في حضن الذاكرة .. الحنين والثورة في قصص الكفراوي

سعيد الكفراوي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة القصبي 

ينتمي الكاتب والأديب سعيد الكفراوي (1939- 2020) إلى جيل الستينيات، وتعتمد تجربته اعتمادًا صريحًا على بنية الذاكرة، إذ يمتطي الذاكرة بكل طرق الحنين المُتاحة، يراودها ويغازل أطرافها، يستحثها على هزم الحاضر الذي خط برأسه المشيب، يعافر مثل جواده الصغير ضد الموت الذي عاش رغم الأعمال والحسد، إلى أن سمموه فأكله الموت أكلًا. يدب القلم فيُعيد إحياء ذكرى العابرين وسرد قصص الغرباء، حتى قصص الأرض والفأس والنهر كانت حاضرة.

الذاكرة هي ملاذه الأخير، وهي الحلم المُصاغ في أرض الواقع، كل شيء يغرق في النسيان إلى أن تنقذه الذاكرة وتستقيم الأيام والخيبات والأناشيد في فضاء أخير بين الصفحات.

في قصة “شرف الدم” من مجموعته “دوائر من حنين” يظهر بقوة رغبة الكاتب في قهر الزمن وتغييب الوقت:

 “الكهل الذي يدب بالعصا على الأسفلت، له ذاكرة حية، له فسحة من زمن يبحث عن السنين. من القادم نحوي؟ الكهل الذي وخط رأسه المشيب وانطوى على جروحه.”

كما يحرص على وصف علاقته بذلك الماضي في مقدمة مجموعته مدينة الموت الجميل:

مُقدر عليّ أن آتي بالماضي، وأثبته على صفحات هذه الحكايا. هل هو الصوت الذي يأتي من الآماد البعيدة عبر الحلم وكهف الذاكرة؟ أم إنها طفولة ما مضى من أيام؟.. ربما، أو ربما كما يقول استورياس: “من ينجح في جعل العالم يتذكره، فهو لم يرحل نهائيًا، ولا يكون قد مات تمامًا.

القرية وأهلها

 يميز كتابات سعيد الكفراوي بشكل عام الدمج الحي لذكرى القرية وأهلها، فهو رسم منقوش بعناية ودقة لرصد تفاصيل وأحداث القرية. يستخدم لغة القرية الصريحة في وصف بعض المشاهد، ظهر ذلك في قصة “زبيدة والوحش”، حيث الاستخدام اللغوي لمفردات القرية بعاميتها ووصفها الفطري. هذا الوصف الساحر والواقعي لأحداث قد تمر على أهلها دون حتى وعي أو التفات منهم، وهذا التدفق العفوي التلقائي يرغمك على الحضور الكامل للصورة واستنطاق الجمادات والأشياء والماضي نفسه.

استخدام التراث الشعبي

يميل الكفراوي أيضًا إلى استخدام التراث الشعبي في سرد حكاياته، حيث يدمج الواقع بالفانتازيا الخيالية أحيانًا، محولًا إياها إلى مادة إبداعية خاصة به. يظهر ذلك في استخدام حكايات الأجداد وقصص الأساطير وأهل الكرامات مثل وصفه لشيخ المسجد صاحب الكرامة، الذي يُفسر الأحلام ويرقي المحسودين ويبرأ القلب العليل ويساعد المسحور، والجارة الشريرة التي تصاحب الجن ويسكنها الشياطين وتلقي الطلسم على أعتاب الدار، وزوار المقابر وغيرهم من المشاهد المأخوذة من نسيج القرية وعفوية الفكر القروي. تأثره الشديد بالأساطير وألف ليلة وليلة وسير الأولين والسيرة الهلالية يظهر في مجموعته “مدينة الموت الجميل”، خاصة في قصة صندوق الدنيا، حيث الراوي الرحال بصندوق خشبي يلتف حوله الأطفال لسماع الحكايات والقصص الغريبة والسير والطرائف بالصور، وهي من عجائب الزمان.

عين على الموت

اهتم الكفراوي أيضًا بوصف تخوفات أهل القرية من الموت والاستعداد الدائم له في الوقت نفسه. فهم ضعفاء يرغبون في الستر والموت بهدوء وحسن الخواتيم. ظهر الموت كثيرًا في مدينة الموت الجميل، والصبي يتعهد كلما رأى جدته، ويسأل: “أين ذهب جدي؟ ولماذا هذه الجمعة اليتيمة؟” فتجيبه الجدة، التي تصف الموت والحزن على الغائبين بشكل شاعري متنهدة: “في ليلة جاء رجال غرباء وأخذوه من حضني، فقلت لهم متى يعود؟”

ارتباط الصبي بالمهر الصغير وتعلقه به كان لافتًا، وعندما مرض المهر وظل ينطح حائط الحظيرة حتى تورمت رأسه. يخضع الموت لقوانين القرية في البحث عن سبب الغياب، حتى لو كان موت حيوان صغير بسبب المرض. ولكن الالتفاف الأكبر كان لتعرض الجواد للشر وأعمال السحر، فكلما اشتد الألم على الجواد، كلما زاد يقينهم من قوة وأثر الشر: “في الليل تلتف بسوادها وتخرج مكفنة بالظلام تكنس العتب وتتلو الطلسم، عبد المولى تدهسه حوافر فرسه، سيدفنونه جيفة.” وقد تحققت نبوءة الشر.

النزعة الثورية

تعرض سعيد الكفراوي للاعتقال لمدة ستة أشهر بسبب كتابة قصة عن مهرة لا ينزل الأخ الأكبر عن ظهرها، رافضًا أن يمتطيها الأخ الأصغر. تم تفسير القصة حينها بشكل رمزي بأن الأخ الأكبر هو عبد الناصر، والأخ الأصغر هو الشعب. في حوار معه بجريدة السفير اللبنانية يتحدث الكفراوي عن الاعتقال بشكل ساخر، فيقول:

 “تم اعتقالي قبل رحيل عبد الناصر وهاجم عدد من الجنود المنزل مدججين بالسلاح، حتى ظننت حينها أنني أعتى الإرهابيين.” تم اتهامه بالانتماء لكل الطوائف، بداية من الشيوعية حتى جماعة الإخوان. بعد خروجه من المعتقل، قابله نجيب محفوظ وأخبره بأن يحكي بالتفصيل كل ما حدث داخل المعتقل، وعندما صدرت رواية الكرنك، أخبره نجيب محفوظ أنه هو إسماعيل الشيخ.

ظهرت النزعة الثورية في كتابات الكفراوي في قصة ستر العورة، إذ كان يميل إلى الانتقاد الواضح والشعور بالحسرة لكثرة تعرض المثقفين وغالبية الشعب للاعتقالات والتشديد العسكري. ظهر هذا التأثر النفسي الواضح بالوضع السياسي في قصته خط الزوال، التي تحكي عن أبو السعد البهلول الضائع في الزمن، الذي يحلم بحياة مختلفة غير تلك المدينة التي ترتدي زيها الأسود والحسرة الدائمة. تنتهي القصة نهاية مأساوية بالصمت وانتصار القوة الغاشمة وقسوة النظام فوق صوت ضعيف، مجرد صوت من أبو السعد البهلول. يظهر تهكمه على التعتيم والجهل بمثقفي مصر في أحد المشاهد، حين يسأل البائع: “هل لديك ديوان محمد عفيفي مطر؟” فيسخر البائع من الاسم لجهله بالمؤلف.

لم تنته نزعات الكفراوي الثورية عند هذا الحد. عندما علم بتوجه السادات لعقد اتفاقية سلام واستعداداته للذهاب إلى الكنيست، لم يذق طعم النوم. وكان حينها يعمل محاسبًا في إحدى الدول العربية. كتب قصة مطاوع الفلاح، التي تتناول رسالة وسرًا خطيرًا للسادات ، وكان يجب عليه مقابلته شخصيًا. نُشرت القصة في مجلة حوادث اللبنانية لرئيس التحرير سليم اللوزي.

أعجب بالقصة مخرج عراقي يدعى صاحب حداد، وتقدم بطلب لإنتاج فيلم مبني عليها. تم إنتاج الفيلم بالتعاون مع مجموعة من الممثلين، بينهم سهير المرشدي وكرم مطاوع، مجموعة من الفنانين ممن قابلوا المعاهدة بالرفض وتعبيرًا عن ذلك عاش البعض منهم خارج مصر في هذه اللحظات، نشر الفيلم تحت عنوان مطاوع وبهية عام 1982.

 يشير الكفراوي إلى أن اسمه ذُكر في الفيلم بشكل عابر وسطحي رغم أن القصة تعود إليه كقاص مصري.

وهكذا كانت كتابات سعيد الكفراوي، ابن الريف الذي لم يتكيف مع لوحات النيون وإشارات المرور وزحام الظهيرة وواجهات العرض. ظل تائهًا في المدينة يبحث عن طفل القرية الأول، صبي الجواد، فكان ضروريًا الانتقال عبر الأزمنة والخروج إلى هذا الملاذ، حيث كان هناك ذات يوم، مجترًا ما جرى في قلب الحكايات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية،
نقلاً عن مجلة الأمة الثقافية 

مقالات من نفس القسم