محمد السعيد
كنت استوقفه، أحيانا، عند. نزوله سلالم النزل، لأسأله في مرح عن أخباره، وكان يجيبني وهو مندهش، غير مصدق إنه مصاب بحالة تبلد عظيمة جداً. وكان يضحكني رده، ويضحكه ضحكي. ولم أكن أسأل نفسي ولا أسأله عن سبب ذلك التبلد العظيم!. كنت أحبه وأعتبر تعبيراته استثنائية مثله.
2
لم أشك لحظة واحدة في وفائه، كما لم أشك لحظة واحدة في نفسي، ففي حياتنا قليل من الإحباط وكثير من القوة، لهذا، ربما، كنت أشعر بالغرور!. كتبت، ذات مرة، علي جدار النزل (إلي الجحيم أيها العالم)
لكن غالبية سكان النزل، لم يلتفتوا لما كتبت، وقدروه خفة وطيشاً!.
٣
كنت أراه عالم فيزياء، يخرج من بين مختبراته وأبحاثه، ليقابلنى، أنا بالذات، وسط العامة.
عرفت كوبرانيكوس وإسحاق أزيموف عبر أحاديثه، كما سمعت، لأول مرة، عن مجرة درب التبانة. لم أكن أعتقد ألبته أننا سنفترق، إلا لأسباب تتعلق بالبحث العلمي أو حاجة الوطن!.
هكذا بدت حياتي، مع ما تحمل من علاقة إشارية إلى الواقع، أما هو، وبعد انتهاء أيام الدراسة الجميلة، فقد بدا أكثر تفهما للواقع، وتحول، فجأة، وبدون مقدمات، إلي تاجر صغير، يفترش الرصيف، ببضاعة لا تتعدي قيمتها بضعة مئات. أما أنا فأدمنت التحليق بأجنحة مجروحة!.
٤
تمخضني العالم مرة جديدة، فوجدتني أبكي بحرقة، علي رصيف مجهول، بدون هوية، وحيداً بلا أمل. كنت أشعر بالانكسار الروحي، فلا هو أصبح أينشتين، ولا أنا صرت فيللينى!.كنت كمن يقف وراء سور عظيم، يفصله عما يريد. ولما لم أستطع تسلق السور، لم أجد أمامي إلا البكاء. لكن مع كثرة البكاء، ولعنتي المتكررة، خطر لي، فجاءة، عظمة المهندس الذي صمم السور، وقدرة التصميم غير المحدودة علي هزيمة الوقت. عندها أدركت لأول مرة، سر قوتي، أشرق الوجود أمام وجهي من جديد، استطعت، بعد غياب، أن أتقبل الحياة والناس.
٥
أخبرني إنه وجد ما كان يبحث عنه!، وأنه علي أعتاب مرحلة جديدة، وأن العقبة الوحيدة هي أباه الذي يرفض زواجه من فتاة أحلامه. كان مضطرباً وهو يحكى. قال إنه استضاف أسرتها في أحد المصايف!.
استشعرت صلابة الأب معه، علي غير عادته، كما استشعرت استغلال أسرة محبوبته للموقف، فأخبرنى، إنه يتكفل بالإعاشة أيضاً!.
كنت أشفق عليه، ولم أجد ما أقول له سوي تمنياتي له بالتوفيق. لكنني توقعت نهاية هذا العلاقة سريعاً، مسألة وقت!.
٦
لم تنتهي قصته هكذا بدون أوجاع، كما لم تنتهي علاقتي بحبى الأول بدون ألم كاد أن يفتك بي، بعد أن إبتلعت نصف شريط من عقار الأنافرانيل.
حاول بعض المقربين إقناعه بالعودة لعمله الجديد، قبل أن يصدر قراراً بفصله. كان يائسا تائها يتخبط!، إلي أن قابل أحد الشيوخ، ونصحه بمواصلة الحياة!.
٧
كان يجلس إلي مكتبه حين رن جرس الهاتف، ليجد فتاة نصف كلامها بالإنجليزية، انجذب أكثر، وبسرعة، دار حوار، وراء حوار، سؤال بعد سؤال. هل كانت صدفة ؟
أنا أيضاً قابلتها صدفة!، جاءت لرؤية أحد معارفها حيث أدرس. ا
حدث نفس الانجذاب، سؤال بعد سؤال، نسينا كل شيء، جلسنا نشرب الليمون، لم نشعر بالوقت، حتي باغتنا صباح ديك المساء اللعين. كانت يدي في يدها عندما وعدتني باسمة أن تعود، لكنها وإلى الآن لم تعد!
8
هل يحسب الزمن بما تقدره لنا عقارب الساعة؟ أم يحسب الزمن بمقياس آخر؟ زمن آخر، أقوي من الوقت.
كنت أمام البحر أتامل صورهم، وهي تثب أمام ذاكرتي، كما تثب الأمواج المتلاحقة، فوق بعضها بعض.
من بعيد جاء طائر نورس كبير، وظل يحلق كأنه غريب يستطلع المكان، شعرت بقوة جديدة في جسدي. استدرت تاركاً البحر خلفي، وعبرت الشارع متجهاً نحو المدينة.