محمد محضار
صدر للشاعرة السورية ميادة مهنا سليمان ديوان شعري جديد موسوم بعنوان:” قصير فستان صبري” عن دار المتن بالعراق الشقيق، والديوان يتضمن إهداءً لروح زوجها رامز سلمان سليمان، ومقدّمة للشاعر عبد الله السمطي، وإضاءة للدكتور محمد عبد الرضا شياع، وقد تضمَّن الدّيوان ستة وأربعين نصّاً مُقسّمة إلى ثَلاثة أَقْسَامٍ بِعتبات فرعية، ترتبط بالعَتبة الرئيسية، وهذا التّقسيم يُعطي للمتلقي انطباعا جليا بأن الشاعرة قد خَطّطت مُسبقا لهذا المِعمار بكل فُسيفسائه المرصوصة لَبنَاتٍ متينة، تحكمها علاقات مبنية على رُؤية إبداعية تنهل من قاموس العاطفة والمشاعر، وهذا ما نلمسه بقوة في الحقول المعجمية للمجموعة الشعرية –ويقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين- التي تُفردُ مساحات واسعة لألفاظ وجدانية تحتفي بالحب، بالحياة، بالوفاء، والجمال … مع الحرص على خلق ترتيب يفسح المجال لوهج المعنى بشكل يتخطى الدال والمدلول في مستوى البنى السطحية للغة، وينفذ إلى أن يَحفر في مستويات التكثيف اللّغوي (المَبْنَى) ويتوّسل بالمجاز والرمز والاستعارات البلاغية لينقل (المَعْنى). ونقرأ من أجواء الديوان ما يفيد ما تمّت الإشارة له أعلاه:
قررت هذا الصباح
أن أفخخ نفسي
بالأزهار بالأشواق
بالأشعار بالنّغمات
قررت أن أحيط خِصريْ
بحزام ناسف
من الحب والقبلاتْ
وأكمن لك في درب ما
بين الورود، بين البيوت
بين بساتين الكلماتْ
لاشَكَّ تَمُرُّ…
سأفجّر نفسي فيك !
ولتتناثر أشلاء الوجد
والعشق والضَّمّاتْ [2]
وعوداً على بدء، نعود إلى العتبة،أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.
واعتبره شُولز:”خالقَ النّص الأدبِي ومانحا الهَوية” وقد عَرّف “جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها أيضا بقوله إنّها «علامات دلاليّة تُشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص، إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة، وعنوان الديوان الموسوم ب ” قصير فستان صبري” يرتبط في تجليه اللغوي بغُنج أنثوي باذخ، ما يوحي بأن اجتيازنا العتبة سيفضي بنا إلى بوابة عالم ميادة مهنا سليمان الساحر والمفعم بروح جامحة متوثبة ، ولكن دعونا قبل ولوج هذا العالم نتعرف على عتبة الديوان تركيبيا، إنها عبارة عن جملة إسمية وإعرابها كالتالي:
قصيرٌ: خبر مقدم جوازا مرفوع
فستان: مبتدأ مؤخر مرفوع وهو مضاف
صبرِ: مضاف إليه مجرور بِكسرةٍ مقدرة على آخره ، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة .
ياء المتكلم: ضمير مبني في محل جر بالإضافة
ولوج عالم الشاعرة يستقبلنا بعتبات فرعية ثلاث هي عبارة عن فساتين نُسجت من سدى ولحمة المشاعر والعاطفة المتجذرة في الذات الشاعرة فانحسرتْ عن زخارف ذات ألون مبهرة، وتجليات وجدانية شفافة، أصبغت على فساتين شاعرتنا مسحة من الجرأة و الإثارة جعلتها تشد انتباه واهتمام المتلقي، وأجدني أقتبس من فستانها الثالث هذه المقاطع المقتطعة من نص ” قصير فستان صبري “
أنيقٌ حبي
في حضرة وسامتك
وقصيرٌ جدّاً
فستان صبري
إذا تخاصمنا
يُعَرّي سوأة الحنين
ويوصل لسَعات الأسى
إلى جمرِ ولَهي
فينطفئ زهوي
قصير جدّاً
فستان صبري
إذا افترقنَا
ولست أعلم كم مترَ عناقٍ
يطيل قماش وقتٍ
يقصّه وجع الاشتيّاق !
إن الشاعرة في هذه النص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. وتكشف لنا عن حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية وعلى الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربتها الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية، واحترامها للإيقاع الخارجي بتعدد حروف القوافي والروي ( عناق /اِشتياق)، الذي يسند ه ايقاع داخلي يرسم سمة إبداعية للنص،معتمدة خاصيات : التكرار والتوازي وطبعا نجد هذه الحالة تتكرر في نصوص أخرى.
لنلاحظ مثلا هذا المقطع من نص اقتحمني عشقا[3] وهو يوجد ضمن نصوص الفستان الأول ص 27
لا تكن هادئا
لا تكن عاقلا
مدّ لِي يَدكَ
واصعد معي دَرَجَ الجنونْ
ما الشِّعر تلميذ عاقلٌ
ولا الحبُّ طفل هادئٌ
كلاهما بحرٌ هائجٌ
غاضبٌ تارة
وتارةً حنونْ
كنْ شقِيّاً عابئاً
تعال نلعبْ فوق روابي اللغةِ
يطيب لي القفزُ
على الباء
يطيب لي الاختباءُ
خَلْف حرف النّون
مدّ لي يدك عبر المدى
واهزأْ بالمسافات والحواجز
أصرخ من بعيد :
أحبّك. أحبّك
دعها تعانق الفضَا
تعال اقترب مني قليلا
دعني اعديك
بأنفاس العشق الثّائرْ
تعال اقترب منّي قليلا
وخد منِّي فيروس جنوني
في هذا النص العميق نلمس ” شعرية” قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن :” الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات”[4]
من الفستان الأول أقتبس نص “وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ”
وأما بنعمة حُبِّكَ
فسَأُحَدِّثُ :
أنَا المُخلَّدَةُ
في جنانِ العِشق
مُذْ أَشرقَتْ بسمَتِي
من ليلِ رِمشيك
أنَا المُتَّكِئةُ
على أَرَائِكِ النَّعِيمِ
وَوَسائدِ الهناء
مُذْ غفَوتُ عَلَى زِندَيك
أنَا الزَّاهِيةُ بِأساورِ الجَمَال
وسندس الدلال
مُذِ اخضوضرَتْ كَفِّي
بلَمسَةِ كَفَّيك
وأَمَّا بنعمة حُبِّكَ
فسَأُحَدِّثُ:
أنَا الرَّافلة بأثوابِ النَّعِيمِ
فَكُمْ مرَّةٍ تَشَرَّدْتُ
وَوَجَدتُ وَطني
في عينيك[5] !
تَعتبرُ جوليا كريستيفا “أن كل نص هو صدى لنصوص أخرى، وهو مكان تتقاطع فيه النصوص، والنصية نفسها هي مجموعة من النصوص المتداخلة، حيث يحيل النص بالضرورة إلى نصوص سابقة أو معاصرة له” وترى أيضا: «أن كل نص يتكوّن من فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر”[6].
أسوق وجهة نظر الناقدة والمحللة النفسية الفرنسية جوليا كريستيفا التي تقول بتقاطع نصين أو أكثر في نص واحد، وأنا أتوقف أمام قصيدة “وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ” التي تحيل مباشرة على تناص جلي مع سورة الضحى، والتقاطع النصي مع القرآن الكريم باعتباره أولا كتابا مقدسا، وثانيا ظاهرة سيميائية تشمل علامة ماديّة ولغويّة متعدّدة المعاني، إيحائيّة تتجاوز أحاديّة الدلالة إلى تعدّديتها مما يفرض علينا مراعاة التناص الداخلي المتمثل في اسم السورة ومتنها، وأيضا التناص الخارجي الذي يكمن في علاقة القرآن بباقي النصوص السماوية، وكذلك النصوص البشرية من نثر وشعر[7]، فإلى أي حد كانت الشاعرة وفية لهذا النهج وموفقة في توظيفه بشكل يخدم القصيدة؟ تقول الشاعرة: وأما بنعمة حبك سأحدث، نلاحظ أن هناك تناصا على مستوى الشكل والتركيب وأيضا المضمون مع الآية القرآنية:” وأما بنعمة ربك فحدث”، والتناص حدث هنا من خلال محاكاة الشاعرة للآية بشكل يكاد يكون حرفيا على مستوى الشكل والفكرة، وهذا يتكرر أيضا في مقطع :
أنَا المُتَّكِئةُ
على أَرَائِكِ النَّعِيمِ
وَوَسائدِ الهناء
التي تتقاطع مع جزء من الآية 13 من سورة الانسان:” مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكۖ”.
هذا التقاطع النصي رغمه جزئيته فهو يعكس استحضارَ نصٍّ غائب في نص حاضر لغاية أسلوبية أو معنوية.
إن حلاوة الشعر، وسحره لا يعرف سرهما إلا الشعراء. حيث يتلمسون ومضاته في الكون. وميادة مهنا سليمان، تقتبس هذه الومضات، وتحولها إلى شعر ترضِي بها نفسها، وترضي نزعة نفس المتلقي/ القارئ، إنها تعرف كيف تُدمجنا في عالمها الشعري، فنجالس الحس والجمال، كي يشتعل داخلنا كقراء، ومتلقين. إننا نستضيء بهذا النور الشعري البديع، لنفهم تجليات ثنائية الحضور و الغياب التي استحضرتها الشاعرة من خلال عدد من نصوصها التي تحتفي بالحبيب الحاضر الغائب، وتفرد له مساحات واسعة تكشف لنا مدى حب الشاعرة لشعرية النص وقوته التعبيرية، ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والذاتية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم: الموت /الحياة، الحضور /الغياب، الانسان/الطبيعة…
وبالتالي نطرح هذا السؤال: هل الشاعرة في مجموعتها قصير فستان صبري تكشف عن الإنسان فيها؟ .الإنسان العاشق، المحب للحياة؟. الذي يرفض ما هو كائن وموجود؟.. هل اللغة الموظفة في الوصف، والعرض والتأويل قادرة على نقل مكنونات الذات الشاعرة؟
تقول الشاعرة في نص أهنئ نفسي المقتطف من الفستان الأول :
في العيد
كَكُل الأيَّام
أشتَاقُ إليك
أَسْرِقُ نَفسي مِن بَيْنِ النَّاسِ
وأنادِي عَليك
فَيُجيبُ النّبضُ الدافئ:
يا عَاشِقَتِي أَنَا كُلِّي لديك
في العيد
أوشوشُ صورتَكَ الحُلوة
تَهمِسُ لِي شَيئًا عَذِبًا
فَتَتَوهُ الخَفقةُ مِنِّي
آهِ مِن كَلِماتِكَ!
تأسُرُني جِدًّا
تَسحَرُنِي
تُغوِينِي بَسْمَةٌ شَفَتَيَكْ
في العيد
تَتزيَّنُ دُنْيَايَ بوجودِك
فَأُهنِّيُّ نَفْسِي بِأَنَّكَ حُبِّي
وَبِأَنِّي أَغْفُو دومًا
في عينيك
من خلال هذا النص نتبين تجربة الشاعرة الذاتية، وقوة العاطفة الجياشة التي تشدها إلى الحبيب الحاضر /الغائب، فنراها تدخل في حوار مفعم بالرومانسية معه ، يشوبه تدفق وجداني و توهج اِنفعالي ، ولعل السؤال الذي طرحناه من
من قبل يجد صداه في مقاطع هذا النص الذي يكشف عن تجليات وجدانية تتطلب منا إنصاتا دقيقا لما بين السطور من أجل فهم زخم البوح الصادر عن الذات الشاعرة الملتاعة التي تعاني تَبعات الغياب المقترن بالحضور المجرد غير المحسوس.
خاتمة
الشاعرة ميادة مهنا سليمان أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في سوريا والعالم العربي تمتاز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتوسل بالتكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تَخْل العديد نصوص ديوانها “قصير فستان صبري” من الرمز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.
………………………..
*كاتب من المغرب
[1] شاعرة من سوريا لها ثلاث مجموعات شعرية وخمس مجموعات قصصية
[2] ديوان قصير فستان صبري ص 41
[3] ديوان قصير فستان صبري ص 27
[4] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9
[5] ديوان قصير فستان أحلامي ص60
[6] عبد الكريم شرفي رابطة أدباء الشام 31كانون الأول 2020م
[7] التناص في القرآن الكريم مجلة الرابطة المحمدية للعلماء المغرب، 2012-08-28م