رواية “المنسيون بين ماءين” حكاية الإنسان والبحر بين أمواج الذاكرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قراءة لرواية "المنسيون بين ماءين" للروائية ليلى المطوع

أفين حمو 

تبدو رواية “المنسيون بين ماءين” للروائية ليلى المطوع وكأنها محاولة للغوص في عوالم أسطورية تتنقل بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت. فهي ليست حكاية تقليدية عن البحر، بل رحلة إنسانية تأخذ القارئ في مغامرة نفسية وفكرية عميقة على ضفاف البحرين، حيث تتشابك حكايات الأجيال مع ذكريات البحر، وتتوالى الأحداث كأنها أمواج متلاحقة تضرب شواطئ الزمن.

منذ البداية، تظهر سليمة، الشخصية المركزية في الرواية، وهي تسرد حياتها المليئة بالصراعات مع المجتمع والتقاليد. تعكس قصة سليمة حالة من الهروب من القيود التي تفرضها الأعراف الاجتماعية، مثل حادثة الشاعر طرفة بن العبد وموته. هذا الحدث يُبرز تأثير الماضي على حياة الأجيال الجديدة، التي لا تزال تلاحقها أشباح التقاليد القديمة، لتجد نفسها تبحث عن هوية جديدة وسط هذا الصراع.

المكان في هذه الرواية، وتحديدًا البحر، يتجاوز دوره كخلفية للأحداث، ليصبح شخصية رئيسية تتفاعل مع الأبطال وتوجه حياتهم. البحر هنا ليس مجرد فضاء جغرافي، بل هو رمز للتحول والمجهول، يمثل الحياة والموت في آنٍ واحد. من خلاله تُولد الشخصيات وتبحث عن معنى وجودها، كما رأينا في مشهد ولادة ابن سليمة وسط الأمواج، مشهد تتداخل فيه معاني الألم والفرح، ويصبح البحر عنصرًا محوريًا في هذا الطقس الروحي والإنساني.

 “وبالموج وهو يحرّكه فيحرّك منطقة في داخلها، في أحشائها. يحملّه برفق، يدفعه إلى ذراعيها المفتوحتين وشفتاها تحدثانه، فتهمس والفي المكان سواهما: ‘هاته يا بحر.. هاته‘.”

يُظهر هذا المشهد نلك العلاقة العميقة بين سليمة والبحر، ويجسد الثنائية المتناقضة التي يمثلها البحر في الرواية؛ فهو العدو والصديق، مصدر الحياة والخطر في آنٍ واحد.

الشخصيات الأخرى في الرواية تُضيف طبقات جديدة من العمق للصراع مع البحر.

 ناديا، تلك السيدة التي تعاني من فقدان ابنتها وتوأميها، تجسد الأمومة الممزقة، كما تعكس تجربتها مع مرض الصرع صراعًا أعمق مع الذات والمجتمع. أما أيّا ناصر، الذي حاول إنقاذ حبيبته إيليا، فيجسد رفضه للتقاليد التي سلبت منه حبيبته، ليقف البحر مجددًا كرمز للقدر الذي لا يمكن الهروب منه.

البحر في الرواية هو القوة الغامضة التي تتحكم في مصائر الأبطال. هو الحاجز بين الحلم والواقع، بين الرغبة والخوف. باستخدام البحر كرمز محوري، تمكنت الكاتبة من خلق رواية يتفاعل فيها الفولكلور البحريني مع الواقع الاجتماعي الحديث، لتطرح أسئلة وجودية حول الهوية والانتماء.

من خلال شخصية عابد، الذي يستأذن البحر لبناء البيوت الطينية، تقدم الكاتبة بعدًا جديدًا لعلاقة الإنسان بالطبيعة. البحر هنا هو الشاهد على تحولات المجتمع البحريني، وهو في نفس الوقت حامل للذكريات والتاريخ. هذا الربط بين الإنسان والطبيعة يُظهر بوضوح كيفية تفاعل الرواية مع البيئة والذاكرة الجماعية للجزيرة.

الحوار الداخلي بين الشخصيات والبحر يُعزز من عمق السرد، حيث تتحول الرواية إلى لوحة تجسد معاناة الأفراد والجماعات، وحيث يتكرر الفقدان كموضوع مركزي يجمع بين الأجيال. الدكتور آدم، الذي يعبر عن حزنه لابتعاد الأجيال الجديدة عن جذورها، يوضح كيف أن الحداثة لم تترك لهم فرصة التفاعل مع تراثهم القديم.

 “لم نعلّم أبناءنا التعايش مع الطبيعة، بل حرصنا على تعليمهم كل شيء حتى اللغات الأجنبية، فلم يعودوا يفهمون ما نقوله ويتحدثون الإنجليزية، ولا يرتبطون بهذه الأرض، ولا يقرؤون ما كتب فيها.”

تلك الفجوة بين الأجيال تمثل صراعًا آخر في الرواية، حيث يتساءل القارئ عن مستقبل الهوية والتراث في ظل تسارع وتيرة التغيير.

تبرز الرواية  أيضًا الحكايات الشعبية والفولكلور ودورها  كجزء لا يتجزأ من حياة الشخصيات. تلك الحكايات تمثل الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، وهي مصدر الإلهام الذي يمنح الرواية عمقها الرمزي. تقاليد النذور إلى العيون والنخيل لم تكن مجرد تفاصيل عابرة، بل هي تعبير عن الروابط المقدسة بين الإنسان والطبيعة.

هذه العين كانت تروي نخل أبي، ونخل أعمامي، كنا نتربّك عندها… نحن مذنبون، أفسدنا في الأرض يا ابنتي.”

تكشف هذه الكلمات عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان بين الوفاء لتراثه والرغبة في التغيير، وهو ما يُبرز في النهاية حالة من الحنين والشعور بالذنب تجاه الطبيعة التي أُهملت.

وهكذا تضعنا رواية “المنسيون بين ماءين” أمام واقع البحرين الحديث، حيث فقدت الكثير من ارتباطها بجذورها القديمة. جفت العيون، واندثرت الأشجار، وحلت الأبنية الأسمنتية محل الطبيعة الخصبة التي كانت تروي ذاكرة الأجداد. ومع ذلك، تكشف الرواية عن قدرة الإنسان على التكيف والمقاومة، حتى لو كان هذا التكيف يأتي بثمن، كما يظهر في تجارب الشخصيات المختلفة. البحر، هذا الكيان المتصل بالزمن، يبقى حاملًا لأسرار الماضي ومستودعًا للحنين.

رواية “المنسيون بين ماءين”، تبدو  وكأنها دعوة للتأمل العميق في العلاقة المعقدة بين الإنسان والتغيرات التي تطرأ على هويته وجذوره. تتكشف الرواية عن صراع داخلي للأبطال بين ما كان وما يمكن أن يكون، بين الماضي العريق والواقع الذي بات قاسيًا.

قدمت ليلى المطوع في الرواية صورة تشبه مرآة للحياة، حيث البحر لا يصبح فقط رمزًا للتحولات، بل يُمثل ذاكرة حية للآلام والأحلام المدفونة. وبقدر ما يتغير البحر ويمحو معالم الماضي، يظل حاضرًا ككيان لا يمكن الفكاك منه، حاملاً أسرارًا لا يُفصح عنها إلا لأولئك الذين يبحرون في عوالمه.

عندما تنتهي الرواية، تشعر وكأنك أمام حالة من التوق والحنين المستمرين، حيث الحاضر مجرد صدى لماضٍ لم يُعالج بعد. الشخصيات تترك أثارًا على ضفاف البحرين، غير قادرة على استعادة ما فقدوه، لكنهم أيضاً غير قادرين على التخلي عن البحث. هذا الشعور يطرح سؤالًا وجوديًا عميقًا: كيف يمكننا أن نواجه الفقدان دون أن نفقد أنفسنا؟

وفي كل موجة تنكسر على الشاطئ، تُشعرنا الرواية بأننا مثل تلك الشخصيات، متمسكين بما تبقى من هوياتنا وذكرياتنا، رغم أن الزمن لا يتوقف عن الدفع بنا نحو المجهول. إنها رواية عن التغير والفقد، وعن أن البحر، بكل اتساعه وغموضه، يظل رمزًا للأشياء التي نبحث عنها دون أن نجدها.

في النهاية، “المنسيون بين ماءين” ليست مجرد قصة عن البحرين، بل هي قصيدة مفتوحة عن الإنسانية نفسها، عن الفقد الذي يتجدد مع كل جيل، وعن الأمل الذي ينبثق رغم كل شيء. الرواية تترك القارئ في مواجهة حقيقة لا مفر منها:

 أن الفقد ليس نهاية، بل هو جزء من حكايتنا المستمرة مع الحياة والبحر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية،
الرواية صادرة عن دار رشم بالسعودية 2024

مقالات من نفس القسم