محمد العبادي
“السينما ليست فنا يصور الحياة، السينما هي شيء بين الفن والحياة، على العكس من الرسم والأدب، فإن السينما تعطي الحياة وتأخذ منها في نفس الوقت…”
المخرج الفرنسي جان لوك جودار
السينما ليست مجرد صناعة للتسلية، كذلك هي ليست فنا منفصلا عن الحياة، فمنذ بزوغ الموجة الجديدة الفرنسية (التي كان جودار من أهم أعلامها) تغيرت النظرة للسينما ومحتواها، صار من حق المبدع أن يعتبر الفيلم صوته الخاص الذي يعرض عبره تصوره لهذا العالم، وهنا نجحت هبة يسري كمؤلفة ومخرجة لـ”الهوى سلطان” في أن تجد صوتها الإبداعي الخاص، لتقدم فيلما ذا صبغة خاصة ومختلف عن المعتاد في السينما التجارية المصرية، ولحسن الحظ يحقق الفيلم نجاحا كبيرا على مستوى شباك التذاكر، ما يعطينا الأمل في أن يتسع أفق الإنتاج السينمائي المصري لتجارب أكثر جرأة وتفردا في الفترة القادمة، بدلا من الاستسلام لقوالب جامدة ومكررة.. بحجة أنها ما يريده الجمهور.
هو ليس مجرد فيلم حب بسيط، هو فيلم الجيل، جيل “الألفينيين”.. مواليد الثمانينات المساكين.. الذين قضوا حياتهم بين عالمين، عالم طفولتهم وشبابهم الأول بإيقاع هادئ وعلاقات حميمية وموسيقى رائقة، وعالمنا الحالي بإيقاع مجنون وعلاقات متباعدة عبر الانترنت.. وموسيقى صاخبة مزعجة.. جيل يحارب بحثا عن حياته وهويته في عالم قاسي شهد العديد من التغيرات الكبرى التي حدثت وتستمر في الحدوث بوتيرة سريعة، فربما ما شهده هذا الجيل من تغيرات وأحداث كبرى هو أضعاف الأحداث الكبرى التي حدثت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى بداية القرن.
في أحد مشاهد القسم الأول للفيلم ينتظر أيوب (خالد كمال) ظهور خطيبته في حفل خطوبتهما، ولدهشته تدخل خطيبته بطريقة استعراضية وهي مرتدية نظارة شمسية مع صديقاتها اللائي ارتدين باروكات مهرج ملونة، ليتراقصن جميعا على أنغام أغنية لمحمد هنيدي من فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، وسط صدمة أيوب وضحكات أصدقائه يتحول هذا المشهد لمشهد منبئ بالخط الدرامي للفيلم بعد ذلك، فخطيبة أيوب الأصغر سنا قامت بالتعبير عن فرحتها بشكل مناسب لجيلها وحياتها، لكنه بعيد كل البعد عن عالم خطيبها. تفاصيل صغيرة لكن تعبر عن فجوة كبيرة في التفكير والتواصل والقدرة على التشارك في الحياة.
حفل سيناريو هبة يسري بمثل هذه التفاصيل الصغيرة التي تعبر عن معان أكبر بكثير.. يمكننا أن نقول إنه سيناريو مكتوب بمزاج نسائي.. بعناية الأنثى بالتفاصيل وتقديرها الخاص للمشاعر والعلاقات الإنسانية، ويمكن للمشاهد المطلع على الأنماط السردية أن يلاحظ أن بؤرة السرد في الفيلم موجهة تجاه المرأة “سارة” وليس “علياً”.
في أحد المشاهد تشير صديقة سارة إلى علي بأنه “غلبان” لكن الحقيقة أنه ليس الوحيد، فسارة نفسها “أغلب من الغلب” رغم محاولتها للظهور بمظهر القوة واللامبالاه واختبائها وراء طبقة من السخرية والضحك، إلا أن المواقف والأحداث توضح ما تحت هذه القشرة الصلبة، سارة هي الطرف الأكثر هشاشة، هي ليست الطرف الفاعل بل هي رد الفعل، ورد فعلها هو الهروب، الهروب من علاقتها بأبيها، أو الهروب إلى علاقة جديدة مع رامي.
أداء الممثلين كان متميزا في مجمله، تتفوق منة شلبي في دور سارة، بحكم المساحة الأكبر للشخصية في السيناريو وبحكم إجادة منة لأدائها بشكل سهل، قد تبدو شخصية سارة شخصية بسيطة لا تحتاج لمجهود، لكن الحقيقة أن أداء منة شلبي لها هو الذي أظهرها بهذه البساطة، هي شخصية لا تحتاج لأداء حركي كبير في معظم الأوقات، لكنها احتاجت لأداء أكثر “سينمائية” وبساطة، تعبر فيه عبر النظرة واللفتة البسيطة عن معاني كبيرة، أداء يعتمد على التفاصيل البسيطة يليق على فيلم التفاصيل البسيطة، أحمد داوود أجاد في دور علي وبدا كأن الدور مكتوب خصيصا له، سوسن بدر أدت شخصية الأم ببساطة وأضفت بهجة خاصة للفيلم، والظهور الخاص لعماد رشاد كان مميزا ولائقا على الانطباع النوستاليجي للفيلم.
كان للديكور أهمية خاصة في السرد السينمائي للفيلم، أجاد عاصم علي في صياغة ديكور الأماكن المختلفة بما يتفق مع طبيعة الشخصيات والأحداث، يتضح هذا مثلا في بيت سارة الذي امتلأ بإكسسورات وتفاصيل بصرية مرتبطة بجيلها وارتباطها بالماضي (ورق الحائط، التلفزيون القديم، ساعة الحائط على شكل ساعة يد…) يتناقض تماما مع ديكور شقة (رامي) مثلا الذي جاء تجريديا وباردا وغارقا في التفاصيل المعاصرة، كذلك يظهر هذا التناقض بين شاليه “أبو تلات” بتفاصيله الحميمة رغم فقرها، مقارنة بتفاصيل الساحل الشرير الغارق في الصخب البصري.
أجادت نانسي عبد الفتاح في تصوير الفيلم وإبراز ما يشبه البصمة البصرية لكل شخصية، نجد إضاءة خفيضة وناعمة تعبر عن سارة وعلي، تختلف وتتحول لإضاءة أكثر قوة وتحديدا في المشاهد المرتبطة بالشخصيات المغايرة لهما.
رغم الدور الأساسي لأغاني بهاء سلطان وجورج وسوف في الفيلم إلا أن الإعداد الموسيقي لم يكن بالثراء المتوقع، فاكتفى الفيلم بعدد محدود من أغاني بهاء سلطان رغم منجزه الفني الكبير، كذلك لم يستخدم الفيلم “الهوى سلطان” واكتفى بأغنية معاصرة من أغاني جورج وسوف: حلف القمر، وجاء اختيار أغنية شيرين “هتعمل إيه” غريبا.. كونها أغنية فيلم سابق.
قررت هبة يسري أن تصنع فيلما عن الحياة عبر نظرتها هي، فيلم أٌبدع من القلب.. فليس غريبا أنه وصل لقلوب الناس.