سيرة كاشفة لمثقف مختلف

ماجد أبو شرار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جهاد الرنتيسي

ينطوي بعض الظواهر على مفردات تساعد في الكشف عن المناخاتِ الحقيقيةِ لازمنةٍ غارقةٍ في غموضِها كما هو حال تاريخ المنطقة، يوفر الارضيات الملائمة لفهمِ واقعٍ متأرجح، وزوايا مختلفة لقراءة المستقبل.

لا تخلو ظاهرة ماجد ابو شرار، وتجربته مع السياسة والأدب، من خصوبةٍ تتيح التقاط ما يكفي من اشاراتٍ تمس جوهر الفرضيات التي تحولت الى مسلمات، ومعالمَ تؤطر مشهدا مختلفا ما زالت ملامحه غائبة عن المعنيين به.

تراوح صورة ابو شرار بين مساهماتهِ في الصحافة الثقافية خلال ستينات القرن الماضي ودوره في المشهد السياسي الفلسطيني، ويطغى عليها الايقاع المدوي لاغتيالهِ في مطلعِ عقدِ الثمانينات الذي يكتنفه الكثير من اللبس.

حددت مجلة الافق الجديد التي صدر اول اعدادها في مطلع الستينات، اسباب صدورها بالحاجة الشديدة لنهضة ادبية تجسدَ اهوالَ كارثة النكبة، ومنارة تشع من خلالها ومضات النور والخير والجمال، لتوفر مناخات الاشتباك مع افكار العصر، وكان ماجد واحدا من مشتبكين حددوا مواقعهم بين تيارات سياسية تقاسمت المشهد.

قدمته الصحافة الثقافية لجمهورها قاصا قادرا على اثارة الجدل من خلال مساهماته، كان من بين  الذين تناولوا قصصه صبحي شحروري الذي اشار الى “موهبة ليست موجودة عند غيره” من قاصي الافق الجديد، تطرق عبدالرحيم عمر لارتباط قصص ماجد بالمجتمع وحرصه على تعريف القراء بشخوصه، وجاء غالب هلسا بعد عشرين عاما ليشير الى ان الموت الموضوع الاساسي لقصص مجموعة “الخبز المر” التي وصفها بأنها وثائق نفسية واجتماعية، تكشف عن موهبة حقيقية، لم تتح لها ظروفَ حياة القاص ان تبلغ مداها، واسقط د.عادل الاسطة موضوعات القصص على حياة صاحبها.

اعتمد غالب في قراءته على قصص المجموعة التي قدمها يحي يخلف باعتبارها منجز ماجد القصصي ولم تتضمن قصصا اخرى اكثر نضجا من الناحية الفنية نشرت في المجلة، وتضمنتها مجموعة “لا بد ان يعود” التي صدرت بعد عقود، مما حال دون شمول القراءة النقدية بقية القصص، ومن المرجح تغيّر التقييم لو توفرت اعداد نسخ المجلة لغالب حين كتب مقالته في بيروت.

رافق الموهبة التي تحدث عنها شحروري وهلسا موهبة اخرى لم يلتفت لها الذين تناولوا ماجد القاص، وهي التقاط مفاصل التجارب الكتابية المثيرة للاهتمام، والاشتباك معها بنصوصٍ نقدية، كما فعل مع قصة “الزامور” لصبحي شحروري، “جميلة بوباشا” لسيمون دي بوفوار، ورواية “ثقوب في الثوب الاسود” لاحسان عبدالقدوس، التي احدثت سجالا على صفحاتِ صحيفةِ المنار، شارك فيه كتاب الاردن وفلسطين.

أخذ ابو شرار على اعمال عبدالقدوس خلوها من العمق الفلسفي والفكري والاجتماعي، معاينة المشكلة من اعلى نقطة في برجه العاجي المحاط بجيش كبير من المحررين والموظفين والسعاة في مبنى دار روز اليوسف، مما يبقى التعامل مع المشكلات والقضايا مرهونا بقصاصات وكالات الانباء، وانتهى الى مقارنات ضمنية بين القدرة على اقتناص الحدث ـ وهو الفعل الذي يتقنه التجار في العادة ـ وعيش الاديب التجربة بعمق وتجرد وصدق لتكون صورتها اكثر اقناعا للقارئ، ميز في مطالعته بين نموذجي «المثقف التاجر» والاخر «الملتزم» بالقضايا والقيم الانسانية، وحرص على البقاء قدر المستطاع في دائرة الموضوعية عند قراءة النص، اشار الى اثقال شحروري على قالبه القصصي حتى كاد ان يحطمه في قصة الزامور، وتكشف قراءته لبوفوار عن اثر للوجودية في تفكيره خلال تلك الفترة.

ظلت تجربة ماجد القصصية دافعا لتكريس صورة الأديب الذي اختطفته السياسة، ولهذا الدافع مبرراته واسبابه الوجيهة، من بينها ان اخر قصصه المنشورة تزامنت مع تحضيرات اطلاق حركة فتح التي انتمى اليها خلال عمله في السعودية وصار قائدا فيها، لكن غالب هلسا رسم صورة اخرى تتمثل في السياسي المثقف الذي يعيقَ وجودهُ الخطط الشريرة الموضوعة للمنطقة العربية، ووصفه بالمركز الهام الذي تلتقي عنده القوى الديمقراطية الفلسطينية واللبنانية والعربية، وظاهرة الانفتاح السياسي التي لا يحدها ضيق افقي.

اتسع هامش ابداعه الاعلامي على حساب ابداعاته الادبية خلال السنوات العشرين التي عاشها بعد ابتعاده عن القصة والنقد، فلم يقبل المبالغة في الاثارة، او الاستهانة بالحقيقة، التي كان يجنح لها اعلام الفصائل بوعي او بغير وعي، وعمل على فتح افاق جديدة في التجربة الاعلامية.

يشير الذين جايلوه الى تجاوزه فئوية الاطر التنظيمية، وسعيه للتعددية خلال رئاسته تحرير صحيفة فتح اليومية، باتاحته صفحات الصحيفة واسعة الانتشار في ذلك الحين لمختلف الوان الطيف الفصائلي والحزبي.

 تلتقي بعض ملامح تجربة ابو شرار الاعلامية مع بعض ما انجزه غسان كنفاني حين اختار عبارة “كل الحقيقة للجماهير” شعارا لمجلة الهدف ووضعه الى جانب “اللوغو” في اعلى الغلاف رغم الطبيعة الحزبية للمجلة، ففي مذكراته يشير الناقد نزيه ابو نضال الى معارك خاضها ماجد مع ياسرعرفات في وقت مبكر من اجل ايصال حقيقة ما يجري في خطوط المواجهة وعدم استسهال الفبركات والمبالغات في اظهار البطولات وادعاءات تحقيق انتصارات لم تتحقق حتى لو كان الهدف منها رفع المعنويات واثارة الحماسة .

 للوعي الشعبي حضوره في التجربة، عمل ماجد على ايجاد اليات النهوض به من خلال استقطاب الشعراء الشعبيين الذين برزوا في ذلك الوقت، يعيد الشاعر “ابوعرب” الذي تحول فيما بعد الى نجم غناء ـ يتداول الفلسطينيون اشرطته في كافة اماكن تواجدهم ـ فكرة عمله في الاذاعة الفلسطينية الى ابو شرار مما اتاح لاجيال فلسطينية الاقتراب من تراث لا يعرفه بعضها .

ثمة مشتركات أخرى بين ماجد ابو شرار وغسان كنفاني تتجاوز طريقة استشهادهما، او اشتغالهما بالادب والاعلام، ورحيلهما في وقت مبكر، فقد وجد الاول في الثاني ما يعبر عن قناعاته ببعض القراءات، وسعى ضمنيا لتوظيفها في خطابه السياسي ولا سيما المتعلق ببدايات ما عرف بالثورة الفلسطينية.

تعامل كنفاني مع بدايات حركة فتح القادمة من محميات الخليج البريطانية باعتبارها “ثوار السنتو” وجادل لتثبيت وجهة نظره سواء بالكتابة في الصحف او الدخول في اشتباك مع الظاهرة الجديدة والقائمين عليها وتطرق ماجد في مقالة نشرتها مجلة الطريق اللبنانية مطلع الثمانيات لهوية تلك الثورة، حيث اشار الى مشروعية الشكوك، التي جاءت بفعل العجز عن تقديم هوية سياسية واضحة تحدد معسكر الاصدقاء والاعداء حتى العام 1970، وللعجز عن تقديم الهوية تبعاته التي تظهر في اشارة ابو شرار الى الذين تسللوا لحركة التحرر الوطني الفلسطينية ضمن ايديولوجية معادية للتقدم ويغلفون انحرافاتهم بتعبيرات قومية ووطنية ودينية احيانا.

تحدث عن التجربة الايرانية باعتبارها مصدر الهام، يمكن الاستفادة منه في استنباط لغة سياسية جديدة ومتواضعة ” نتحدث فيها الى جماهير امتنا العربية لنعالج مسألة التعايش بين الدين والايديولوجيات الاخرى” واشار في هذا السياق الى تعايش حزب تودة مع الامام الخميني باعتبار هذه العلاقة نموذجا يستحق الدراسة لدفع الجماهير نحو التمييز بين الدين الذي امتطاه الاستعمار والرجعيون والمستغلون طوال قرون طويلة لخدمة مصالحهم والدين الذي تبلوره الثورة الاسلامية، ومن خلال هذه النظرة وضع على رأس مهام الثورة الفلسطينية العداء لامريكا والرجعية والمستغلين.

تعيدنا هذه اللغة الى ضرورات تحديد هوية ابو شرار الفكرية، صنفه اهالي “عيّ” حين ذهب اليهم معلما بالمغضوب عليه من قبل الحكومة، يعود تصنيفهم الى انهم اعتادوا على قدوم المغضوب عليهم للتدريس في المنطقة، وهي الصفة التي كانت تطلق على الشيوعيين في ذلك الزمن، رافقه تصنيفه الشيوعي الى حركة فتح التي تدرّج فيها حتى عضوية لجنتها المركزية، فقد كان في واجهة التيار اليساري الذي تشكل في الحركة، ومن ابرز الاصوات القيادية المحسوبة على الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، واعلن تأييده لمشروع الدولة المستقلة بعد حرب تشرين 1973 ـ تردد في اوساطه انه تراجع عنه في سنواته الاخيرة ـ وفي كل هذه المناخات ما يوحي بشيوعية مضمرة.

عبر عن هذه النزعات بوضوح في مقالته “افكار لينين والعملية الثورية الفلسطينية” حيث يشير الى حتمية وصول الفلسطيني المكافح والمناضل الى تحقيق استقلاله الوطني فوق ارضه “مهتديا الى حد كبير بمبادئ ماركس ولينين” لكن الذين عرفوه عن قرب وساجلوه في افكاره وقناعاته يقللون من وجاهة احتمال الانتماء الحزبي السابق للانتماء الفتحاوي، نفي الكاتب والسياسي عبدالعزيز السيد الذي تمتد علاقته بماجد الى بدايات ستينيات القرن الماضي جازما انتماءه للحزب الشيوعي الاردني لكنه اشار في شهادة له تضمنها كتاب اصدره بعنوان “ماجد ابو شرار .. مسيرة لم تنته بعد” لصداقات ابي شرار الحميمة مع اساتذته وزملائه الشيوعيين وحرصه على الاحتفاظ بهذه الصداقات وحرصهم عليها .

لم يقلل جدل الانتماء الحزبي السابق او عدمه من انحياز ابو شرار لمنهج التفكير العلمي، تبنى ادواته عند قراءة المشهد السياسي خلال سنوات الحرب الباردة، ليتمكن من بناء الرؤى الاستراتيجية، وتحديد معسكري الاعداء والاصدقاء.

آمن ماجد بالكفاح المسلح، واعطاه الاولوية على الأشكال النضالية الاخرى،  كما هو واضح من المقالات والادبيات التي خلفها وراءه، مما يفسر اهتمامه بالبنية العسكرية لحركة فتح وتطوير الكوادر خلال توليه مهمة المفوض السياسي لقوات العاصفة، ومشاركته في قيادة جهاز الارض المحتلة، وفي المقابل كان يرى في الرجعية العربية نقيضا لهذا الخيار، ويشير الى تخطيطها لاجهاض ظاهرة البندقية وتكريس تطويع المنطقة للامبريالية والكيان الصهيوني.

تعامل بحذر مع التسويات السياسية المطروحة حتى السنوات الاخيرة من حياته حيث اشار في مقالة “الصراع العربي الصهيوني في المرحلة الراهنة” التي  نشرتها مجلة شؤون فلسطينية عام 1978 الى خطأ الاعتقاد بأن “ما نشهده من تحركات الآن يستهدف الوصول الى تسوية للصراع” مع الكيان، مؤكدا على ان ما يجري “يهدف الى تغيير ملامح المنطقة العربية وبالتالي تحديد هوية القوى التي ستسود في المنطقة” ويطرح سؤالا من ارضية الطرف المتحدي للخطر “هل تسود القوى الفاشية اليمينية السوداء التي تشكل اداة طيعة في يد امريكا واسرائيل” لتوجه ضربة للقوى الديمقراطية العربية كما حدث في اندونيسيا وتشيلي ام تتمكن القوى الديمقراطية من تجاوزِ ازمتها وخوضِ معركة الدفاع عن نفسها وتثبيت وجودها والقفز الى مرحلة النهوض والسيطرة.

بين السمات النضالية التي حددها لتلك المرحلة “اسقاط مخطط تجزئة المنطقة الى دويلات الطوائف” وصولا الى اجراء تغييرات جدية على الخريطة السياسية، وابدى خلال مشاركته في ندوة “الفكر الطائفي في مواجهة المشكلة الطائفية” التي نظمتها مجلة فكر عام 1981 اهتماما بطائفية المشروع الصهيوني.

يرى ماجد ان التحول الجذري الذي طرأ على السياسة الاستعمارية للراسمالية مع تحولها الى امبريالية، ونزعة الراسمال المالي للسيطرة على اكبر جزء من الارض بشتى الاساليب والوسائل اديا الى ظهور العديد من الحركات الاستعمارية العنصرية المرتبطة باحد مراكز الراسمال المالي، والى ازدياد الحاجة لعزل اليهود في فلسطين، لاستغلالهم في حفظ علاقة الراسمال المالي بالارض العربية.

يشير في هذا السياق الى سعي الصهيونية لابراز وابقاء اشكال متخلفة للمجتمع العربي، ومنع وعرقلة اي تراص يسمح بنمو القوى المنتجة وبالتالي كان من الطبيعي ان تبحث الصهيونية عن اي تمايز ديني او قومي او مذهبي لابرازه والتركيز عليه لاستخدامه في مخططاتها.

يخلص في مناقشته لهذه الفكرة الى ان المشروع الصهيوني كمشروع امبريالي يشكل ثكنة هائلة لقمع حركة التحرر العربية واعاقة وحدتها وتطورها الوطني الديمقراطي وسيبقى يبحث بلا كلل عن الثغرات الموجودة في النسيج الوطني او القومي، ليعمل بها تمزيقا وتشتيتا للطاقات الوطنية والقومية، مما يتطلب اليقظة في مواجهة النشاطات الطائفية، العرقية او المذهبية.

تظهر الشهادات التي تتناول علاقته بالكتاب والمثقفين الذين كانوا يفرون من بلدانهم الى بيروت بحثا عن النجاة من انظمتهم او مساحات اوسع للتفكير، وارتباطاته بمثقفي اليسار الفلسطيني والعربي مدى انحيازه لفكرة الحرية،  كان لافتا للنظر أخذ معظم هذه العلاقات منحى الرعاية والدعم و التماهي في توحيد المواقف وتصليبها لمواجهة الهيمنة الثقافية ليحاكي ما تيسر من سيرة غرامشي .

 

مقالات من نفس القسم