانصياع لمقولاته ولسيطرته والشعور بالضعة الشعرية، والتقزم الشعري مع الاستمرار في قول الشعر وإقرار هؤلاء الشعراء بأنهم أقل شأنا بكثير من درويش، أو  كما فعل باسم خندقجي عندما قرر ألا يكتب الشعر لأن “درويش يكفينا لمائة عام قادمة”. وكأنه أيضا يتخذ موقفا سلبيا من كل شاعر عدا درويش.

وإما أن يدفعهم ذلك “التبجيل النقدي” إلى التمرد على الشاعر وسلطته بتهور وانفعال، وتحطيم ما يطلقون عليه “الأصنام الشعرية والثقافية”. بناء على مفاهيم تتصل بالبلطجة الإبداعية، بعيدا عن الموضوعية أيضاً، إذ لا بد من أن يكون للشاعر جذور يستمد منها حياته، ودرويش وغيره من السابقين هم جذوره فلا يحق له أن يقتلعها، ويدوسها، ولكن بالمقابل لا يحق للنقد أن يهمّش تلك الأجيال من الشعراء ويعتبرهم صفا آخر من العبيد، أو شعراء من الدرجة الثانية، بممارسة نقدية عنصرية، تنتج نوعين من الشعراء “الأسياد الممجدين” و”العبيد الهامشيين”. للأسف فإن كتاب “مستقر محمود درويش” يرسّخ هذه الثنائية القائمة على العنصرية النقدية باحتفائها المبالغ فيه بالشاعر المفرد الفرد النموذجي.

في هذا السياق، عليّ أن أشيد بمشروع الشاعر السوري  أدونيس مع الجيل الجديد من الشعراء والشاعرات، من خلال سلسلة “إشراقات” التي يشرف عليها بنفسه، باختيار النصوص ومراجعتها، وقد أثمر هذا المشروع عدة دواوين شعرية لشاعرات وشعراء عرب، تختزن شاعرية معاصرة، فما وصل إليه أدونيس من مجد أدبي وشعري وتنظيري لم يجعله مكتفياً بذاته، بل أخذ يبحث عن أصوات إبداعية جديدة، لعلمه أن الشعر لن ينفد، وثمة ما هو مهم لدى الشعراء الشباب، بغض النظر عن بعض تلك الأصوات التي قدمها، ومن وجهة نظري- بعد أن اطلعت على شعر كثير منها- فإنها لا ترقى إلى أن يتبناها شاعر مثل أدونيس، إنما الفكرة- في نهاية المطاف- هي المُهمّة؛ الانفتاح على المستقبل الشعري لجيل قادم يمتلك حساسية شعرية خاصة به.

ولكن، ما الدافع الذي يدفع ناقدا مثل صبحي حديدي أن يكتب بهذه الطريقة؟

يبين الناقد نفسه أن علاقته مع محمود درويش بدأت بلقاء في مخيم اليرموك في سوريا عام 1976، حيث كان الشاعر نجماً من نجوم شعر المقاومة، والناقد في بداياته النقدية، ليس له تلك الشهرة التي هو عليها اليوم، لم يكن درويش يعرفه، ولكن الناقد الصامت المتابع حذّره بعد أن طلب منه الحديث ألّا يظل في خانة “شاعر المقاومة”، بل عليه أن يغادر هذه المنطقة إلى مناطق أرحب. منذ تلك السنة وحتى 1990، أخذ كلاهما يهتم بالآخر، ولعلّ الناقد أخذ يتابع ويكتب عن “الشاعر المقاوم”، والشاعر المقاوم يقرأ ما كتب الناقد المُجدّ، ولأن ثمة ما ينشر له في مجلة الكرمل. حتى تبلورت العلاقة بينهما، فيصبح حديدي هو المستشار المؤتمن على مخطوطات درويش الذي يطلعه عليها قبل الدفع بها إلى الطباعة ليقول رأيه فيها، وليتداولا تصحيحات ربع الساعة الأخيرة قبل تنفيذ أوامر صاحب المطبعة.

يثبتُ الناقد في ذيل الكتاب ثلاث صور من إهداءات بخط درويش موجهة للناقد “صبحي حديدي” حيث يصفه بـ “الصديق والناقد والراعي الأكبر لخطواتي الشعرية” (باريس 28/1/2006)، وفي الإهداء الثاني غير مؤرّخ يكتب درويش: “لولاك لظل هذا الكتاب سرا بيننا، فهل فضحتني أم ساعدتني على العبور؟ أعرف أنك المعين الأكبر والأمهر… بامتنان ومحبة وإعحاب”. وفي الإهداء الثالث المؤرخ بـ 8/3/2000، يصف درويش الناقد صبحي حديدي بأنه “الأمهر في تصويب الشعر، ودليلنا إلى الينبوع والأفق”.

إذاً هذه علاقة تجاوزت علاقة المبدع بالناقد، إلى أن يكون الناقد معلماً ومرشدا وماهرا، والشاعر الباحث عن “شخص” أمين، يمنحه النصح والإرشاد، ليبدو أجمل ما يكون عليه في نظر قرائه، وأشار الناقد حديدي إلى هذه العلاقة بينهما خلال مناقشته “مخطوطات درويش”، ليصل إلى التعبير “بتواضع أقصى”- كما يقول هو نفسه في كتابه- “أنني كنت محظوظا إذ عشت في زمنه، ولا أكاد أحصي نعيماتي لأنني كنت قريباً منه”.

ماذا يعني هذا التصريح العلني؟ وما مآله على طريقة الكتابة؟

يعيدني تصريح الناقد هذا إلى ما كنتُ كتبته حول “سلطة الناقد من النابغة الذبياني حتى إدوارد سعيد” لكن بطريقة معكوسة، بحيث تبدو أن سلطة المبدع على الناقد أشد وأقوى إلى درجة تخلي الناقد الأدبي عن اتزانه النقدي، والذهاب بعيدا في الاحتفال بالشاعر ومنجزه الإبداعي، ليس فقط من خلال تلك اللغة المادحة المبجلة فقط، بل إنه قاد القراء والتحليل النقدي إلى أن يكون كله بلورة لذلك الشاعر الذي ليس له حدود، وصار ناطقا باسمه، محاميا عنه، موضحاً أقواله، وعرّاباً لمشروعه حتى بعد (16) عاماً من رحيله، يشرح الشعر بناء على ما يزيد نصاعة ضوء الشاعر، ويبرر له كثيرا من المواقف الحياتية، والقضايا الإبداعية، كـ “الغراميات اليهودية” و”النهل من التوراة”، مثلاً، وحذف ما لا يليق بفنية الشاعر من قصائد، فقد رأى الناقد أن درويش حذف ما حذف من قصائده، وديوانه الأول لأنها أقل شعرية وشاعرية، ولم يكن فيها الحد الأدنى من الفنية التي تؤهلها لأن تكون في أعماله الكاملة، على الرغم من أن الناقد في موضع آخر يتحسر ويحزن؛ لأن درويش حذف أشعارا جيدة بالمفهوم النقدي عند حديدي، فقد كان “هذا المآل هو الأكثر إيلاماً لي شخصياً” كما يقول.

لم يتعرض الناقد- نظرا لتلك العلاقة بينه وبين الشاعر القائمة على الافتتان والإعجاب الشديدين من الناقد أولا، ثم الشاعر بعد ذلك- إلى أن الحذف يمكن أن يكون نتيجة تغير في مواقف درويش تجاه بعض القضايا العربية أو الأنظمة الحاكمة أو تبدل الظروف السياسية، كما رأى مثلا الدكتور عادل الأسطة في كتابه “ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش”، وكان أكثر تفلتا من سيطرة المبدع عليه، على الرغم من تفضيله له على غيره من الشعراء، حيث قرر أن: “محمود درويش مثله مثل كثير من المثقفين الفلسطينيين والعرب يرتبط بمؤسسات السلطة المالكة، ووقوفه إلى جانب ما يعتقد به شخصيا قد يسبب له العديد من المشاكل، ولعل أهمها محاربته في قوته وحرمانه من امتيازات يبدو التنازل عنها أمرا ليس سهلا بعد أن تعوّد على مثلها”.

إن مثل هذه المواقف التي تخدش مكانة الشاعر العظيم، لم يكن حديدي ليسمح لنفسه أن يقولها أو يعيد قراءة ظاهرة الحذف مثلا بناء عليها، لأنه ناقد مأخوذ بسلطة الشاعر الطاغية ومتلازمته المرَضية المهلكة التي جعلته لم يصدق نفسه، وقد “كلّفه” الشاعر أن يكتب له كلمة غلاف ديوان “لماذا تركت الحصان وحيداً” (1995).

هذه العلاقة بين الشاعر والناقد بهذا المستوى من الاندماج والحميمية والإخلاص والوفاء، تعيدني أيضا مرة أخرى إلى مواقف مشابهة كتلك العلاقة التي كانت تحكم المتنبي وشارح شعره ابن جني، فبينهما إعجاب متبادل، وكان ابن جني يدافع عن المتنبي بكل ما يستطيع وحكايته مع أبي علي الفارسي دالّة على هذا الحب المتبادل، حيث كان يستثقل الفارسيُّ المتنبي، فما زال به ابن جني في حوار ممتع جمعهما حتى قال له الفارسيُّ: “والله لقد حببّته إليّ”. هذان كانا معاصرين، علاقتهما شبيهة بحديدي ودرويش، فكلاهما علم ومشهور وذو إنجازات واضحة.

وغير بعيد عن هذين النموذجين، يحلو لي أن أعيد التذكير أيضا بشارح آخر لشعر المتنبي وهو أبو العلاء المعري الذي وصف ذلك الشعر بأنه “معجز أحمد” بإشارة تمجيدية غاية في التفخيم وإعلاء الشأن كأن ما يقوله المتنبي “قرآن” عبر هذه الاستعارة المسكوكة بعناية شاعر وفيلسوف، في حين بدا شعر أبي العتاهية للمعري كأنه “عبث الوليد”، استهانة وتحقيرا له، وشعر أبي تمام بينَ المنزلتين عبر هذه التسمية التي أطلقها على شرحه لديوانه “ذكرى حبيب”.

هذه الأسطرة النقدية التي يحاول الناقد أن يصنعها، أظنها أيضا تشكل خطرا على الشاعر نفسه، لأنها تحمّله ما لا يحتمل، كما فعل الناقد حديدي عندما أخذ يشرح شعر درويش وفنيّاته بطريقة هندسية، كأن صانعها يعمل بمقاييس منضبطة معروفة مسبقا، وهو في محترفه الفني يقوم برسم القصيدة على النحو “المتقن” هندسياً. صحيح أن درويش “صانع شعر” أكثر منه “شاعرا مطبوعاً”، وأنه كذلك ناقد نفسه، ومطلع على المنجز النقدي والشعري ويحاول الاستفادة منه، وأنه يعمل على القصيدة كأنها قطعة فنية، لكنه يفعل كل ذلك بخبرته المتولدة من طول المعايشة، وليس كما يوحي تحليل حديدي أو يمكن أن يقول لقرائه أنه “يهندس” القصيدة لتكون على شكلها التي ستستقر عليه، بوعي مسبق. لذلك فإن حدس درويش الفني وموهبته القوية لهما الأثر الكبير في إخراج الشكل الفني للقصيدة، وهذا لا ينفي، نتيجة الخبرة أن يكتب درويش بعض أعماله بوعي كامل خارج نطاق التحكم  العاطفي باللحظة الشعرية، كما فعل في ديوانه “سرير الغريبة” (1999) المخصص للكتابة عن “الحب” عند العرب وغير العرب، فدرويش في هذا الديوان ليس عاشقا متيماً، ودرويش- بالمناسبة- لم يكن يوما عاشقا متيماً، إلى تلك الدرجة التي تفقده وقاره الشعري وتأنقه الشخصي والانقياد لامرأة مهما كانت، فقد أحب وتزوج وطلق، وفارق ونسي، لكنه لم يتخل عن الشعر، فالشعر عشقه الأوحد، وكان باستطاعته أن يضحي- بل ضحى بالفعل- بكل ما يؤثر على شعره، من نساء وأولاد وحياة هادئة مطمئنة ككل الناس، ووظيفة وسلطة، ورفض أن يكون أول وزير للثقافة في السلطة الفلسطينية الناشئة آنذاك (1994)، وهذه محمدة للشاعر، لم يتوقف عندها الناقد صبحي حديدي، على الرغم من أهميتها.

تجنب صبحي حديدي تناول هذا الجانب في حياة درويش، ليس لأنه جانب شخصي وحسب، بل لأنه- في جزء منه المتعلق بالمرأة- ليس في صالح الشاعر عند التحليل النقدي الموضوعي، فأفاض مدحا وتقريظا في طريقة كتابة درويش لديوان “سرير الغريبة” الذي قدم فيه درويش شعرا لا يشبه شعر الغزل التقليدي. لقد غاب عن الناقد قوله إن درويش لم يكن يكتب الحب، إنما كان يكتب عنه، كما هو عند العشاق المتيمين الآخرين العائشين في عصور سابقة. هذه المسألة هي التي جعلت شعر درويش عن الحب في هذا الديوان باردة منزوعة الدسم العاطفي، وجاءت كلها على نسق واحد، متخذا لها تفعيلة البحر المتقارب “فعولن” وتنوعاتها الإيقاعية، ويرى الناقد أن هذا الاختيار من أجل “أن يردم الهوة بين شعر عربي يعتمد التفاعيل وشعر عربي لا يعتمد سوى النثر في صراع مرير من أجل اعتصار الشعر”، بتفعيلة شعرية تقرب القصائد إلى النثر نظرا لانعدام “التوتر العاطفي” وبالتالي فهي “في منطقة مشتركة بين التفعيلة المنثورة والنثر التفعيلي”. لعل هذا التبرير غير المنطقي عائد إلى افتتان الناقد بالشاعر وشعره، وغاب عنه أن البحر المتقارب بحر أناشيدٍ راقص، وفيه “مزية الإطراب الخالص”، و”كانت تتغنى به الجواري في الأعراس”، و”كان يستعمل في رقصات الأعراس”، كما يقول صاحب كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب”. إضافة إلى أن هذا البحر قيلت عليه كثير من القصائد المغنّاة، ربما أهمهما قصيدة علي محمود طه “أخي جاوز الظالمون المدى” التي أبدعها غناء وتلحينا موسيقار الأجيال محمد عبد الواهب، بل إنها عروضيا تنتمي مع المتدارك إلى دائرة واحدة تدعى “دائرة المتفق” بتنويعاتها الموسيقية النغمية الراقصة، وهما من البحور الخفيفة الغنائية، أو كما يسميها كتاب المرشد من “البحور القصار”.

لا يلجأ الناقد إلى إحالة شعر درويش على سابقه، فيظهر كأنه هو “مخترع” لهذه الطريقة من القول الشعري، فمثلا عندما ناقش تلك القصائد السبعة في ديوان “سرير الغريبة”، وجاءت بضمير المتكلم المرأة “فتعكس بذلك رؤية الأنثى لا رؤية الذكر”، يرى الناقد أن هذه القصائد “من أكثر موضوعات المجموعة نبلا وتعددية وديمقراطية”، علما أن درويش لم يكن الأول الذي اخترع هذه العجلة، والعماء النقدي الحديدي كان في عدم اللجوء إلى تأطير هذا النوع من القصائد كما جاءت عند سابقيه، وخاصة عند نزار قباني الذي أنطق المرأة بما لم ينطقها به شاعر آخر، بل لم يذهب في المسألة إلى وجودها الأول عند الشاعر العربي الإسلامي الأموي عمر بن أبي ربيعة الذي أجاد في تصوير نفسية المرأة بما قاله على لسانها من أشعار كانت فتحا شعريا في زمانه.

وغير هذا وذاك لم يذهب إلى عالم النفس السّويسريّ (كارل غوستاف يونغ) من نظريّته الخاصّة بتكوين الرّجل الّذي يحمل في ذاته جزءاً أنثويّاً (الأنيمة)، وما تحمله المرأة في ذاتها من جزء ذكوريّ (الأنيم)، وهو الذي يساعد كلا الطرفين أن يتحدث بلسان الآخر، حديثا مقنعا في الشعر، وفي الروايات، وفي المسرحيات. ولا أظن أن مثل هذه النظرة غابت عن الناقد إلا لأنه يريد لدرويش أن يكون نموذجا شعريا لا يضاهى ولا يدانى، ليكون ابن نفسه، مقطوعاً عن الآباء، فكأنه ولد نفسه بنفسه، وخاصة بعد أن حذف ديوانه الأول الذي بدا فيه متأثرا بالشاعر نزار قباني، كما يقرر ذلك صبحي حديدي.

والشيء نفسه يقال عن مزج المرأة بالأرض، فلم يكن درويش مخترعها، فقد سبقه إلى ذلك راشد حسين في قصيدة بعنوان “بلادي”، وكنت قد وقفت عند هذه المسألة في كتابة خاصة، بل ووجد لها ملامح عند نزار قباني أيضا في “أندلسياته” وخاصة في قصيدته “في مدخل الحمراء”، حيث المزج بين ملامح المرأة والأرض على نحو شعريّ لافت وفاتن في نفس الوقت، مع تميّز نزار في هذه المسألة بإضافة البعد الحضاري والتاريخي للعرب الأندلسيين الذين عرفوا فيما بعد بالمورسكيين، كل هذه التجاوزات النقدية في كتاب “مستقر محمود درويش” نابعة باعتقادي أن الناقد كتب كتابه ليحتفيَ وليحتفلَ لا ليقدم دراسة منهجية في شعر صديقه، وهذه على العموم طريقة مشروعة، ولذلك وصفت الكتاب بأنه كتاب انطباعيّ، لا تحكمه المناقشة النقدية التحليلية المنهجية المستندة إلى المراجع والمقولات النقدية المذهبية التي تتغيا أن تضع شعر درويش أو أي شاعر يُدرس في أطرها التي تقترحها.

 ثمة أمور كثيرة طرحها الناقد في تحليل شعر درويش متخذا فيها هذا الجانب من النظرة الكمالية الاكتمالية كأنه يعيد إلى الواجهة مقولات “معجز أحمد” من جديد، وفي ظني فإن هذه المقولات “الحديدية” الجديدة تحتاج إلى وقفات جادة، لإعادة النظر فيما جاءت به من أحكام مطلقة لا تقبل النقد أو النقض، مبثوثة في الكتاب، لعل النقاد والدارسين يستطيعون تليين مواقفها، ووضع فرامل لتهورها، ولكن هل يستطيع أحد كبح جماحها وقد صارت في كتاب، تسعى- كما هو حال كثيرين- إلى ترسيخ ما هو مرسّخ ومستقرّ؟ ربما لن تكون الإجابة بهذه البساطة، لعلمي أن للناقد أيضا، وخاصة المنحاز للشاعر صاحب السلطة الإبداعية، سلطة مضاعفة، تجعل المسألة معقّدة وغير مضمونة النتائج.

مقالات من نفس القسم