ناجية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمية عبد المنعم

الوقت فجر، والصبح يخشى المجيء، ضوء خافت يجتاز الركام حذرًا، وصوت طقطقة منتظمة يخترق سحب الدخان الخانقة، ثمة خطوات ملتاعة تصدر ذلك الصوت، خطوات قدمين حافيتين لامرأة في الأربعينيات، الرداء لا تبدو ملامحه وقد طمس التراب لونه، الشعر مشعث مغبر، والقلب واجف.

نظراتها لاهثة كأنفاسها، تنظر ولا تبصر، همهمات صوتها غير مفهومة، ترفع قدميها الحافيتين من موضع لآخر وكأنهما تبحثان عن شيء.

منذ الوهلة الأولى عرفوها…

نعم عرفناها..

تلك أم سليم، زهرة نساء حيِّنا، عم تبحثين يا أم سليم؟ انتظري، لا تتقدمي

لا أحد ستجدين، فما عاد غيرنا وسط ذاك الركام، قلنا انتظري، أنت أنت، ارفع صوتك، حاول أن توقفها، قل لها إن أبناءها ها هنا بجوارنا…أأنت مثلنا، لا صوت لك؟!

حاذري يا أم سليم..حاذري

هيهات، فلا صوت لنا..

تتلفت أم سليم حولها في فزع، تخطو فوق الركام ملتاعة، تجتاز آلامًا لا تُحتمل بينما تدوس أحد الألواح الزجاجية المختبئة تحت التراب.. تهتف: أبنائي..أين أبنائي؟!

تصرخ بأسماء أبنائها الثلاثة، تنحني متحاشية سقوطًا أكيدًا، ثم تحاول الاعتدال فتبصر إحدى اللعب، تتناولها بأصابع تقطر دمًا وحسرة معًا، وتهتف باسم طفلتها..

تدور عيناها، ثم تنحني ثانية تنبش في الركام كالمجنونة، فملابس تزيح، وبقايا أثاث، وحطام لعب، و..

وأعضاء بشرية مبتورة، بعضها لأطفال والآخر لكبار.

تلتقط أحد الأصابع الصغيرة، وقد لُون ظفره بطلاء أحمر، تنظر إليه في فزع، وتصرخ باسم ابنتها…

وتعود لتنبش في هستيريا، تتسع عيناها في هول بينما ترتجف أصابعها وهي تلتقط ساق طفل لم يتجاوز السابعة، وقد مُزقت بقايا بنطاله، تمسح عن الساق ترابًا مختلطًا بدم، وتضمها إلى صدرها كأنما تضم وليدًا يبكي.

 

إنهم هنا، قلنا إنهم جميعًا بجوارنا، لا تبحثي كثيرًا يا أم سليم، فجميعنا هنا، تحت ذلك الركام، وأبناؤك الثلاثة بيننا.. فعمَّ تبحثين؟

ألم تسمعينا؟! نسينا ألا صوت لنا..

مسكينة أنت يا أم سليم، ستبحثين كثيرًا، وحدك ستبحثين، ووحدك ستتألمين..

فمن بقي، من عاش، وحده سيتألم

ووحدك الناجية..

من بين حيِّنا المقصوف، وحدك الناجية، أصابتنا القذائف جميعًا، وأخطأتك، لتتألمي وحدك يا أم سليم.

جثت على ركبتيها، تحتضن إصبع طفلتها وساق ابنها، منتحبة في مرارة، ولا أحد يجيب نحيبها، تتلفت حولها غير مستوعبة:

أين الناجون، أين زوجي وأبنائي، أين صديقاتي وجيراني، أين حيواناتهم الأليفة، بل أين الحياة؟!

انظري يا أم سليم انظري..

تنتفض على وقع أقدام مسرعة وصرير سيارات تقترب..

ها هم قوات الإنقاذ، جاءوا لينقلونا إلى مثوانا وينقذوك من البحث عن أطفالك، وسيخرجوهم من بيننا.. ألم نقل لك إنهم ها هنا بجوارنا يا أم سليم….

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية،
والقصة من مجموعة “سرير فارغ” صادرة عن دار أكوان وحاصلة على جائزة عبد الغفار مكاوي في القصة القصيرة لاتحاد الكتاب في مصر 2024 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال