أن تكون يهودياً

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ألبيرتو مانغويل

ترجمة: نزار آغري

نادراً ما أقرأ كتباً تحمل عناوين مثل “الهوية الفرنسية”، أو “مقال عن الرجولة”، أو “ماذا يعني أن تكون امرأة”. لهذا السبب ترددت كثيراً، قبل بضع سنوات، في التقاط نسخة من مقالة آلان فينكيلكراوت “اليهودي الخيالي”. هناك تلك العلاقة الذاتية الغريبة التي تستحضرها الكتب أحياناً. تذكرت، فجأة، حدثاً كنتُ نسيته منذ زمن بعيد. في ظهيرة أحد الأيام، عندما كنت في السابعة من عمري، في الحافلة التي كنت استقلها عائداً من المدرسة الثانوية الإنكليزية في بوينس آيرس التي كنتُ بدأت الالتحاق بها، صاح بي صبي لم أعرف اسمه قط من المقعد الخلفي قائلاً: “مرحباً، أيها اليهودي! إذن، والدك يحب المال؟”. أتذكر أن السؤال أصابني بالحيرة إلى الحد الذي جعلني لا أعرف ماذا أجيب. لم أكن أعتقد أن والدي كان مولعاً بالمال بشكل خاص، ولكن نبرة الصبي كانت تحمل إهانة ضمنية لم أستطع فهمها. لقد فوجئت، قبل كل شيء، عندما أطلق علي لقب “يهودي”. كانت جدتي تذهب إلى الكنيس، ولكن والدي لم يكونا متدينين، ولم أكن أرى نفسي قط من منظار الكلمة التي اعتقدت أنها مخصصة لكبار السن من جيل جدتي. ولكن بما أن الألقاب التي تطلق علينا تنطوي على تعريف، فقد اضطررت في تلك اللحظة (رغم أنني لم أكن أعرف ذلك آنذاك) إلى الاختيار: إما أن أقبل هذه الهوية الشاسعة الصعبة أو أن أنكرها.

يتحدث فينكيلكراوت في كتابه عن لحظة مماثلة ويعترف بكونية مثل هذه التجربة. ولكن موضوعه ليس ميراث الكراهية. يكتب فينكيلكراوت: “أنا نفسي أود أن أتناول وأتأمل الحالة المعاكسة: حالة طفل، مراهق، لا يفتخر فقط بكونه يهودياً بل ويسعده أيضاً، وقد بدأ يتساءل شيئاً فشيئاً عما إذا كان هناك سوء نية في العيش بسعادة كاستثناء ومنفى“. إن هؤلاء الأفراد الذين يحملون هوية مفترضة وورثة معاناة لم يتعرضوا لها شخصياً، يطلق عليهم فينكيلكراوت، الذي يتمتع بمهارة في استخدام الكلمات العادلة، وصف “اليهود المتخيلين” أو “يهود الكراسي الوثيرة”.

لقد دهشت من مدى فائدة هذه الفكرة في معالجة سؤال يقلقني: كيف يؤثر إدراكي لذاتي على إدراكي للعالم من حولي؟ ما مدى أهمية أن تعرف آليس من هي (الطفلة الفيكتورية التي يدركها العالم) عندما تتجول في الغابة الزجاجية؟ من الواضح أن هذا مهم للغاية، لأن هذه المعرفة تحدد علاقتها بالمخلوقات الأخرى التي تصادفها. على سبيل المثال، بعد أن نسيت آليس من هي، يمكن أن تصبح صديقة لظبي نسي أنه ظبي. “وواصلا السير معاً عبر الغابة، وذراعاها متشابكتان بحب حول عنق الظبي الناعم، حتى خرجا إلى حقل مفتوح آخر، وهنا قفز الظبي فجأة في الهواء، وحرر نفسه من ذراع آليس. صاح بصوت زاخر بالبهجة: “أنا ظبي!”. “وأنت طفل بشري!” وفجأة ظهرت نظرة من الفزع في عينيه البنيتين الجميلتين، وفي لحظة انطلق بعيدًا بأقصى سرعة.”

حول هذا المفهوم للهوية المصطنعة، عمل فينكيلكراوت بجد على صياغة سلسلة من الأسئلة حول ما يعنيه أن تكون يهوديًا (أو، أود أن أضيف، أن تكون آليس أو ظبياً)، وبما أن كل تعريف هو قيد، فقد رفض إعطاء إجابات نهائية لهذه الأسئلة. إن جوهر استجواب فينكيلكراوت هو عبارة مبتذلة مفادها أن اليهود موجودون، وأنهم مهما كانت هويتهم، فردياً أو جماعياً، فإنهم يتمتعون بحضور لم تتمكن حتى الآلة النازية من محوه. وهذا الوجود ليس من السهل تقبله، ناهيك عن تصنيفه. كتب هاينريش هاينه: “اسمع يا دكتور، لا تحدثني حتى عن اليهودية، فأنا لا أتمنى ذلك لأسوأ أعدائي. إنها ليست ديناً، بل مصيبة”. إن الصرخة “لماذا أنا؟” التي يطلقها كل يهودي مضطهد، يلتقطها اليهودي الخيالي بتنهيدة من الملل. يعترف فينكيلكراوت، آخذاَ نفسه كمثال، بأنه من ناحية يعلن رغبته في أن يكون يهودياً، ومن ناحية أخرى ينزع عن نفسه صفة اليهودية، ويحول نفسه إلى “آخر” ويصبح رسولاً لرفاقه من غير اليهود: في هذا أتعرف على نفسي بوضوح. وعندما يشير والداه إلى المحرقة، يرد بفيتنام؛ وعندما يذكران معاداة السامية، يشير إلى أنه لا يوجد جامعو قمامة يهود في فرنسا. “لماذا أنا؟” يصبح “لماذا لست شخصاً آخر؟”.

في هذه الغابة الزجاجية يفقد اليهودي الخيالي كل إحساس بالانتماء. بالنسبة لهذا اليهودي، لا يوجد “نحن” يهودي ممكن. هذا “نحن” هو مجتمع سري من المؤامرات الشائنة والخداع. إن اليهود الخياليين يرفضون الهيمنة على العالم، بل إنهم يرفضون التضامن، ويعلنون: “ليس هناك وجود لكلمة “نحن”، لأن اليهودية شأن خاص  بالرغم من أنها اليوم ترى نفسها على نطاق واسع باعتبارها جماعة. ولكن لماذا، يتساءل فينكيلكراوت بوضوح، يجب أن يظل التعبير الجماعي “حكراً على السياسة دوماً؟“، أي أن يكون كل ما لا يمثل “أنا” مسألة قوة أو مسألة دولة؟ لماذا لا يستطيع اليهودي أن يكون “أنا” دون أن يختبئ أو يدعي الانتماء إلى الملايين الذين ذُبحوا في الماضي؟ هذه مياه خطيرة. ولعل الأمر لا يتعلق بضرورة تذكر الاضطهاد الذي تعرض له أجدادنا، بل بالوهم الذي يترتب عليه في كثير من الأحيان. إن أولئك الذين يحتقرون رفاقهم الذين يقترفون “نسيان التاريخ” ينسون بدورهم أن هويتهم الهشة ترتكز على “وهم التاريخ”. يشعر اليهود الأصغر سناً أحياناً بأنهم ليسوا أكثر من متفرجين. وعندما كنت أشاهد جدتي وهي تشعل شموع السبت وتتلو الصلوات الطقسية بينما ترسم يديها دوائر متعارضة عبر الضوء المذهول، لم أشعر بأي ارتباط بالأماكن المظلمة القديمة المليئة بالغابات وضباب الشتاء. إنني أعرف أن جدتي كانت تعيش في ثقافات قديمة، ولكنها كانت تعيش في ثقافات أخرى. هي كانت جدتي، نعم، ولكن وجودها بدأ وانتهى في حاضري، ونادراً ما كانت تتحدث عن أسلاف آخرين أو عن المكان الذي ولدت فيه، لذلك فإن قصصها القصيرة المجزأة في أسطورتي كانت أقل تأثيراً على حياتي من المناظر الطبيعية التي رسمها الأخوين غريم وآليس.

إن كانت ثمة وصية مركزية لليهودية، كما يزعم فينكيلكراوت، فلا ينبغي أن تكون “مسألة هوية، بل مسألة ذاكرة: لا لمحاكاة الاضطهاد بل لتكريم ضحاياه”، لا لجعل الهولوكوست  مبتذلاً، حتى لا يُحكم على اليهود بالموت المزدوج: بالقتل والنسيان. وحتى هنا، كانت صلتي بتلك الأهوال غير مباشرة: على حد علمي، لم نفقد أي عائية قريبة على يد النازيين. لقد هاجر والدا أمي وأبي قبل فترة طويلة من الحرب العالمية الأولى إلى إحدى المستعمرات التي أنشأها البارون هيرش للمنفيين اليهود في شمال الأرجنتين، حيث كان رعاة البقر الذين يحملون أسماء مثل إيزاك وابراههام يصرخون على ماشيتهم باللغة اليهودية. ولم أتعلم عن الهولوكوست إلا بعد أن بلغت سن المراهقة، ولم أتعلم ذلك إلا من خلال قراءة أندريه شوارتز بارت وآنا فرانك. فهل كان هذا الرعب إذن جزءاً من تاريخي أيضاً، تاريخي الذي يتجاوز نداء الإنسانية المشتركة؟ وهل كان اللقب الذي أُلقي عليّ بإهانتي في تلك الحافلة المدرسية النائية يمنحني الجنسية المتجذرة في ذلك الشعب القديم المحاصر المتسائل العنيد الحكيم؟ هل كنتُ ـ هل أنا  الآن، جزء من شعب؟ هل أنا يهودي؟ من أنا؟

إن آليس، الطفلة البشرية، والظبي، أحد الطرائد، يرددان هذا السؤال الأخير، ومثلي، يميلان إلى الإجابة عليه ليس بكلمات ولدت مما يعرفانه عن نفسيهما، بل بكلمات صاغها أولئك الذين يقفون خارجاً. إن كل مجموعة تتعرض للتحيز تقول هذا: نحن اللغة التي نتحدث بها، نحن الصور التي يتم التعرف علينا من خلالها، نحن التاريخ الذي حُكِم علينا بتذكره لأننا مُنعنا من لعب دور نشط في الحاضر. ولكننا أيضاً اللغة التي نشكك بها في هذه الافتراضات والصور التي نبطل بها الصور النمطية. ونحن أيضاً الزمن الذي نعيش فيه، الزمن الذي لا يمكننا أن نغيب عنه. لدينا وجود خاص بنا، ولم نعد على استعداد للبقاء خياليين.

………………………………

ألبرتو مانغويل( 1948) الكاتب الشهير، الأرجنتيني المولد الكندي الجنسية، المترجم، المحرر، الروائي، كاتب المقالات و..…صديق خورخي لويس بورخيس. أشهر أعماله: تاريخ القراءة، مع بورخيس. يوميات القراءة. المكتبة في الليل.

هذا المقال مستل من كتابه، غير المترجم للعربية: Areader on reading

 

مقالات من نفس القسم