عن لهب شمعة باشلار والنار في سينما تاركوفسكي

تاركوفسكي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن سلامة

عُرف الفلاسفة ما قبل سقراط بفلاسفة الطبيعة، وكان كل ما يشغل فلاسفة الطبيعة هو تفسير طبيعة الحياة، النظام الكوني وغموضه وكيفية تكوينه، منهم من رأى بأن جميع معطيات الكون تكونت من الماء، منهم من رأى التراب هو المكون الأساسي ومنهم ديموقريطس الذي قال بأن جميع معطيات الكون هي نتاج لتجمع الذرات ومن ثم تَفَككها وتجمُعها من جديد، أما هيراقليطس وهو من عُرف بالرجل الذي خرج للبحث عن ذاته فيرى أن المكون الأساسي لعناصر الكون هو النار، فالنار لها القدرة على التدمير وبذلك فهي تعطى الشيء شكلًا جديدة، كينونة جديدة في كل مرة وكأنها تعيد بعثه، وآمن هيراقليطس أيضًا بأن الكون بجميع معطياته هو في حالة تغير مستمر، فالنهر الذي ينزله الإنسان لا يبقى على طبيعته السابقة في كل مرة فمياهه تتغير في كل مرة وكذلك حال الطبيعة..

وربما كان هيراقليطس بنظرته الثاقبة هو أكثر فلاسفة الطبيعة معرفة بالجوهر والكينونة فهو بذلك يرى في النار صورة شعرية تعيد خلق الأشياء وتعطيها بدورها طبيعة وسمات مختلفة وبعدًا جديدًا أيضًا..

في مُنجز “لهب شمعة” للكاتب والفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار يتغنى باشلار بطبيعة اللهب، وربما يتبنى ما رآه هيراقليطس من قبله تجاه اللهب وطبيعته الشعرية في إعادة خلق الأشياء وإضفاء معنى وبعد جديد لها، فيرى باشلار بأن للهب قدسية خاصة في ظهوره فيكون حينها جديرًا بالتأمل وما على المرء سوى الانشداه بما يحمله اللهب من هيبة وتجلي، أما عن اللهب البسيط الناتج عن احتراق شمعة فهو لهب ذو طبيعة حُلمية، حميمي، ملهم وشاعري..

بتتبُع مشروع الروسي أندريه تاركوفسكي نرى في كل أفلامه بدءًا من  Andrei Rublev ومرورًا ب Solaris- Mirror-Nostaliga- Sacrifice النار كعنصر رئيسي للانفعال، عنصر رئيسي للانفعال والتقدم للأمام والتقدم لا يعني هنا تحريكًا للحدث ذاته في الفيلم، بل هو انفعال جوهري في نفس كل من شخوص الفيلم، ارتقاء لمرحلة أعلى من السمو وعلى عكس ما تفعله النار حينما تضفي بعدًا جديدًا يشيع استخدام تاركوفسكي للماء في فيلمه Stalker  فتضفي الماء في كل مرة معنًا جديد فمرة تكون مطهرة لشخوص الفيلم ومرة أخرى حينما تهيمن وتستحوذ على المشهد وفي الخلفية صوت لقطرات الماء فقط فربما حينها توحي بالخراب، التهالك والتداعي..

في كتاب تاركوفسكي “النحت في الزمن وفي لقاءاته أيضًا يعبر بدوره عن كرهه للرمز وخاصة إن كان أحادي، خارج السياق وبذلك فالتفسير الأحادي للرموز في سينما تاركوفسكي هو إلغاء لصاحب العمل وخروج عن مساحة التأويل، ولذلك فالماء في فيلم المرشد تعبر بدورها عن حالة لحظية وعابرة لا يمكن الشعور بها إلا بالشعور في البدء بما يعتلي شخوص الفيلم وصراعاتهم النفسية، أما عن النار في سينما تاركوفسكي فلها مدلول أسمى وهي جديره بالتأمل والملاحظة لما تحمله من معان وأبعاد..

سيرجي آيزنشتاين في مذكراته يقول:

“أليس من الواضح أنه يجب على المخرج عند تصوير حريق موسكو مثلاً، أن يكون قادراً على أن يقدم لنا العواطف المشتعلة في صدور شخصياته، ونار وطنيتهم بنفس الإقناع الذي يصور به النيران المشتعلة في عاصمتنا القديمة؟

إن العجز عن تقديم هذا الجزء سيؤثر قبل كل شيء في تلك القوة العاطفية للتجربة..

التمثيل يعتبر أكثر العناصر أهمية في الكشف عن الموضوع ومع ذلك فإن هذا العنصر لا يصبح مؤثراً الا اذا ساندته القوى المتحدة للعناصر الأخرى المكونة للموضوع ويجب أن تظهر جميع العناصر بأفضل إمكانياتها وفي توافق لتكوين الكيان كله”

وبالرجوع إلى فيلم المرآة وهو أكثر أفلام أندريه تاركوفسكي ذاتيه يحضر من الذاكرة فورًا صورة الكوخ المحترق والأم التي تراقبه في هدوء وصمتٍ تام، في حزن وألم عميق، هنا يكمن المعنى والكشف الذي نادى به آيزنشتاين وهو عدم الاقتصار على الصورة، على الحريق الذي يتجلى في الكوخ، فالحريق هو حريق في النهاية ولا يعبر عن شيء آخر ولكن برصد الأم المنكسرة قِبلًا فحينها تكون تلك النيران معبرة عن مأسآتها هي، فتلك النار هي اللهيب الذي يختلج صدرها من هول عذاباتها، وهو لهيب افتقاد زوجها أيضًا، وربما لا يعرف المرء ما يعتليه إلا حين يراه وحين رؤيته يفهم ألمه، يتذكره وكانت النار هي الألم الذي تنكره الأم حتى انعكست وتجلت لها في الكوخ المحترق، يعقب ذلك المشهد صورة لطفل ينتقل من حاضره إلى ماضٍ وربما حاضره هو في ذاته ماضٍ للأم نفسها، ويبدأ حينها تداعي لحلم تراه الأم المنكوية بالنار، هنا كانت النار باعثة على الحلم، محفزة للأم بأن تزور عالمها الذي تنكره، واللهب يعبر هنا عن الحياة والموت، عن الحياة التي يبعثها في قلب الأم وفي نفس الوقت فهو هلاك للكوخ وهو يحترق أمام عينيها ..

في وصف ذلك ربما نرجع إلى قول باشلار ” إن تأمل اللهب يخلد حلمًا أوليًا فهو يفصلنا عن العالم ويوسع عالم الحالم، اللهب نحيف وهزيل وينازع من أجل أن يصون كينونته بينما يذهب الحالم بعيدًا مضيعًا وجوده الخاص، إن حلم يقظة بالضوء الصغير يشعر الحالم بأنه لدى نفسه وأن لا وعي الحالم هو منزله”

ويرى باشلار أن أحلام اليقظة الحميمية التي ولدتها النار ربما تذهب بنا إلى المأساة..

ويقول باشلار في كتابه أيضًا ” لم يعد السفر إلى المكان الآخر إلا عبر اللجوء للصورة وهي في حركتها الإبداعية، فالخيال لا يتم تحفيزه إلا إذا تمت محاولة تغيير الشكل- الصورة الأولية وفي ذلك يكمن مفهوم الصيرورة”

وبذلك يرى باشلار أن الصورة ليست مجرد شكل جامد فقط بل هي جوهر، وبذلك فهي تحوي بدورها عالم أوسع من الكلمات يذهب إلى أبعد من الصورة نفسها..

عقب مشهد الحلم باللونين الأبيض والأسود لامرأة عجوز تنظر في المرآة وبعيدًا عن تأويلات المشهد ينتقل تاركوفسكي من الحلم إلى الحاضر، ما يفصل بين مشهد الحلم وصورة الحاضر هو صورة ليدين تبدوان وأنهما تتدفيان بالنار، هنا الصورة نفسها تبدو خارج السياق ولا تعني شيئًا في ذاتها ولكن كانت فاصلة بين عالم الوهم والأحلام وعالم الحقيقة، وهنا يتجلى مفهوم السفر عند باشلار ويتجلى في ذلك المشهد حينما تدعمه شعرية النار، ويعقب المشهد صوت الراوي “أن الكلمات هي مجرد شيء رخو لا يمكنها التعبير عن أي شيء”..

هنا عبرت النار مرة أخرى عن النزعة الحلمية التي رآها باشلار فيها فهي تذيب الفارق بين الحلم والحقيقة، وتدعم رؤية تاركوفسكي أن له المقدرة على النحت في الزمن، النحت هو سفر وفيه يكون الزمن هش، والنار بفصلها بين عالم الأحلام والواقع في كل مرة هي بذلك تعبر عن شعريتها وحميميتها، فهي قادرة على الذهاب بالمرء إلى الوهم ثم العودة به إلى حاضره، وبذلك تكون النار في الأخير هي محركة الحدث فهي ترتقي بالأم إلى مرحلة عليا من السمو ومن تقبل الذات فتحتم عليها مواجهة مخاوفها..  

يرى باشلار أيضًا في كتابة صورة أخرى لشعرية النار وتجلي من نوع آخر فيصف عمودية اللهب وارتفاعه لفوق بأنه أشبه بقربان وتجلي للكيان الأعلى حينما يتجه إلى السماء، فارتفاع اللهب لفوق بشكل حتمي هو حنين إلى الارتقاء والتسامي لأعلى..

ولم يقتصر مفهوم الارتقاء والتسامي عند تاركوفسكي بأن يصبح مجرد فعل معنوي يحرك الجوهر فقط بل ينعكس بدوره على الجسد أيضًا، فيرتقي الجسد نفسه إلى مرحلة أعلى فيفقد الجسد ثقله وجاذبيته ويتجه لأعلى متناسيًا خواصه الفيزيائية، وشاع ذلك مرات عدة في سينما تاركوفسكي، في مشهد الحلم للأم، في فيلم سولاريس عندما يلتحم كيلفن مع حبيبته التي خلقها الوهم ويدور العالم كله من حولهما وكأنهما مركز الأرض، وحين يقدم ألكساندر في فيلم تضحية قربانًا للرب بالتحامه الجسدي مع ماريا الخادمة ليخلص العالم من الخطر المحدق به فيرتقي ويرتفع جسدهما في الهواء، رافق تلك المشاهد موسيقى باخ أيضًا والتي كان يرى تاركوفسكي أنها موسيقى لها طابع إيماني شديد الخصوصية..

شاع عند تاركوفسكي أيضًا فعل التضحية – تقديم القربان عن طريق النار فتم استخدامه في آخر فيلمين له وهما نوستاليجا وتضحية..

ففي نوستاليجا يقدم الثوري دومنيكو نفسه كتضحية لتخليص العالم من شره وبعد أن يلقي خطابه في ميدان كبير عن كيف تغيرت فطرة الإنسان وكيف سيطر على العالم الشر يحرق نفسه بالنيران وسط جمع كبير من الناس ففي ظنه أنه عند تقديم نفسه كأضحية للرب سيتم تخليص العالم من شروره، ولكن يتجلى ذلك الفعل بشكل أكبر في فيلم تاركوفسكي الأخير تضحية أو ما يعرف بقربان..

فآلكسندر يُوحى إليه أنه ليخلص العالم من الخطر المحدق به لابد أن يضرم النيران في منزله وفي المشهد الأخير يشعل آلكسندر النيران في المنزل ويركع أمامه موقنًا كل اليقين أن بفعلته قد خلص العالم من آثامه إلا أن تأتي سيارة تنقله إلى مشفى المجانين..

إن تقديم القربان في فيلم تضحية كان جوهره هو الارتقاء ففي البدء هو ارتقاء وتسامي بالجسد المادي والفعل الثاني هو اضرام النار في المنزل وذلك يتفق مع ما رآه باشلار من قبل وهو أن النيران وهي تتصاعد لأعلى عموديًا إنما هي بمثابة قربان للرب، تسامي ونشوء إلى مرحلة أعلى وحنين إلى السماء..

وأما عن فيلم نوستاليجا فينقل دومينيكو أسطورة إلى الشاعر مفادها أن الشخص الذي يعبر بركة هجرتها المياه وهو يحمل شمعة دون أن ينطفئ لهيبها فهو بذلك يخلص العالم من آثامه وذلك الفعل هو بمثابة قربان للرب..

 

 

وعليه فإن الشاعر ينفذ رغبة دومنيكو بالرغم من نعت الناس له بالجنون..

إن الشاعر وهو يحمل الشمعة ويداري بيديه وهجها إنما هو في ذاته يؤمن أشد الإيمان بأنه في تلك اللحظة أنما يخلص العالم من آثامه بالفعل، هو في النهاية فعل معنوي ولكن في جوهره فهو رغبة لشخص حالم، هو حلم يقظة يحلم فيه الشاعر بتخليص العالم عن طريق حمله لذلك الوهج، والوهج هنا ليس مجرد رمزية عن النور الذي سيعتلي العالم فور عبور البركة إنما هو لهب الشمعة الذي حلم به باشلار في كتابه فهو وهج حميمي يعود بالشاعر إلى زمن الطفولة، إلى زمن سحيق وإلى عالم لم يعرفه، هو قربان للإله وتسامي بالذات، وهو في النهاية حلمًا كيشوتيًا آخرًا يرغب في تخليص العالم بحمله لتلك الشمعة..

إن الإيمان بما يحمله وهج الشمعة من معنى هو إيمان  بالمعجزة ذاتها وإيمان بالصورة الشعرية التي يحملها اللهب نفسه في خلقه معنًا جديدًا للحالم..

“حين يتحدث الحالم إلى اللهب فإنه يتحدث إلى نفسه وهذا هو الشاعر، الحالم يوسع اللغة وهو يوسع العالم ومصير العالم، ويتأمل مصير اللهب طالما يعبر عن جمال العالم وتتوسع النفس وتسمو بفضل هذا التغير..

إن كل حالم باللهب هو شاعر وكل حلم قبالة اللهب هو حلم مثير ومدهش وكل حالم في اللهب هو في حلم يقظة أولي”.

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم