حقيبة مكدسة بالحياة و الموت

موقع الكتابة الثقافي art 24
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بسنت أحمد

ربما تبدأ القصة حيث ينتهي الزمان الدائري، عند التلاشي.
هكذا كانت بدايتها ونهايتها في آن واحد من قلب الغرق، عندما اختارت الامتزاج و التماهي مع المياه العميقة بدلا من أن تقضي عمرها كله تجدف بلا توقف مؤجلة وصول الموت.

ذكرياتها عن محاولة الامتزاج الأولى مشوشة، انتهت بالفشل، وتوجت بأياد غريبة تنزعها بقوة لترميها بعيدا عن أمها، نحو اليابسة التي لم تعتد عليها حتى الآن، ربما يعد البعض عشرين عاما وقتا كافيا ويزيد لتعلم المشي، ولكن بالنسبة لها أن تصلب قدميها على الأرض الخشنة، احتاج مجهودا لا تملكه.

– ما جعلني أكثر تعلقا بالمحاولات المستمرة وجود أحبتي: أمي، أبي و يحيى. ولكن طفح الكيل، أصبحت محاولات السير أصعب منذ ازدادت قدماي عمرا، كما أصبحت ذكريات الامتزاج الأول تلاحقني بعد موت أمي، لذا تحديدا سيكون هذا المساء هو آخر  مساء لي على السرير الوثير الذي يحرص  على وحدته وانفراده رغم التصاقي الوثيق به. ففي الصباح سأحمل حقيبتي وأتجه في طريقي نحو البحر.

كان الصباح التالي رائعا، ولكنه لم يفلح في إغرائها للبقاء على متن الأسطح المستوية أكثر من بضع لحظات أخرى تأملت بها السماء الرمادية التي يخترقها النور على استحياء، التقطت لها صورة، وضعتها في حقيبتها لتتذكر دوما بالفرق بين النظر إلى السماء من الثقب الضيق المتمثل في عينها ، والنظر إليها من أعين البحر مثلا.
لم تتخيل الأمر صعبا إلى هذه الدرجة، اختيار الأشياء الأكثر أهمية دون غيرها، تنقية الذكريات والجثث الملائمة بين المئات منها. فكرت أن حرق الأحلام و اصطحاب رمادها سيوفر لها سعة أكبر

– الكلمات! نعم الكلمات وحدها تحتاج الى حقيبة هائلة، فتلك المصفاة التي أحملها برأسي لا تسعفني على الدوام.
 حسنا هكذا قضي أمر الكلمات الهائلة، الأحلام تم،  لن أنسى بالطبع صندوق الذكرى الأليم ، إنه هناك في مكان ما ، أين وضعته أيتها الحمقاء، هيا هيا تذكري،
ترفع المرتبة، لا شيء، تقشر الحائط، ليس هناك، جلست في صمت للحظات لعله يظهر فجأة.
وبينما تتحسس المعطف الأحمر لتتأكد من إحكام أزراره، تذكرت أن الصندوق لا زال ينام في جيب المعطف قريبا من قلبها، و ما ان فتحت الزر حتى تدلى الصندوق الملفوف بورق كرتون يدمي.

– هكذا لم يتبق سوى، علبة رفات أمي، و صورة أبي مقطوعة الرأس.

 لو كان يحيى هنا لحضر لي سندويتشات  هائلة تكفي من هم في البحر جميعا ، ولظل ينبهني بأن الوقت يسرقني، وليس هناك داعي بأن أنسى نفسي أمام المرآة محاولة التزين وإخفاء ما أقدر عليه من الشحوب الذي يزيدني جمالا، لا يعلم شيئا عن النظر لمرآتي ولا عن الفجوة الهائلة بمنتصف صدري التي تعكسها على الدوام، لم أحكِ له عنها أبدا. و بدلا من أن ينظر لمرآتي استمر في اهدائي ساعات اليد التي تملأ ساعدي.

وهكذا انتهت من حزم حقيبتها الضخمة وحملتها على ظهرها متوجهة نحو النقطة الوحيدة التي يبدأ وينتهي عندها كل شيء.

 وبدأت بالسير بعيدا حتى اختفى البيت تماما، أصبحت بعيدة عن كل ما تعرفه، عن الشارع الضيق، ونافذة جارها المطلة على السرير ، وبراد الشاي الذي لفحته النار بلا توقف فصار أسود، ابتعدت عن كل ذلك لتقترب من البحر خطوة في المقابل.
بدأ البحر يلوح هناك على الطرف الآخر ليس ببعيد

– غريبة! لم تتعب قدماي بعد ، أتسائل لو أنني قد قطعت الأميال الوعرة محلقة، أم أن رغبتي في التلاشي تحملني بخفة نحو الإجابة الوحيدة المؤكدة، نحو الفناء.
كلما أصبح البحر أقرب، كلما تضخمت موجاته، أراها كبيرة، كثيفة ومتلاحقة، لا شئ يشبه البحر في شارعي الضيق، الذي يغرق في اليابسة، حتى الناس هناك لا يشبهون البحر في شيء، خاملون و يملأ جفاف الأرض حلوقهم، يبصقون ترابا على الدوام.

و أخيرا انها هناك، في مواجهة البحر، بجسد تخفي ثلاث أرباعه الحقيبة المكدسة بالحياة والموت معا. تفكر كيف ستجعل البحر الصارخ يسمع أنينها، كيف ستجعله يتحدث بهدوء لمرة واحدة وأخيرة.
 وبينما تتأمله قفز في بالها تساؤل عن لا نهائية البحر، إنه الشيء الوحيد الذي لا ينضب، فالحب على عنفوانه ينتهي، والحياة تنتهي، فكرت في كم تشبه الأمواج وجوه الموتى، وجوه تصرخ، و أيادي تستجير، الغرق المستمر في مقابل زرقته الأبدية، هي الصفقة التي أبرمها البحر مع الإنسانية.

شرعت في خلع ملابسها بهدوء بينما تنظر للبحر في عينيه و صور من الذاكرة تعود لها في شكل متقطع،” هي في رحم الأرض محاطة بالماء”، تلقي بملابسها على الرمال قطعة قطعة،  عيناها معلقتان بعيني البحر، وضعت الحقيبة الهائلة على ظهرها العاري،  لتعبر الشط بأقدام واهية أخذت تتحول تدريجيا لذيل سمكة يلمع

–  يا لهذا الشاطئ، مجرد خط وهمي من الرمال لا يكفي لحصر البحر الهائج،

تخطو أقدامها المياه الدافئة ، خطوة بعد الأخرى وبسرعة جذبها البحر لمنتصف المسافة، لقد تعرف عليها،  رجته ألا يلفظها هذه المرة ، أن يدعها تمتزج بزرقته، تصبح منه، غاضبة مثله، حرة كموجه، أن يعتبرها قطرة من ملحه، فكرت لو أنها خلقت ماءا منذ البداية لما تركت حبيبا إلا ومزجته مزجا بدفئها فلا يغادرها أحد.

لم تعد تشعر بنصفها السفلي، ترفع يداها في النور فلا تراها، لقد  فقد جلدها لونه، أصبحت شفافة يتخللها النور، اصبحت خفيفة حتى حملها البحر وبدأ يدور و يدور،

توقف البحر عن الدوران  وفجأة  هي على الشاطئ، عارية لا تشعر بقدمها،

– لفظني البحر من جديد، رفضني أو اكتشف عند نقطة ما أنني أضعف من أن أحمله بداخلي.

ثارت، غضبت في وجهه وجن جنونها، صارت تروح و تجيء على الشاطئ مرات ومرات، بينما ترسو أمتعتها الواحدة تلو الأخرى على الرمال بعد أن أذابها البحر، أصبحت تشبه الأشياء في لوحات سيلڤادور دالي.
حل الظلام، هدأ البحر و اكتفى بالليل حارسا عليه، سقطت من التعب و نامت بجواره.
في الصباح التالي لم يكن أمامها سوى لملمت أشيائها والعودة إلي البيت وسط الغبار.

ـ فكرة العودة تؤلمني، يؤلمني أن أرى وجه جاري المترب، و أسنان جارتي المتهالكة، والأحلام المشتعلة على الناصية يتدفأ حولها الأطفال

 فكرت بهم جميعا يدخلون نحو البحر، يجربون الامتزاج الأبدي و رؤية السماء من أعين أوسع كأعين البحر.

_ البحر اليوم أهدأ و لا ينظر إلى، كأنه لا يراني، أو يتحاشى النظر للفتاة الحزينة التي تجمع أشياءها بعد أن دفعها للرحيل

 انتهت من جمع أشيائها و وجهت ظهرها إليه، وبينما تجر قدميها في أسى، سمعت صوتا يبدو أنه خرج من البحر توا، يأمرها أن تنتظر، نظرت خلفها فلم تجد سوى البحر الهادئ ينظر إليها،  ثم وقف منتصبا بحجمه الهائل وتجمع في موجة واحدة ضخمة قفزت عبر فمها، شعرت بصداع شديد و  لكنها تجاهلته، أبدت امتنانها للبحر الكريم ومشيت عائدة نحو شارعها، تحمل بداخلها بحرا و أسماكا تسبح و قواقع تتساقط من فتحات أنفها وسلطعونات تسير في عينها،

 وصلت إلى الناصية وعندها لم تفلح في عبور الشارع الضيق ، حاولت وكررت المحاولة و هي تقف بالجنب مرة، ثم بالجنب الآخر، مشيا على اليد مرة أخرى، و لكن بائت كل محاولات العبور بالفشل، أصبحت أضخم من أن يضمها الشارع الضيق، وفي محاولة أخيرة للدخول، احتك جلدها الممتلئ بالجدار الخشن لبيت الحلاق على الناصية، فأحدث ثقبا في جلدها، جلدها الوهن يتفسخ، الأسماك تتحرر، المياه تتفجر منها كالطوفان، الثقب الصغير يمتد ويمتد حتى وجهها، غمرت الماء الشارع ، لم يتبق منها سوى عينان، الأطفال يغرقون، البيوت تطفو، السيدة البدينة تنتفخ بالماء، جارها المتلصص يرفع جلبابه محاولا إنقاذ أطفاله، يفشل، يغرق، يموت، عيناها تراقبان الجثث تطفو و الأسماك الملونة تملأ الشارع الرمادي.
-لا زالت عيناي تطفوان بينما أحمل في جوفي أرواحا لا تحصى.
لا أعلم هل نجحت في النهاية محاولة التلاشي أم لا، ولكني أصبحت بحرا وحيدا في النهاية، وليس أي بحر، بل البحر الذي أغرق القرية. لا زلت أتذكر حقيبتي الضخمة و أفكر كم أصبحت أشبهها في ضخامتها وفي ضمها للموت والحياة معا.

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم