“الآخر العدواني” وأدب المقاومة

السيد نجم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بقلم: السيد نجم

الآخر.. رؤية تاريخية

لم يكن “الآخر” غائبا عن الإنسان العربي (وربما الإنسان على الأرض منذ عرف الاستقرار، و اكتشف إمكانية استئناس الحيوان، وامكانية الزراعة). أوجدتها الضرورة الحياتية، سواء للتجارة أو للبحث عن مصدر جديد للرزق.. وربما لأسباب نفسية واجتماعية. وهو ما تشكل بداية بالترحال. ولم يكن ذاك “الآخر” في موضع الصديق أو محل ثقة، وإلا ما كان هذا “الصراع” الذي سجلته كل وسائل التدوين القديمة.

وفى مرحلة أكثر تقدما وحضارة كانت “الرحلة” المنظمة.. التي تسبقها الإعداد والتخطيط ثم التنفيذ. وإذا كانت “الرحلة” هي الفعل الإنساني الأول في تاريخ البشرية، وان اختلفت الأغراض والتوجهات. كما عرف العرب رحلة الشمال والجنوب، عرفت المنطقة العربية الآن أطناب الرحلة، وقد تخصص في فن كتابة الرحلات أسماء بذاتها. وتعتبر فترة القرن التاسع عشر الميلادي ميلاد مرحلة هامة وجوهرية في مجال التعرف على “الآخر”، نظرا لرواج “الرحلة” والكتابة عنها وحولها.

وقد رصد “د. شعيب حليقي” مدارات الرحلة في كتاباته، وأشار إلى مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى من القرن التاسع حتى الثامن عشر الميلادي، ثم المرحلة الثانية خلال القرنين الماضيين. تميزت الأولى بالطابع الاستكشافي والتأكيد على بعض الجوانب التاريخية، أو الجغرافية أو الأنثروبولوجية.. بينما تميزت المرحلة الأخرى بالبحث في علاقة الأنا العربي بالآخر.

والرحلة المصاغة أدبيا هي الشكل الأول الذي استخدم فيها الكاتب ضمير المتكلم، وقد غلبت أماكن معينة أغلب الرحلات مثل الترحال إلى الأماكن المقدسة.

أما “تودوروف” في كتابه “اكتشاف أمريكا سؤال آخر”.. حيث أبرز أربع ملامح للرحلة عند الأوروبي إلى أمريكا، وهى: الاكتشاف، الغزو، الحب ثم التواصل. فان العربي في رحلاته يتميز بالاعتزاز بالذات، الحذر، والنظرة العجائبية.. وان اتخذت صورا أخرى في القرنين الآخرين. والكتابة في مجال الرحلة بقى في إطار الأدب لما تتضمنه من خيال وأسئلة متجددة.

تتسم الكتابة في الرحلة، باستفادة الكاتب من فنون الرسائل والتراجم والأخبار.. وأيضا من ملمح التنوع الثقافي حيث الأنا المنفذة للرحلة في مقابل الآخر. ومن أشهر من سجل رحلاته في العربية: “أبو دلف، ابن فضلان، الغرناطى، ابن جبير، ابن بطوطة، ابن قنفذ، أفوقاى، ابن أبى محلى، النابلسى.. وغيرهم.

وقد قدمت الأبحاث تقسيما خاصا للرحلة.. الرحلة في الوجود الفيزيقي، والرحلة المتخيلة. الأولى تسرد عن زمان ومكان محددين.. والأخرى محكومة بشروطها الدينية أو التصوفية أو الفلسفية أو الاجتماعية. وأن المشترك بينهما أن مكوناهما واحدة في التشكيل وان تعددت الأنماط.

يكتب النص الرحلى نثرا أو شعرا(وضح النص الشعري للرحلة في الأدب الجاهلي، وفى العصر الأموي والعباسي). من أشهر تلك الرحلات الشعرية، ما كتبه في ألف بيت شعري الملاح العربي “ماجد” وابنه “أحمد” فيما سمى ب” الأرجوزة الحجازية” و”الأراجيز”، كما عثر على قصيدة في وصف الحج باللغة الأسبانية وبحروف عربية لأحد الموريسكيين في أواخر القرن 16م.

 أما الرحلة النثرية، فهي الأكثر شيوعا.. فيها ما يستلهم نمط الرسائل، حيث تسرد الرحلة بالأخبار عن تفاصيلها من خلال رسالة مرسلة من الكاتب. وبالعموم تعتمد الرحلة النثرية على: الوصف، التدقيق في التفاصيل، سرد الرؤية وما سمع وربما المتخيل والمحتمل. أما سمة التحليل فهي تتوقف على مقدرة الكاتب على ذلك. من أشهر تلك التي تتسم بالتحليل: “رسالة التوابع والزوابع /لابن شهيد”، “رسالة الغفران /لأبى العلاء المعرى”.

ويعرف لأبى حامد الغزالى في “المنقذ من الضلال” وهو يدون سيرته الفكرية ورحلته لاكتشاف طريق البحث عن الذات للظفر باليقين، أنه يخاطب شخصا وهميا يجيب عن أسئلته المتتالية.. (حيث الآخر داخل الذات، وهو ما سنشير إليه خلال محاولة التعرف على ملامح الآخر).

ويعرف شكل الرحلة التقريرية، تلك التي تكتب وكأنها تقرير رسمي(تسجيلية).. كتبت بناء على أمر ما، أو عن رغبة ذاتية، وان بدت وكأنها تضيق بالوصف التفصيلي بحكم الأسلوب الرسمي المكتوبة به. لعل رسالة “ابن فضلان” أوضح الأمثلة على هذا الشكل الرسمي في صياغة “الرحلة”، حتى أن الباحث “كراتشكوفسكى” اعتبرها وكأنها تقريرا رسميا من إحدى السفارات العربية في بلد ما. حيث تكلم “ابن فضلان” عن العلاقات التجارية والسياسية، وعن الأسواق والأحوال الاجتماعية، وهو ما عبر عنه بقوله: “.. يقدم لنا صورة حية للظروف السياسية في العالم الإسلامي والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى أو الأصقاع النائية التي كانت تمثل أطراف العالم المتمدن”.

كما جاءت رحلة”سلام الترجمان” إلى بلاد الشمال توجيها من حلم للخليفة “الواثق” حول سد ياجوج وماجوج، فجاءت رحلة تقريرا.

وهناك الرحلات الداخلية في نفس بلد الرحالة، كما توجد أشكال الرحلات الخارجية في المحيط الإسلامي، والنوع الثالث هو الرحلات إلى البلاد غير الإسلامية. وفى قسمة أخرى هناك رحلات دنيوية وأخرى دينية.

أما الرحلات الداخلية أو النفسية فهي قليلة على أهميتها، منها رحلة “ابن قنفد” بحثا عن بعض الحقائق الصوفية.

كذلك الرحلات خارج العالم الإسلامي قليلة مقارنة بالأخرى.. غالبا هدفها التجارة، أو المعرفة. إلا أن هذا النوع من الرحلات راج وانتشر اعتبارا من القرن ال19م.. ذلك نظرا للتغيرات السياسية والفكرية الجديدة في المنطقة العربية.

وبخصوص الرحلات الاستيهامية الدنيوية فهي تخيلية وتنبني ذهنيا، لترسم عالما يوتوبيا بديلا عن الواقع.

كما أن شكل الرحلة الأخروية التي ترسم العالم الآخر، فقد عرف ولم تكثر الكتابة فيه، نظرا لضرورة توافر العلم الديني أو الثقافة الدينية بالإضافة إلى الخيال.

وعن الرحالة، فقد صنفوا بالرحالة الأدبي والعلمي أو الجغرافي، إلا أن البعض يرى الرحالة الأدبي ثم لأغراض التجارة والسياسة أو الدين. ومع ذلك وضع البعض تصنيفا آخر:

.. صنف مجتهد بالبحث والتعرف على رجال العلم والدين، (حيث الآخر يتمثل في العلم).

.. صنف انصرف إلى العناية بالأدب والتراجم، (حيث الآخر يتمثل في الأدب).

.. صنف انصرف إلى رصد المشاهد والتنوع المثير، (حيث الآخر هنا أكثر جاذبية وإنسانية).

وهذا التنوع في الرحالة استتبع بتنوع في الرحلة، وهو ما تنبه إليه د. حسين مؤنس، فصنف الرحالة إلى: الرسول، صاحب البريد، الجاسوس، الراغب، المغامر، السفير، الملاح، التاجر، والعالم. بالتالي قسم البعض الرحلة إلى قسمين:

  • الرحلة الدينية والرحلات القريبة منها.
  • الرحلة العلمية أو الأدبية والقريبة منها.

وتبقى الرحلة العربية فنا صادقا ومعبرا عن العقل العربي في نموه وانفتاحه، وربما في التعبير عن مراحل تحلل الحضارة العربية بعد سقوط الدولة العباسية.. كما تعبر عن توجه العرب الآن نحو “الآخر”. والهام هنا أن الآخر ليس هو الغرب الأوروبي أو الأمريكي، كما يتبادر إلى الذهن حاليا. الآخر في الرحلات العربية المسجلة شعرا ونثرا، شملت “الشرق” البعيد حتى إندونيسيا أو جزر جاوة كما كان يطلق عليها، ثم الصين والهند. كما شملت الشرق الأقرب مثل بلاد فارس وما حولها مثل خرسان وسمرقند وأزبكستان وغيرها. أيضا شمل الآخر بعض المناطق الأوروبية، بل وربما الأقرب إلى القطب الشمالي “سيبيريا” الآن.

 ….. …… ….. ……

الآخر.. في القريحة الإبداعية العربية

لم تغفل القريحة العربية “الآخر”، منذ أن نشطت وأنتجت شعرا ونثرا، تعبيرا عن الذات الجمعية. صحيح غلبت قيم الحياة البدوية فانحسرت الذات الجمعية في العشيرة تارة وفى القبيلة تارة أخرى، إلا أنها بدت وتبدت ناضجة مع نضج العقل العربي والانفتاح على العالم، خصوصا بعد الفتوحات الإسلامية، والاحتكاك بالآخر المتنوع والمغاير.

ربما التراث القصصي العربي يشير إلى بعض الرؤى والتوجهات نحو “الآخر”، خصوصا أن الكتابة النثرية في مجال “الرحلة” كان يقرأ على السامر كنص مثير للدهشة، تغلبه الحكائية والسرد.. اللذان يعدان من أهم الملامح الفنية للقص. ولن نتورط في الجزم بأن التراث العربي عرف فن القص والرواية من عدمه، خصوصا إذا ما التزمنا بداية بالشكل الغربي للقص. وان كنا –كعرب- نؤمن بأن الكيفية التي كتبت بها القصة العربية مخالفة عما هو متعارف عليه حديثا، وأن الأساس هو “الحكى” و “السرد” في هذا الجنس الأدبي.

وقد درس البعض مقولات الغرب في شأن عدم وجود قص في التراث العربي، منهم “د. مصطفى عبد الشافى الشورى” في كتابه حول هذا الموضوع قائلا:

 ” ليس من الإنصاف إذن أن يرمى العرب بالتقصير و التفكير السطحي دون أن

 نتعمق في دراسة آثارهم الفكرية و الأدبية، و ليس من المعقول أن نتطلب من أي

 من أي شكل من أشكال الأدب القديمة أن يجرى على نسق الفن و أشكاله في

 عصرنا الحديث…. “

 ” إن نظرة واحدة لتاريخ العرب القديم لتوضح لنا بجلاء أن العرب منذ جاهليتهم

 الأولى الموغلة في القدم إلى جاهليتهم الثانية التي سبقت الإسلام كان لهم

 أساطيرهم و قصصهم و أخبارهم التي تتحدث عن معاركهم… فهم كانوا مفطورين

 على القص، ميالين إلى استخدامه في أوقات فراغهم و سمرها. “

كان للقصص وظيفة المسامرة، بالإضافة إلى محاولة تفسير الظواهر الكونية. وليس لدلالة وجود أحسن القصص في القران الكريم من يخطئ المعنى.. فتحدث العرب عن قصة “نوح” و “عاد وثمود” وقصة يوسف و عيسى وأهل الكهف و غيرها.

كان أول قاص في الإسلام هو “تميم الدارى”، فقد أذن له عمر بن الخطاب في آخر ولايته، و كذلك في عهد عثمان بن عفان. قيل أن “تماما” حدث عن الرسول (صلعم) حديث الجساسة وهو حديث صحيح أشار إليه ابن الأثير في كتابه “أسد الغابة في معرفة الصحابة”.

أما في العصر الأموي فقد أصبح القص عملا رسميا، وعنى الخلفاء بتعين من يملكون موهبة القص لوعظ الناس و سرد الحكايات الدينية في الخطب و مجالس الوعظ. كما عرف عن “معاوية” أنه عين “سليم بن عتر” سنة 40هجرية قاضيا و قاصا بمصر. عموما هناك القصص الديني و قصص التسلية الذي يشكل الخيال في جانبا لا يغفل.. و ربما لهذا الخيال كان “على بن أبى طالب” يطرد القاص من المسجد الجامع في البصرة أيام الفتنة خشية مزيد من الفتنة.

إجمالا يمكن الإشارة إلى أن الآخر المعنى في تلك المرحلة، هو “الذات الداخلية” في الفرد المنتمى إلى الجماعة المسلمة.. ولم تزد أطر البحث عن إجابات حول الأسئلة الوجودية والكونية عن الفهم الديني، وقوانينه. لم يكن مفهوم الآخر من خلال تلك النصوص النثرية، سوى دواخل النفوس البشرية للمسلم. ولم يفهم الآخر على انه “المغاير” أو “المختلف”.. حتى عندما جمع “ابن الأثير” و”الأصفهاني” لأيام العرب.. كان الآخر داخل الجماعة البدوية المجاورة (غالبا)، تحكمه صراعات قيم الثأر والشرف وغيرها.

وقد قام البعض من القدماء بتقديم تعريف لغوى للقصة. فقال “الزبيدى”:

 ” القص البيان، و القاص من يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها و ألفاظها”

و قيل:

 ” القاص يقص القصص لاتباعه خبرا بعد خبرا و يسوق الكلام سوقا، وقد كان القاص

 شائعا متفشيا بين الجاهليين و الإسلاميين، و كانوا يقبلون عليه إقبالا شديد، و من

 هنا ورد في الحديث: أن بنى إسرائيل لما قصوا هلكوا – وفى رواية لما هلكوا قصوا –

 أي اتكلوا على القول و تركوا العمل، فكان سبب هلاكهم، أو بالعكس: ذلك لما –

 هلكوا بترك العمل اخلدوا إلى القصص”

و التعريف الأخير يشير إلى أن القصة هي الحكاية. لكن الحقيقة تؤكد أن “القصة” لدى العرب لم تكن جوهر الأدب كالشعر و الخطابة و الرسائل.

لقد لعب التاريخ (حيث الآخر وأفعاله)دوره الهام في فن النثر القصصي الحكائى ذاك، ومع ذلك هناك قصص آخر ليس من اخترع الإنسان أومن خياله. أغلب الظن أن انفصل القص عن التاريخ، وبدا مستقلا بعد نزول القرآن.. وقد عنى القرآن بالقصص، فكانت قصص الأولين و الأمم الماضية، و تحدث عن الأنبياء. وهو ما افرز فيما بعد القصص الديني. كما اعتاد الخلفاء الاستماع إلى القصاص في مجالسهم، فكانت قصص أخرى غير التي يعرفها و يقرأها العامة.

كما قال بعض العرب بمثل ما قال به الغرب. فقال “د. محمد غنيمى هلال”: “لم يكن للقصة قبل العصر الحديث عندنا شأن يذكر”، وقال “توفيق الحكيم”: ” كل تفكير العرب و كل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة، مفهومة، مختطفة اختطافا”.

يبدو أن التسليم بتلك المقولة يجعلنا نقول أن العرب غير كل الشعوب حتى البدائية.. أو أننا نأخذ القصص القديم بالمقاييس الحديثة، إن فكرة القياس على المنتج الحكائى القديم بنفس أدوات القياس الحديثة.. مرفوضة موضوعيا وعقليا.

كما ارتبطت القصة العربية منذ نشأتها بالأساطير القديمة التي روت أحلام الإنسان البدائي وعلاقته بالمجتمع و الطبيعة وما وراء الطبيعة. منها قصة “فتنة الزهرة للملكين هاروت وماروت”، ومنها ما كانوا يتحدثون به عن القمر حين أراد أن يتزوج البدران من الثريا. ومنها ما تحدثوا به عن أصنامهم: “هبل” رب الأرباب، و”اللات” و”العزى” وثالثهما “مناة”. ومنها حديثهم عن الكعبة و الحجر الأسود و الصفا و المروة، وقصة عام الفيل، وقصص الغيلان وشياطين الشعر، ثم قصصهم عن العرب البائد كأرم ذات العماد وعاد وثمود، وحديث العماليق كعوج بن عنق.. وغيرها كثير.

 كانت القصة في صدر الإسلام وما بعده، انعكاسا للقصص القرآني، ثم الفتح الإسلامي اكسب النثر العربي أفقا جديدة و منابع أصيلة. أغلب تلك القصص مرتبطا بالبيئة العربية و بأخلاق العرب وعاداتهم.. “فأخبار عبيد” حافلة بتلك القصص. كما يمكن القول بأن “عمر بن أبى ربيعه” اصطنع أسلوبا قصصيا في مجال العاطفة وتصوير الواقع. ولا يمكن إغفال القصص الشعرية مثل قصة الغزل العذري التي كانت تروى شعرا مثل “جميل وبثينة”، و”كثير و عزة”.

لما اتسعت الدولة الإسلامية أيام العباسيين، كانت “ألف ليلة و ليلة”، “كليلة و دمنة”، وشهرتهما حتى يومنا هذا لا تغفل. وان كانت أصولها من غير بلاد العرب إلا أنها تحولت للتعبير عن البيئة العربية.. حيث كان “الآخر” وسيلة لفكرة ما، وليس هو المعنى بالمكاشفة والتحليل.

كما لا يمكن إغفال القص في فن المقامات، بحيث تناولت موضوعات أقرب إلى القص الحديث المتنوع مثل: الطعن في الأدباء، الهزل و الإضحاك، المدح، الوعظ، المقدرة اللغوية، وغيرها. وان بدت متميزة أكثر في رسم الشخصيات.. والتي تبدت أنموذجا مطروحا للقبول بالكامل أو مرفوض بالكامل.

وهناك ثلاث قصص طويلة لا يمكن إغفالها: رسالة الغفران، رسالة التوابع و الزوابع، رسالة حي بن يقظان:

الأولى لأبى العلاء المعرى، وقد كتبها ردا على رسالة أحد معاصريه من الكتاب”على بن منصور الحلبي” المعروف بابن القارح. والرسالة تعتبر قمة تطور الأدب القصصي عند العرب وهو ما أكدته د. بنت الشاطئ في دراستها الهامة حولها.

و رسالة”التوابع و الزوابع”/لابن شهيد الأندلسي، يشير إلى أن الفن القصصي لم يكن في الشرق العربي فقط، وقد كتبت قبل رسالة المعرى. لقد اتخذ الكاتب وادي الجن، واتخذ من الجن أبطالا حملهم آرائه في معاصريه من الأدباء و الشعراء الذين ينافسونه.

أما قصة “حي بن يقظان”/ لابن طفيل، تحمل آراء و فلسفة الكاتب في الحياة. أكثر ما تتميز به أن أسلوبها جزل وسلس بالإضافة إلى ما تتمضنه من أراء و أفكار عميقة و ربما فلسفية أيضا. وقد نالت تلك القصة ما تستحقه من اهتمام حتى يومنا هذا.

(الطريف أن”الآخر” في الثلاث قصص هو “فكرة ما” حول المثل العليا والقيم والأفكار)

إجمالا يمكن القول بأن القريحة الإبداعية العربية لم تهمل “الآخر”، فقط وضعته في إطار مفاهيمها السائدة، وقيمها المتجددة (قبل وبعد الإسلام)، والذي تحدد بالتالي:

  • الآخر.. هو التاريخ وشخوصه، تلك التي تتلبس الفضيلة الكاملة أو الرذيلة كلها.
  • الآخر.. هو الفرد القريب/البعيد في إطار الجماعة وقيمها.
  • الآخر.. هو دواخل النفوس، بحيث تعبر الأفراد عن الصفات.
  • الآخر.. هو الكوني الميتافيزيقى من قمر ونجوم وكواكب متصارعة أو حتى متحابة.
  • الآخر.. هو المثل الأعلى وخصوصا بعد الإسلام.

 ……. ….. ……. ……

الآخر.. من هو الذي نعنى؟

يبدو أن “الآخر” كمصطلح، أو مفهوم أنطولوجى، يعد من المفاهيم الملتبسة، وإلا ما دلالة مقولة الشاعر الفرنسي “رامبو” : “الأنا شخص آخر”. كما قال المفكر “أريك فروم”: “تتجلى الرغبة في التوحد مع الآخرين عبر أدنى أنواع السلوك مثل الجنس، وأسماها مثل التواصل الوجداني والعقلي”.. وهو يدلل بذلك عن حاجتنا للآخر حتى نتكامل، لأن “الآخر” وهو كل ما يختلف عن “الأنا”، هو مجال الإنساني الذي يتخارج فيه الإنسان عن نفسه، ويتعين وجوده في شكل موضوعات خارجية.

وهو ما يراه “د. رمضان بسطويسى” فيقول: “إن الإنسان في حالة صراع دائم وبناء مع اليأس، ويمثل الآخر جزءا من وجودنا، ونحن نمثل جزءا من وجوده… ودائما ما تكون العلاقة بين الأنا والآخر ذات بعدين، الاتصال والانفصال،… فكثيرا ما يكون وجودنا استجابة لما يثيره الآخر فينا من أفكار وردود أفعال تجاهه.. “

أن مفهوم “الآخر” في العقلية العربية تداخل وانبثق في الآن نفسه مع مفهوم “الهوية” خلال مرحلة النضج والانفتاح العربي على الآخر، مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، وبدايات القرن العشرين. ولم تكن تلك المرحلة إلا محصلة جدلية للكثير من الأحداث والخبرات الجديدة على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية التي كثيرا ما تغفل.

لقد تبدى “الآخر” خلال القرن الماضي وبدايات الحالي (فترة الاتصال المباشر والكثيف مع الآخر الأوروبي والأمريكي) في الأشكال التالية: الآخر الغربي بشموله الفكري والحضاري- الآخر الغربي نموذجا يحتذي – الآخر الغربي القابل للتحدى والمواجهة – الآخر الغربي العدواني (سواء بالعدوان المباشر والاحتلال أو الهيمنة بأشكالها المختلفة).

الآخر.. وكيف تبدى حديثا في المنطقة العربية (نماذج منها)

.. في مصر اعتلى “محمد على” كرسى الحكم، لتبدأ خريطة ثقافية جديدة، محورها تأكيد “الذات” وتعضيدها في مقابل “الآخر” (العثماني-الأوروبي).. ومع ذلك لم ينفصل عن الآخر الأوروبي تماما، ولم ينصبه العداء العلمي والثقافي، بل انفتح تماما عليه. أرسل محمد على البعثات التعليمية، واستورد الخبرات الخاصة (خصوصا في المسائل المالية والتعليمية)، ثم توسع في إنشاء الأسس الضرورية لبناء الدولة الحديثة، في مجال الصناعة والزراعة والمال والتعليم. أعاد بناء شبكة الرأي حول ضفتي مجرى نهر النيل، وأنشأ الدواوين الحكومية، وشيد مصانع الأسلحة والصناعات البسيطة، كما كانت المدارس العالي في الطب والهندسة والطب البيطري.. وغيرها.

ولا ننسى اكتشاف “حجر رشيد” بفضل أحد علماء الحملة الفرنسية التي سبقت حكم “محمد على”، وبفضله أعيد اكتشاف التاريخ المصري، بعد أن كان طلسما. وتبدو نظرة المصريين إلى آثارهم وتاريخهم من تعليق أحدهم على كتابات “رفاعة رافع الطهطاوى”- أحد معالم تلك الفترة- وقد بدأ يكتب في التاريخ المصري: “أنه أول مؤرخ مصري –أي رفاعه- عرف تاريخ مصر القديمة، ولم يلعنه، ولم ينقص من قدره”!!

لم ينته القرن التاسع عشر حتى رددت العامة والخاصة أسماء رموز ثقافية/دينية بالدرجة الأولى، وهو ما لم يكن موجودا من قبل.. جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، الحصرى وغيرهم، والى جوارهم بعض الأسماء السياسية العسكرية المصرية “أحمد عرابي” قائد الثورة العرابية، “مصطفى كامل” ورفيقه “محمد فريد” أصحاب الفكر الجديد والحزب السياسي (الحزب الوطني).. وكان ميلاد مدرسة الإحياء الشعري أحمد شوقي، محمود سامي البارودى، خليل مطران، حافظ إبراهيم.. ولن ننسى دور رجال الفكر والعمل الاجتماعي أمثال “قاسم أمين”، و”فرح أنطون”، و”جورجى زيدان”.. الأخير جعل من التاريخ الإسلامي مشروعه الروائي، وكتبه في روايات هامة وراصدة.

وقد أثيرت العديد من القضايا الثقافية خلال تلك الفترة في الصحف الوليدة، والكتب التي راجت بمصر والعالم العربي. سجل “رفاعة الطهطاوى” في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، سجل كل مشاهداته وأرائه أثناء إقامته في “فرنسا/الآخر الأوروبي”، كما أشار إلى الدستور وأهميته، وكيفية اختيار الحاكم، بل وكيفية التمرد على الحاكم المستبد. ثم كان “قاسم أمين” الذي تبنى قضية تحرير المرأة، بتبني مسألة بتعليم البنات مثل الصبيان. كما كانت قضية “السفور” من أشد المعارك ضراوة وشدة. كما تبنى “محمد عبده” مفاهيم الإسلام القوى.. و”أن الإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه.. “. وللشيخ مناظرات شهيرة مع البعض داخل مصر وخارجها.

ففي مناظرة شهيرة مع “فرح أنطون ” المسيحي عام 1902م، قال بأن للإسلام أصولا خمسه: “النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، البعد عن التكفير، الاعتبار بسنن الله في الخلق، قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها”

أما “فرح أنطون” في حواره، قال بأمور خمسة: أن غرض الحكومات المدنية حفظ الأمن بين الناس، وحفظ الحرية لكل شخص ضمن دائرة الدستور، المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة، ليس من شئون السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية، أن العقل البشرى مطبوع على الاختلاف والتباين، والكون مطبوع على التنوع، وهذا هو سر تقدم الإنسان”.

كما قال “أحمد أمين” في كتابه “زعماء الإصلاح” في الجزء الخاص ب”عبدالله النديم”: “لسنا الآن بصدد الحكم على الثورة العرابية، وما نفعت وما أضرت… بقى لنا جانب كبير من جوانب نفع عبدالله النديم، وهو إيقاظ الشعور في الشعب بحقه في الشكوى من الظلم، والمطالبة بالعدل، وإفهامه بأن يكون الحاكم مسئولا أمامه… “. وغيرهم كثر.

تبدى “الآخر” خلال تلك الفترة توجها فكريا ما أو لتبنى وجهة نظر مخالفة لما قبل. فالآخر ليس فردا بعينه أو صورة بعينها، في مقابل “أنا” جمعية أيضا. وهنا الأهمية ومربط الفرس كما يقولون. “الآخر” بدأ يتشكل ويتحدد في الفكر وللعيان: الاحتلال الأجنبي- الحاكم المستبد – الظالم والظلم أيا ما أو من يكون. وعلى الجانب الآخر، فالآخر لم يكن دوما صورة سيئة مرفوضة تماما، فالحلم بالحرية الوطنية، والحكم العادل، وبالعدل والحياة الراغدة المطمئنة.. صورة أخرى “لآخر” مغاير.

… وعلى الجانب الآخر، بدت المنطقة العربية على درجة من درجات اليقظة القومية، والبحث عن الذات بشكل أو بآخر، لها ملامحها المقاومية، وإرهاصات الميلاد المنتظر.

ففي “فلسطين” وهى من أهم وأخطر التجارب العربية، نشرت الباحثة الكويتية”سحر الهنيدى” رسالة الدكتوراه التي حصلت عليها حول موضوع “الانتداب البريطاني لفلسطين”من إحدى الجامعات البريطانية. وقد أشارت إلى شخصية “هربرت صمويل” أول منتدب سام على فلسطين، أنه كان عضوا قياديا في النخبة اليهودية البريطانية، ومؤمن بفكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

بعد عام واحد من الانتداب وقف أحد اللوردات في مجلس اللوردات، أعلن أن وعد بلفور مشحون بالديناميت، ووصف الظلم الذي يتعرض له عرب فلسطين بأنه “ظلم لا سابقة له في التاريخ”.. إلا أن المخطط بدأ ولم ينته، وبعد عام من تولى “صمويل” ثار عرب إحدى المناطق الجبلية بفلسطين (في 25يونيو1921)، فذهب إليهم المندوب السام في حراسة السيارات المسلحة، ليستقبله عرب المنطقة رافعين الأحذية القديمة على عصى مرددين الهتافات المعادية له ولليهود.

كما نشر مؤخرا أن أحد المصورين الصحفيين الأجانب اختفى في ظروف غامضة. ربما يعتبر الخبر عاديا لولا أن ذاك الصحفي هو الذي ارتكب الخطأ التاريخي والتقط الصورة الشهيرة، والتي باتت رمزا للانتفاضة الفلسطينية.. صورة ذلك الصبي النحيف القصير (من ظهره) ثابتا على الأرض، رافعا يده اليمنى إلى أعلى رافعا الحجر في مواجهة الدبابة المتقدمة نحوه.

يبدو أنه منذ ذاك اليوم البعيد، عام 1921م لم تسقط الأحذية القديمة، وان استبدلت بحجر.. وبدلا من الرجال والشباب، تولى المهمة الصبية والأطفال!

كما نتوقف قليلا أمام التجربة الجزائرية التي تحمل خصوصية الاستعمار الاستيطاني. مرت الجزائر بتجربة خاصة، تضعها على درجة من الأهمية لا تقل عن التجربة الفلسطينية والمصرية بين مجمل الدول العربية، وليس هذا من باب التفضيل أو المقارنة، إلا أننا نرى أهمية التجربة بشدة شراستها وقوة تأثيرها بين التجارب العربية عموما.. خلال رحلة الجميع في البحث عن “الهوية”.. تلك التي ولدت وطوت “الآخر” أيضا.

كان الاحتلال الفرنسي للجزائر في جوهرة وحقيقته، عدوانا على “الهوية” الإسلامية والعربية للشعب الجزائري. يتسم الاستعماري الفرنسي في كافة المناطق التي جثم على أهلها سواء في أفريقيا أو غيرها.. بأنه استعمار ثقافي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى المطامع الاستعمارية الأخرى. فباتت الجزائر تتحدث الفرنسية وتعانى من تخلف كل مظاهر التمدين الحديث والخدمات الدنيا الواجب توافرها.. وهيمنت الثقافة الفرنسية.

وان تشابهت الجزائر مع بقية الدول العربية في مواجهاتها مع الاستعمار، والكفاح من أجل التحرر، لكن بدا كفاح الشعب الجزائري أقسى وأشد من أماكن أخرى، حتى لقبت الجزائر ب”بلد المليون شهيد”.

كما نقترب من التجربة الكويتية التي تعد ذروة التناقض الذي عاشه إنسان العربية في القرن العشرين. بينما دعوة الوحدة العربية والقومية العربية جلية ومعلنة، وغير مرفوضة على الرغم من كل المعوقات التي يمكن بالدرس والبحث تذليلها. اعتدى النظام الحاكم في العراق على جارته، بل واحتل أرضها.

لسنا في مجال إصدار الأحكام، وهو ما انطبع على القريحة الإبداعية وأنتجت العديد من الأدبيات حول تلك المفارقة/ المأساة.

 ….. ….. ….. …..

الآخر العدواني.. تعريفه وملامحه

هل حان الوقت لتقديم التعريف الملائم ل”الآخر العدواني”، وتحديد ملامحه، وفى إطار فهم مصطلحي لأدب المقاومة؟؟

إذا كان “الصراع” هو سمة “الإنسانية” على طول التاريخ، وليس في الأمر تناقضا لغويا أو حتى فكريا.. فالتاريخ الحربي للإنسان هو القادر على كشف الحقائق، وصراع الشعوب من أجل حياة أفضل، إلا أن هذا التاريخ لم يسجل بعد !!. حرص الحكام قديما على تاريخهم الشخصي وحفروا على جدران المعابد ونقشوا أسماءهم على كل ما أمكنهم أن يسجلوا عليه من فخار وجلود وغيرها.. بينما رصد التاريخ الحربي وحدة سوف يقف إلى جوار العامة والشعوب.. والحقيقة.

إن عمر الحرب يكاد أن يناهز عمر الإنسان على الأرض، منذ قابيل وهابيل وحتى الحرب العالمية الثانية.. وما استتبعها من حروب إقليمية تكاد تغطى سطح الكرة الأرضية. وربما نضيف الآن الحرب ضد الإرهاب، بل وأفاعيل العمليات الإرهابية/المقاومية ذاتها(حيث اختلطت القيم والمعاني، بل والتعريفات الاصطلاحية بعد الحرب الأمريكية الإنجليزية على العراق في مارس 2003م). ولا يبدو زوال أسباب الحروب أو الصراع بكل أشكاله في المستقبل.

إذا كان “العدوان” هو ظاهرة التعبير عن الصراع بين “الأنا” و”الآخر”، سواء الصراع الداخلي (بين الأفراد ودخائلهم) أو الصراع الخارجي (بين الأفراد والجماعات والبلدان والأمم).. في مواجهات تتسم بالعنف. فيتبدى ذاك الصراع معبرا عن نفسه على شكل معضلات وأزمات نفسية وقد تصل إلى الانتحار، كما يعبر عن نفسه من خلال الحروب.

وصور العنف العدواني كثيرة ومتعددة، منها: السب، التهكم والسخرية، الشماتة، الغيرة، البغضاء، الكراهية، ثم المقاتلة. وللعدوان وظائف.. منها البغيض الكريه، ومنها الواجب والمشروع.. فالعدوان من أجل الاستيلاء على الأرض والثروات وغيرهما أمر بغيض، بينما السلوك العدواني في الطفل يعد محاولة للاستقلال وبناء الشخصية.

ويمكن إجمالا القول بأن سمات السلوك العدواني يتسم بالآتي: إذا كانت نوايا المعتدى.. تبطن شرا، هجومية، تكون نتيجتها مؤلمة للغير.

قدم “بارون” تعريفا موجزا للعدوان يقول: “انه أي شكل من أشكال السلوك يوجه مباشرة، بهدف إلحاق الأذى والضرر بالكائنات الحية”.

البحث في موضوع “العدوان” دوما يلحق به البحث في بعض المصطلحات الملحقة به.. “العدائية” وهى العدوان دون إلحاق الأذى بالآخر، وان سوى البعض بين العدوان والعدائية.. كذلك الغضب، الغيرة، الحقد، الحسد، التوتر، الإحباط.. ثم التطرف والإرهاب.

أما “الإرهاب”.. هو عملية متعمدة من الإيذاء المادي الصريح، لإثارة حالة من الترويع والقهر للآخر.. تمارسها جماعات بهدف تحقيق هدف سياسي/أيديولوجي معين.

شاع مصطلح الإرهاب في العقدين أو الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وقد بدت ذروة تأثيره ووضوحه بعد عملية اقتحام طائرتان مدنيتان لبرجين شاهقين (ناطحات سحاب) أسقطتهما بمدينة نيويورك الأمريكية في سبتمبر 2001م.

يمكن القول الآن أن “الإرهاب” أصبح شكلا من أشكال الحروب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية(انتهت في 1945م)، مع بعض الإضافات على أرض الواقع.. حيث تلاحظ أن بعض الدول تمارس الإرهاب وليست جماعات صغيرة، كما أصبح الهدف منها ليس التأثير المؤقت المؤلم.. اقترب من مصطلح “الحرب” الصريحة. ولم يعد للإعلان عن جماعة ما أو هدف ما أو حتى لتحقيق ألم محدد ومحدود.. أتسع المفهوم الآن.

: “الإرهاب” هو.. استخدام متعمد للعنف أو التهديد بالعنف، من قبل جماعة ما أو دولة ما.. من أجل تحقيق هدف/أهداف استراتيجية.. أو حتى حالة من الرعب والتأثير المعنوي الذي يستتبع بمزيد من العنف.

– ما المقاومة؟

تقع “المقاومة” بين “الحرية” و “العدوان”.. حيث الحرية هي المسعى الواعي للتخلص من “الأضرار”، وحيث أن العدوان يبدأ من التهكم والاحتقار حتى الإرهاب بكل أشكاله والحروب النظامية. فالفعل الواعي الحر المناهض للفعل العدواني هو الفعل المقاوم.

إذا كان سلوك الإنسان يحدده الخصائص الوراثية التي تعود إلى تاريخ تطور الجنس البشرى، والى البيئة التي تعرض لها بوصفه فردا.. فان البحث العلمي يرجح كفة السبب الثاني. وإذا كان الوعي الإنساني بمفاهيم الحرية والعدوان معززا للاستجابات الصحيحة، فستكون هي “المقاومة”.

إن الكفاح في سبيل الحرية هو نتيجة اغراءات أو معززات اجتماعية عندما يصل التحدي إلى أقصاه وربما إلى حد الحروب، وقد يكون الكفاح بلا معززات اجتماعية مباشرة، فيسعى المرء إلى التمرد أو إلى حياة الاكتفاء الذاتي.

لذلك تمثل “المقاومة” الرابط الموضوعي بين العدوان و الحرية. فلا مقاومة غير مدعمة بمفاهيم الحرية لمجابهة العدوان، ولا حرية بلا مقاومة في مواجهة عدوان ما.

يزداد الصراع كلما قويت المقاومة، لكن هذا الفعل القوى قد يعبر عن نفسه بالعنف، واذا اتجه هذا العنف إلى “الذات” أو “الأنا” أساسا.. تكون المقاومة السلبية، وإذا اتجه العنف إلى “الآخر” أساسا.. تكون المقاومة الإيجابية. ولكليهما دوره وتأثيره.

إن الفعل المقاومى هو.. فعل العنف، المدعم بالوعي، والنابع عن إرادة موجهة (دفاعا عن قيم عليا) موجها إلى الآخر العدواني بكل السبل حتى يتحقق الهدف الأسمى. وقد يتجه هذا الفعل المقاومى العنيف الواعي إلى “الأنا” أو إلى “الآخر العدواني”.. وفى الحالتين بهدف الدفاع عن حق ومواجهة باطل و إلا أن الموجه إلى الأنا أساسا تكون حجم الأضرار المباشرة السريعة نحوه أقل حجما.. لذا تحتاج المقاومة السلبية إلى زمن أطول لتحقيق الهدف.. (أحيانا).

– ما الحرب؟

.. الحرب هي قانون أثبتته الأحداث والتاريخ على أنها أزليه، يعبر عنه صراع الجماعات. لكن الصراع وحده لا يكفى، انه تابع الرادة وادارة سياسية تسبقه.. فالحرب تلي فكرة الحرب.

.. الحرب هي البديل عن عدم وجود تشريع قانوني قوى قادر على حل النزعات بين الجماعات والدول، وبالتالي فالحرب مسعى (غير واع ربما) لفرض قوانين بعض الجماعات (الدول) على أخرى أو لفرض قوانين جديدة.

.. الحرب هي النزوع إلى العنف النفسي، فالعنف أو الميل إلى السلوك العنيف كما هو في الأفراد يوجد في الجماعات والأمم.

.. الحرب هي العقد العنيف لتحويل بعض الدول والأمم إلى سوق تجارية لدول أخرى، أو لجعلها مصدرا لمواردها الخام.

.. الحروب هي صوت مرتفع في مقابل عجز صوت الحكمة.

وتلقى “فكرة الحرب” اهتمام كل الأديان السماوية. ففي “اليهودية” إقرار بشريعة الحرب والقتال في أبشع صور التدمير والتخريب والهلاك والسبى.. كما جاء في سفر التثنية، الإصحاح العشرين، عدد 10وما بعده: “حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب الهك… “

وتوجد فكرة الحرب في المسيحية، ففي عهودها الأولى كانت رافضة لفكرة الحرب: “.. من ضرب بالسيف سيهلك أو يجن… “. ثم تبنى القديس “بولس” فكرة الدعوة إلى احتمال استخدام القوة (مع زيادة عدد المسيحيين). ثم كان القديس “توماس” صاحب فكرة “الحرب العادلة” أي من أجل قضية عادلة.. والآن تعلن الكنيسة أن عدالة الحرب تحددها عقول أصحاب الرأي الراجح بالمشورة.

أما الإسلام فكان لفظ “الجهاد” بديلا للدلالة على الحرب كلفظة شائعة. وفى بداية الرسالة كان التوجيه الإلهي إلى الرسول (صلعم) في مكة هو “وأصبر لحكم ربك بأعيننا” سورة الطور آية 48. وفى المدينة تقرر الإذن بالقتال حين يطبق الأعداء: ” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير.. ” سورة الحج، آية 39. وفى السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال وهو كره للمسلمين: ” كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبو شيئا وهو شر لكم، والله أعلم وأنتم لا تعلمون” سورة البقرة آية 126.

إذن فالحرب هي أعلى صور العنف/ الصراع الشرس/ المقاتلة/ التعبير عن النزعات الشريرة / التعبير عن عجز القانون المنضبط الضابط/ الرغبة في فرض إرادة على إرادة أخرى /..

هي كل ما سبق وغيرها من أجل…… ؟؟

وهذا هو السؤال الذي حاولت الإبداعات والآداب الإجابة عليه !!

.. تعريفات..

اصطلاح “أدب المقاومة” أكثر شمولا وتعبيرا عن مصطلح “أدب الحرب” عما تعيشه الثقافة العربية، وعما يعانيه الواقع العربي الآن من انقلابات أيديولوجية وفكرية، وسط عالم يموج بملامح تقنيات علمية جديدة استفاد منها “الآخر” في مجال “الهيمنة” أو “الاستعمار الجديد”. والخلط بين المصطلحين خطأ شائع الآن. فقد ولد المصطلح بعد معارك العدوان الثلاثي عام 1956م بمسمى “أدب المعركة”.. ثم استخدم المصطلح فيما بعد في لبنان، وفى عام 1967م كان مصطلح “أدب الحرب”، وان بدأ مصطلح “أدب المقاومة ” في التداول للدلالة أو الإشارة إلى مجموعة الأشعار الواردة من الأرض المحتلة بفلسطين، من “محمود درويش” و”سميح القاسم” وغيرهما. ومع معارك أكتوبر 1973م استجد مصطلح “أدب أكتوبر”، إلا انه لم يصمد طويلا، كما لم يعد مصطلح “أدب المعركة ” يستخدم الآن. وهنا نسعى للتميز بين المصطلحين، حيث أن “أدب المقاومة ” أكثر شمولا.

“أدب الحرب” هو.. جملة الأعمال الإبداعية المعبرة عن تلك التجربة الخاصة/ العامة “تجربة الحرب”، حيث يتبدى “الآخر العدواني” على أشرس صورة. إلا أن النفس البشرية جبلت على حب الحياة، والجماعة تريد بطلا، بينما الفرد ممارس التجربة الحربية يعيش وطأتها.. هذا التناقض الظاهري/ الباطني لا يمكن الكشف عنه وتبريره أو حتى إدانته إلا ب”الخيال” القادر على تجاوز الآني، والتحليق إلى آفاق جديدة.

وقد يعبر عن تلك التجربة من عايش أهوال ميدان القتال أو من عايش أصداء تلك الأهوال. تلك الأم والزوجة والطفل القابعون في انتظار الابن/ الزوج/ الأب المقاتل.. تعد تجربة إنسانية كاملة لا تقل قيمة عن تجربة المقاتلة، وقادرة على التعبير عما يمكن أن تطرحه القضية كلها. ربما التحفظ الأساسي في هذا الخصوص.. هو ضرورة معايشة التجربة (من أي موقع، وعلى أي لسان).. وبذلك لا يحدث الخلط بين أدب الحرب والأدب التاريخي. فتناول الحروب الصليبية (مثلا) في رواية لا يعد من “أدب الحرب” وانما “أدب تأريخي”.

و”أدب الحرب” من حيث هو التعبير عن الجماعة والمدافع عنها.. سواء كانت الحرب عادلة أو غير عادله، قد يقع الكاتب بسببها في استخدام الصوت المرتفع الزاعق على حساب الفن، وقد يحرص الكاتب على التسجيل غير الفني لابراز الجانب البطولى الذي ترعاه الجماعة، كما قد يتورط الكاتب في مأزق البعد “الأيديولوجي” المناسب للسلطة على حساب البعد الإنساني/الفني.

أما “أدب المقاومة” فهو.. ذاك الأدب المعبر عن “الذات الجمعية” الواعية بهويتها، والمتطلعة إلى الحرية.. في مواجهة الآخر العدواني. على أن يضع الكاتب نصب عينيه جماعته/ أمته ومحافظا على كل ما تحافظ عليه من قيم عليا.. وسعيا للخلاص (ليس الخلاص الفردي، وانما الخلاص الجماعي) و الحرية.

 لعل أهم ملامح “أدب المقاومة” هي: التعبير عن الذات الجمعية والهوية.. أدب الوعي والتخلص من الأزمات (اضطهاد-قهر-حروب… ).. كما يتسم بالسعي لمعرفة الآخر العدواني وكشف أخطائه وأخطاره.. هو الأدب المعبر عن الذات من الوعي بالذات الأصيلة والهوية.. انه أدب إنساني من حيث هو أدب تعضيد الذات الجمعية في مواجهة الآخر العدواني.

إذا كانت “الحرية” قضية تثيرها النتائج البغيضة للسلوك، فأدب المقاومة هو المعبر والكاشف عن تلك النتائج البغيضة. وقد يتضمن عرض صورة الآخر المعتدى وأحواله التي قد تبدو أكثر حرية وتحررا ورفاهية.

أدب المقاومة هو الذي يحث الناس على الهرب والنجاة ممن يحاولون فرض السيطرة عليهم بالإكراه، والجيد منه لا يعنيه رسم السبل أي سبل النجاة أو الهرب، بل يكتفي بالرصد ثم الإيحاء الفني.

أدب المقاومة لا يعلم الناس السلوك الحر، بل يحثهم على العمل من أجل… ؟!

أدب المقاومة كمصطلح قد يتداخل ويتبادل (أحيانا) للتماس الواضح مع مصطلحات “الأدب الملتزم”، “الأدب الثوري”، “الأدب النضالي”.. إلا أنه أشمل وأكثر رحابة وفنية.

أدب المقاومة يسعى في النهاية إلى تهيئة الرأي العام لفكرة “المقاومة”.

يسعى أدب المقاومة إلى تحقيق أهدافه من خلال عدة محاور هي:

.. التركيز على الظروف البغيضة التي تعيشها الناس، وربما بمقارنتها بأناس آخرين أكثر حرية، وأفضل حالا.

.. تحديد “الآخر” الذي يجب على المرء (الجماعة) أن ينجو (تنجو) منهم.. الذين يجب عليه أضعاف قوتهم.

.. يقوى أدب المقاومة دعوته بحث الناس على العمل، و وصف النتائج المتوقعة، والاستشهاد بالتجارب والنماذج الناجحة.

.. واجب أدب المقاومة تغيير الحالات الذهنية والمشاعر، دون الوصية بإجراء عمل معين بذاته يكفى أن يكون المرء على أهبة الاستعداد.. باليقظة.

.. ربما الهدف الأساسي لأدب المقاومة هو وصف كل سيطرة على أنها خطرا، بهدف تحديد وتحليل أنواع تلك السيطرة التي يتعرض لها الفرد/الجماعة/ الدولة/ الأمة.. ثم التمهيد للتخلص من تلك السيطرة.

.. ترجع أهمية أدب المقاومة إلى أهمية إزكاء روح المقاومة لدى العامة والخاصة.

.. يخطئ الكاتب في موضوع أدب المقاومة إذا ما جعل “الحرية” حالة ذهنية ومشاعر دون أن يتجاوزها إلى الإيحاء بالوسائل (الفنية) لتحقيق الهدف.

.. للحرب طقوسها وموضوعاتها..

تعامل الإنسان مع فكرة الحرب وصنع تاريخه، فكانت له طقوسه الخاصة قبل وأثناء وبعد المعارك، لعله بذلك يبث روح المقاومة ويزكيها. على مر التاريخ حاول الإنسان تلك المحاولة، حتى قبل أن يعرف حروف الكلمات ولا يعرف التدوين، والى أن عرف الطباعة شرائح الكمبيوتر.

مازالت جدران كهف “التاميرا” باستراليا تحفظ لنا أول محاولة للإنسان بالتعبير عن مقاومته، وان كانت مقاومة لعناصر الطبيعة من حوله.. حيث رسم وحفر الثور مقوس الظهر والبطن، لقد نجح في ترويض الثور الهائج هناك وقيده على جدران الكهف، ليراه ليل نهار مقيدا أمامه!!

وترسم لنا الملامح والأساطير أبعاد تلك الروح المقاومية وترسم ملامح ذاك الصراع الملاصق للوجود الإنساني على الأرض. وقيل أن الميثولوجيا الهندية “البراهما” تتسم بمزاج حربي وتميل إلى العنف، ويمكن أن يقال أن كل أمة من الأمم لها مزاجها الخاص تجاه العنف. ففي الميثولوجيا الصينية ميلا إلى السلام، ربما بتأثير التعاليم البوذية.

لقد جرت العادة في كل الحضارات القديمة المعروفة على طقوس شبه مشتركة في مواجهة “الحروب”، مثل تقديم القرابين قبل الحروب وبعد النصر، والطريف أن تكون تلك القرابين أحيانا من الأسرى والأسلاب التي حصلوا عليها، وسط تهليل وفرحة الجميع وعطر البخور سواء داخل المعابد أو خارجها.

ففي دراسة أنثروبولوجية لقبيلة “شاكو” الهندية بقلب أمريكا الجنوبية رصد العلماء ما يمكن أن نعتبره نموذجا لجملة الطقوس التي اتبعها الإنسان (في الغالب) قبل وأثناء وبعد المعارك.

فقبل الهجوم ترسل القبيلة بعض الشباب لجمع المعلومات ودراسة نقاط الضعف والقوة على الطرف الآخر. في ضوء ما تتجمع من معلومات يكون قرار رئيس القبيلة وخطته الهجومية.

وتبدأ عملية الإخفاء والتمويه. وفى الليلة السابقة لعملية الهجوم يقضى الجميع ليلتهم في الرقص والغناء، مع الموسيقى والكلمات الحماسية، وتلوين وجوههم باللون الأحمر، مع تقديم الأطعمة والشراب وكأنها ليلة عرس!

أثناء المعارك تتقدم المجموعات، ولكل مجموعة قائد، ولا تنتهي المعارك إلا بالموت أو الانتصار. وقد لاحظ العلماء أن للرايات دورها الهام، فهي بيضاء في حالة الانتصار، كما أن حملها مسئولية قائد كل مجموعة.

وبعد المعارك، وفى حالة الانتصار، يعودون بالأسرى والغنائم. غالبا ما تكون الأسرى قوة يدوية للأعمال الشاقة تنفذها تحت سطوة السلاح للقبيلة المنتصرة. كما تقام حفلات الرقص والغناء، ثم توزع الغنائم على الجميع.

ولعل أول من حاول تقنين فنون الحرب عن خبرة عسكرية وفكرية، هو الصيني “صن تزو” في كتابه “فنون الحرب” منذ ألفين وخمسمائة سنة. من أشهر مقولاته وأهمها:

.. “إن الهدف الأبرز في الحرب هو قهر العدو وإخضاعه دون اقتتال”.

.. “اعرف عدوك، واعرف نفسك، وبإمكانك أن تحارب في مائة معركة دون تهزم.. “

.. “إن هدف الحرب هو السلام”

كما يرى أن المخبرين هم أهم عناصر القوات المتحاربة، ويقول: ” جيش بدون مخبر مثل إنسان بدون أذنين أو عينين”.

وقد تناول العديد والعديد من فنون الحرب وأسرارها، مع جملة أفكار راقية ومدروسة.

ومن المدهش اللافت للانتباه أن يبقى للحرب طقوسها ومراسمها حتى الآن، فقد حلت الأوسمة والنياشين محل الغنائم التي توزع على أفراد القبائل، وأن تكون للتيتيكات والأفكار العسكرية القديمة وجودا حقيقيا، وهو المعروف بأسلحة الاستطلاع والاستخبارات العسكرية وغير ذلك من الملاحظات التى لا يخطئها المتابع.

أما أن تظل تلك التقاليد والمراسم على شكلها القديم على الرغم من مرور السنيين والقرون، كما في حالة دولة كبرى مثل اليابان، فهو جد مدهش!

فقد عرف عن المقاتلين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية، ومع كل مهمة عسكرية انتحارية.. يذهب المقاتل إلى المعبد مرتديا الملابس البيضاء، وفى جلسة خاصة مع رجل الدين يتسلم المقاتل “مرمدة” خاصة به (وهى ذاك الوعاء الذي يحفظ فيه رماد المتوفى بعد إحراق الجثة حسب الشريعة الدينية عندهم). وفى صباح اليوم التالي يذهب المقاتل لتنفيذ مهمته بعد أن اطمئن على مشروعية ما سيقوم به، وقد استلم بيده المرمدة الفارغة الخاصة به، والتي من المفروض أن تعبأ برماد جثته فيما بعد !!

.. للمقاومة حالاتها وموضوعاتها..

الكلمة فعل تحريضي، وقادرة على التحفيز.. هي دعوة للخلاص، وليس للخلاص الفردي في مقابل قسوة الواقع المعاش والتجربة العدوانية.. يسعى لابراز مبدأ الدفاع عن حق الحياة الكريمة أو الحياة الفاضلة.. وأدب المقاومة وحده القادر الواعي بالذات الجمعية لتعضيدها و”بالآخر العدواني” وكشفه.. هو القادر على كشف هول تجارب القهر والاضطهاد والاستغلال والحرب وابراز قسوتها وبالتالي بحث إمكانية وضرورة تجاوزها.. نظرا لقصور كل التقنيات الحديثة للوصول إلى أغوار النفس البشرية التي هي جوهر اهتمام أدب المقاومة، يصبح أدب المقاومة في موقع متقدم بين المنجزات الإنسانية في الكشف عن حقيقة جوهر “الوجود” بالمعنى الفلسفي.. يعد أدب المقاومة “وثيقة” بمعنى ما، يمكن الرجوع إليها، والباقي وقت أن يذهب الجميع.

لكل تلك الأسباب يعد “أدب المقاومة” أدب إنساني.. موضوعه وهدفه “الإنسان/الفرد” و”الإنسان/ في جماعة”، ومن أجل الحياة الأفضل.

صحيح أن تاريخ المقاومة بدأ منذ أن كان الإنسان من سكان الكهوف وأعلى غصون الأشجار، وصحيح لم ينته الصراع فكانت المقاومة (الفردية) و(الجماعية)، ليس في ذروة أشكال الصراع وأعنى الحروب فقط، بل مناحي الحياة كلها.. من أجل حياة أفضل.

فعلاقة الأنا بالآخر(العدواني)، ومحاولة تشييد ملامح اجتماعية جديدة أكثر تقدما.. كما في علاقة المرأة بالمجتمع، إزكاء روح البطولة والثقة في الذات باستنهاض الإنجازات التراثية، وحتى الدعوات الإصلاحية واقامة العدل الاجتماعي.. كلها وغيرها كانت وستظل من محاور وحالات أدب المقاومة.

أما وقد استجدت حالة خاصة جديدة من واقع الأحداث والتجارب المعاشة في عالم اليوم، وخصوصا مع أعتاب القرن الواحد والعشرين. وهى الإنجاز التكنولوجي الهائل الذي تملكه القليل من دول العالم (وخصوصا في مجال التسليح)، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما اتضح مؤخرا في حربها مع العراق.

وبنظرة متأنية للتعرف على حجم هذا الإنجاز الهائل، وهو ما عبر عنه أحد خبراء الاستراتيجية الحديثة إن حرب الخليج الثانية (على الأرض الكويتية) قد أثبتت “أن تأثير 30جراما من السيلسيوم في حاسوب يفوق كثيرا تأثير طن واحد من اليورانيوم”.

لكي نكشف عن أهمية وخطورة هذا الإنجاز نعرض لبعض المقارنات : عندما هاجم الأسطول البريطاني مصر، في عام 1881م، أطلقت المدفعية ثلاثة آلاف قذيفة على الإسكندرية، وقدرت أن الإصابات المؤثرة بعشرة في المائة فقط.. وفى حرب فيتنام حاول الطيران الأمريكي تدمير جسر “تان هوا” في 800طلعة فاشلة، فقد خلالها عشر طائرات. بينما استطاعت أربع طائرات من طراز “اف4” مجهزة بالأسلحة الذكية في تدميره في أول محاولة. وبعد حرب الخليج تقرر شراء 300الف حاسوب توزع على الجنود حتى قيل أن عدد الحواسب سيفوق عدد البنادق.. وهو ما تلاحظ بالفعل في الحرب ضد العراق!

ولا يبقى إلا إعادة النظر في مفهوم وحالات أدب المقاومة، وذلك بالنظر إلى: هناك خلل ما أصاب اكبر مؤسسة في العالم تعنى بشئون السلم والحرب، وهى هيئة الأمم المتحدة (يتابع أحداث الحرب العراقية في مارس 2003).. هناك اضطراب في تطبيق قواعد القانون الدولي، وربما يلزم إعادة النظر إليه أو تطويره مع توفير آليات لتطبيقه.. بروز وجه العنف من مصطلح غير عنيف وهو “العولمة” بكل ما استتبع من اتفاقات وإجراءات على الأرض لتطبيقه.. الفارق غير المتناسق والهائل بين دول العالم في القوة (بكل معناها) حتى أن أصحاب العولمة، نزعوا صفة “الدولة” عن أكثر من دول العالم !!.. وغير ذلك من الشواهد كثير، وتعد أيضا من موضوعات أدب المقاومة (مستقبلا).

لكل ما سبق يلزم إعادة النظر إلى أدب المقاومة.. بترسيخه أولا، ثم عدم قصره على انه معنى بالتجربة الحربية فقط. تماما كما يلزم إعادة البحث عن “الآخر العدواني” لتعريفه وتحديد ملامحه!

ربما أخطر ما تمر به المنطقة العربية الآن.. أن “الآخر العدواني” بات مختلطا لنقل ملثما، وربما من الأفضل أن نصفه بالحرباء التي تتلون وتتبدل دوما. ودور المبدع (وليس الروائى فقط) هو كشفه واكتشافه، فالمبدع برؤيته الإنسانية البانورامية يقدر على الغور في باطن الظاهر، وجلب الخفي من الظاهر غير المفسر أو غير المفهوم.

حان الوقت الآن إلى تصحيح الخطأ الشائع بالخلط بين “أدب المقاومة” و”أدب الحرب”، حيث تلاحظ استخدام أحدهما مكان الآخر للتدليل على نفس المعنى!. فأدب الحرب معنى بالدرجة الأولى بالتعبير عن التجربة الحربية (المعاشة)، بينما أدب المقاومة أعم وأشمل، ويضم كل التجارب المعنية بمقاومة فساد ما أو محفزة على تحول اجتماعي افضل.. في إطار تجارب الحرب والحياة اليومية وكلها من اجل تعضيد الذات الجمعية ومواجهة الآخر العدواني.

 …… …… …… ……

.. الإبداع الفني في مواجهة “الآخر العدواني”:

 كل الشواهد تشير إلى خصوصية التجربة الحربية في الأفراد والشعوب. فالسلوك الإنساني نابع عن توتر ما، وبالإبداع يسعى المرء للإقلال من التوتر لإحداث درجات من التكيف النفسي.. (هذا التوتر إما خارجي أو داخلي).

والتجربة الحربية في هذا الإطار جد معقدة، فهي منبه غير تقليدي.. لا هي أحادية ولا هي بسيطة، ومع ذلك لا تكتسب دلالتها إلا بوجود دوافع داخلية.. مثل دوافع القيم العامة للمجتمعات، ودوافع الانضباط والخضوع لأوامر الجماعة.

عادة درجة استجابة المرء، إما مباشرة أو غير مباشرة لحدوث اللذة أو الألم، فتكون جملة الانفعالات التي يعانيها المرء هي التي ستحدد اتجاهاته وسلوكه. وقد يلجأ إلى “الخيال”، تلك القوة السحرية الساحرة القادرة على إنجاز الفن أو الأدب بأشكاله المختلفة.

ما سبق لا يعنى أن أدب الحرب في جوهره وسيلة للخلاص الفردي، ولكن يعنى قدرة “الصفوة” من الناس الذين خاضوا التجربة، وقد امتلكوا الخيال والقدرة على التعبير (بأية وسيلة كانت)، يحفظون لنا خصوصية تلك التجربة بكل طزاجتها وخصوصيتها.. بحيث تصبح دوما نبراسا هاديا للعامة والخاصة وقت الشدائد.

فاحتمال تجدد التجربة قائم ومستمر، ببقاء الإنسان على الأرض، واستمرار الصراع/ الصراعات.. وعلى مستويات مختلفة، قد تصل إلى حد اشتعال الكرة الأرضية كلها. وهو ما عاشته البشرية لمرتين خلال خمسين عاما فقط من القرن الماضي.

يأتي “أدب الحرب” في النهاية للتعبير عن هول التجربة ذاتها: يكفى القول بأن النفس البشرية جبلت على حب الحياة، بينما يخوض الأفراد التجربة الحربية مدفوعا بأمر الجماعة (المجتمع) وبناء على رغبتهم، وقد يباركون موته. فالتجربة الحربية ليست ذاتية بالكامل، وتحمل بين طياتها التناقض، فالمقاتل يسعى لاثبات الوجود وتحقيق الأهداف السامية، بينما الواقع المعاش فظ وقاس.

لكل ما سبق نحن في حاجة إلى “أدب الحرب” !!

فالصراع باق.. والأفراد الموهوبون لتسجيل التجربة (المبدعون) فرصتنا كي تقف مؤشرات الزمن عند تلك اللحظات أو الأزمنة الخاصة لتصبح عونا ودعما لنا مستقبلا في مواجهة “الآخر العدواني”، الذي قد يظهر حينا ويتخفى حينا.

فضلا عن أهمية تلك الأعمال في تغطية الجانب النفسي والتربوي الضروري للأجيال الجديدة، حتى تصمد أمام تحدياتها الآتية يوما ما !!

وعلى النقيض.. قد يصبح بنى البشر يوما ما قادرون على كبح جماح غوائل أنفسهم، ويصبح للصراع شكلا بديلا عن “الحروب”، إذا كانت الأعمال المرصودة عن التجربة الحربية أكثر إنسانية، وتسعى كي تصل رسالة الكاتب / المفكر الحقيقي الغرض الحقيقي من وراء رصد تلك التجربة القاسية، وأنها تجربة إنسانية يجب تأملها والوقوف أمامها أو ضدها.

إن “أدب الحرب” الحقيقي هو أدب إنساني، يرفع من قيمة الإنسان ومن شأنه، ويزكى القيم العليا في النفوس.. انه أدب الدفاع عن الحياة، والمتأمل قد يجد أن أجود الأعمال الحربية (الإبداعية) هي التي دافعت عن الحياة، ولم تزكى القتل من أجل القتل.

 وإجمالا نشير إلى أن لأدب الحرب (الذي هو جزء لا يتجزأ من أدب المقاومة) ضرورة جوهرية في حياة الشعوب، وهو ما كان منذ الأزل والمتوقع إلى الأبد!

ترجع تلك الأهمية إلى ثلاثة عناصر، هي:

  • الكشف عن الجوهر الأصيل في الذات الجمعية (الأنا) وفضح العدواني في الآخر المعتدى. وهو ما يزكى عناصر القوة لتعضيدها، والكشف عن عناصر الضعف فينا فنتجاوزها ونحل مشكلتها. وبالكشف عن جوهر تفكير الآخر العدواني نستطيع تفادى عناصر قوة ومواجهته بكل السبل الممكنة.
  • التجربة الحربية في جوهرها تجربة إنسانية بالعموم، وكلما كان الإبداع المعبر عنها محتفظا بالجوهر الإنساني فيها، كلما أنتجت تلك التجربة عملا إبداعيا راقيا. مهما كانت الحرب قاسية وشرسة إلا أن حرص المبدع على إبراز الراقي والإنساني في الإنسان المحارب وفى ممارسة التجربة.. كلما كان أدبا راقيا وجميلا. فالعدوانية الظالمة تعد معززة لمطلب الحق والعدل والإنسانية.
  • أما وقد زاد الصراع واشتعلت نيران الحرب فلا حيلة إلا “التوثيق”، والإبداع أحد تلك الوسائل الهامة في التوثيق الباقي، فالكلمة والفنون تبقى بعد أن يذهب الجميع.

ولا يبقى إلا إشارة سريعة إلى الفرق بين “المقاومة” و”الحرب”.. فالمقاومة تعد ضرورة إنسانية لتأكيد الذات الفردية/الجماعية.. بينما الحرب لا تعد كذلك دوما. كما أن المقاومة قد تكون فردية أو جماعية.. بينما الحرب دوما جماعية على شكل وحدات متتابعة ومتكاملة أو جيوش. ولكل ما سبق تعد المقاومة دوما مشروعة وعادلة.. بينما الحروب قد تكون عادلة أو غير عادلة.

 ……. …… …….. …….

حضور “الآخر العدواني” في أدب المقاومة:

لقد استخدمت الرواية كسلاح له دوره، و هو ما قام به “فرح انطون” نفسه بعد كل المناظرات الشاقة التي مارسها أمام الشيخ ” محمد عبده”.. فنشر رواية ” الدين و العلم و المال” عام 1903م ثم رواية “أورشليم الجديدة” عام 1904م و لعلهما أولى الروايات التي كتبت في مجال المقاومة بإبراز أهمية الإصلاح و النقد الذاتي، و البحث في أثر الصراع بين ذوات “الأنا الجمعي” من الطوائف و الفئات و الطبقات داخل المجتمع الواحد.

: رواية ” الدين و العلم و المال”

أرتكن الراوي على رموز محددة، حين وقف “حليم” على رأس ثلاث مدن “الدين” و “العلم” و “المال”.. وقد غاب التسامح بينهم، فكان الصراع بينهم.

فشخصية “حليم” وهو شاعر فنان و كأن الفن في مقابل التعصب. أما صديقه “جميل” فله دوره المكمل.. و كليهما يعبران أو يرمزان للحلم أو الصبر و الجمال.. و كأنها القيم المطلوبة لتحقيق العدل.

أما شخصية “شيخ العلماء” وهو على رأس مدينة العلم.. فهو يرى بأهمية التسامح بين الناس مع نبذ التعصب. و تبرز الرواية أن العدو الحقيقي للعلم و الدين معا هو الأثرة و الشراهة و الرغبة في الانفكاك من كل قيد.

: رواية “أورشليم الجديدة”

تتبنى الرواية يوتوبيا “فرح أنطون” للفردوس الجديد على الأرض، فيقول على لسان أحد شخوصه: ” إن إصلاح الأرض مسألة هامة، وأن أورشليم القديمة يجب أن تفسح مجالا لأورشليم الجديدة”

لذلك يختم الرواية على لسان الراوي قائلا: ” ليس لنا الآن أمل (بعد الله) إلا فيك أيها العلم، ولا رجاء إلا في الطبيعة الإنسانية وهى الأقوى لأنها الفاعل “

يقول د. جابر عصفور عن تلك الرواية : “إن أورشليم الجديدة هي الوطن العربي الذي لابد أن تتآلف فيه الأديان و المعتقدات و تتجاوب غلى أساس من احترام حق الاختلاف، و أن

العدل هو الوجه الآخر للعلم “.

سنكتفي الآن بهاتين الروايتين علهما عبرتا عن “الهوية” في مجال المقاومة و البحث عن الذات الجمعية.. و التراث الروائي ملئ بأمثلة أخرى لها وقفات غيرها.

.. الرواية.. و”الآخر العدواني”

لم تكن الرواية وحدها التي انشغلت بالتجربة الحربية حيث “الآخر العدواني” جليا معلنا عن نفسه. شاركتها كافة فنون الشعر و النثر والموسيقى و التشكيل و غيرها. ربما كان الشعر أسبق تلك الفنون المنطوقة أو المكتوبة، لكن تعتبر الرواية على رأس تلك الفنون الآن. ربما ذلك بسبب تقنيات الرواية ذاتها : قدرتها على التعبير و التصوير و التسجيل الفني – التسجيل من أجل المعايشة – و بالتالي مشاركة القارئ 0

لعل بعض الفنون الأحدث من الرواية، لعبت دورا بارزا في التعبير عن التجربة الحربية، مثل دراما التليفزيون و السينما، إلا أن الأعمال الكبيرة منها عادة ما اعتمدت على نص روائي ناجح. كما أن فن الرواية نفسه استفاد من تقنيات تلك الفنون البصرية و خصوصا في توظيف التسلسل الفكري (الزماني \ المكاني) مع إبراز الشخصيات و المواقف.

نشير إلى روايتين كتبتا في أوائل القرن العشرين..

: رواية “عذراء دنشواى/ للكاتب محمود طاهر حقي /كتبت عام 1909م

نالت تلك الرواية من الشهرة والرواج حين نشرها، ما لم تحققه رواية أخرى، وربما لأسباب غير كونها رواية!. لقد عمد الروائي إلى الرصد “الأمين” لمحاكمة مجموعة من الفلاحين المصريين، من محكمة عسكرية إنجليزية.

حادثة دنشواى يعرفها الجميع كحادثة اعتداء من الجنود الإنجليز، فلما مات أحد جنودهم بسبب الإجهاد والخوف من الفلاحين، قررت القيادة المحتلة قتل عشرين رجلا أو يزيد في مقابل القتيل منهم، وبعد محكمة صورية.

لم يصطنع الروائي أشخاصه، بل أخذهم بأسمائهم ومواطنهم، من واقع الحياة.. فبات الروائي مؤرخا أو صحفيا، ولا ضير فتاريخ كتابتها عام 1909م.

الميزة الفنية التي رصدها البعض أنها تسمو على فنون “المقامة” و”القصيدة”، و”الخطبة” أو “المقال الصحفي. وكانت أول عمل يتناول الفلاح وحياته.. من خلال قصة حب بين “ست الدار” والشاب “محمد العبد”.. ثم كانت واقعة الإنجليز المحتلين والمعركة التي انتهت بقتل من قتل، وفضيحة “الآخر العدواني”.

: رواية “فتاة الثورة العرابية”/للكاتب يوسف أفندي حسن صبري/ عام 1903م

نشرت تلك الرواية عام 1930م، إلا أنها كتبت في عام 1903م، ومن هنا كانت أهميتها التاريخية، وكونها معبرة عن تجربة حربية هامة في التاريخ المصري. فقد اندلعت الثورة العرابية، وكان لها ما لها مؤثرات. خبرها الروائي وسجل أحداثها وأفاعيل “الآخر العدواني/المحتل الإنجليزي” فيها.

وذلك من خلال فلاح مصري، وهو جندي الخدمة للقائد “أحمد عرابي باشا”، أحب إحداهن، يتزوجها في بداية الرواية (الفصل الأول)، ولكن لم تتم لهما الحياة الهادئة المستقرة، على الرغم من حبه لها، بسبب أحداث الثورة وحروبها.

.. كيف تبدى “الآخر العدواني” في الرواية المعاصرة؟..

لن يدهش الراصد للرواية العربية في مصر خلال النصف الآخر من القرن العشرين، أنها رصدت وعبرت عن مجمل التجارب الحربية التي مرت بها مصر، والمنطقة العربية.. فالآخر العدواني هو (مثلا) الاستعمار.. سواء الإنجليزي أو الفرنسي أو الصهيوني.

إجمالا يمكن إبراز ملامح وخصائص “الآخر العدواني” في التجربة الحربية في الرواية المصرية بالتالي:

  • كانت النشأة الأولى والمخاض للرواية المصرية (العربية) بالمعنى أو الشكل الحديث، مرتبطا بالموضوعات الرومانسية. كما غلفتها مسوح الوعظ والإرشاد، عن نزعات عاطفية ودينية وتعليمية، وهو ما يتوافق مع النزعات الاجتماعية العامة.
  • لم تؤكد “الرواية” تواجدها الفاعل بين العامة إلا بعد رواية “عذراء دنشواى” التي تعتبر عرضا للمحاكمة العسكرية الإنجليزية لسكان قرية “دنشواى”، بعد الحادثة الشهيرة. وقد أعيد طبع الرواية عدة مرات في حينه نظر لشغف الجميع للاطلاع على الواقعة التي هي من أهم أحداث تلك الفترة سياسيا.
  • ليس أدل على أهمية الجنس الأدبي الجديد “الرواية”، وقدرتها على اقتحام باب “المقاومة، فتصبح صاحبة أكثر تعبيرا عما يموج في النفوس من وهج المقاومة للمحتل.. أن دخل محرابها الشاعر أحمد شوقي وكتب فيها، وأيضا “على مبارك وكتب روايته الوحيدة “علم الدين”. الأول لتعضيد البعد المقاومى المباشر بالاستعداد على مواجهة العدوان على أرض مصر (في زمن الفراعنة)، والثانية من خلال باب إبراز “الهوية” حيث أوضح العلاقة بين الشرق والغرب، أو الأنا والآخر.
  • كما لا يمكن إغفال تجربة رواية “فتاة الثورة العرابية” التي كتبها “يوسف أفندي حسن صبري” حول أحداث الثورة العرابية.
  • قد تلزمنا الموضوعية الإشارة إلى أن قراءة تلك الأعمال الآن بعين خبيرة، يلحظ القارئ قدر المباشرة وإقحام الأحداث والتكرار.. وغيرها من المآخذ الفنية التي تعد من أوليات كتابة الرواية الآن ضرورة تلاشيها.
  • مع الحرب العالمية الأولى تحديدا نضجت تقنيات الرواية نسبيا، كما أضافت أحداثها معينا هاما للرواية.. يكفى الإشارة إلى أحداث ثورة 1919م التي باتت من أهم الأحداث في العديد من الروايات فيما بعد.

وقد برزت الأسماء الهامة في سماء الأدب والرواية، منها: طه حسين، توفيق الحكيم، سعيد العريان، يحيى حقي.. وغيرهم.

كما برز مؤسس الرواية العربية المعاصرة ورائدها الفني “نجيب محفوظ” إلا بعد أحداث الحرب العالمية الثانية.

  • أما جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، فهم هؤلاء الذين رسخوا لفن الرواية، وأصبح

 إنتاجهم فيها هو البناء الفني للرواية.

 ومنهم: “يوسف الشار ونى- يوسف السباعي- يوسف إدريس- فتحي غانم- أمين

 ريان محمد صدقي – عبد الحليم عبد الله… وغيرهم.

  • ثم كانت نكبة 1948 في فلسطين، والتي بدأت ولم تنته، وأصبحت معينا للكثير من

 الأعمال الروائية. (نشير سريعا إلى رواية فديتك ليلى/أو دماء على الرمال ليوسف

 السباعي).

  • أما معارك العدوان الثلاثي على بور سعيد في 1956م، وقد كانت سببا في مولد أول روائية مصرية وربما عربية بالمعنى الفني “لطيفة الزيات” وروايتها “الباب المفتوح”.
  • بعد تلك الحرب في 56، شهدت الرواية المصرية/ العربية طفرة لم تشهدها من قبل.. فنيا وكميا.. وربما يرجع هذا إلى جملة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر.

نشير إلى بعض أسماء الروائيين: “ادوار الخراط، حسن محسب، ثم جيل الستينيات علاء الديب، يوسف القعيد، عبدالحكيم قاسم، جمال الغيطانى. محمد البساطى، مجيد طوبيا، بهاء طاهر… وغيرهم.

  • ولم تلق تجربة “حرب اليمن” بصمات على الرواية!لم تكتب سوى: “رواية “رجال

 وجبال ورصاص” لفؤاد حجازي، ورواية “حرب اليمن” لصبري موسى، التي نشرت

 في مجلة “روزاليوسف” ولم تنشر في كتاب. وربما من المناسب هنا إبراز ملامح “الآخر العدواني”، مع علاقته بأدب الحرب وبالتالي أدب المقاومة عموما.

فالمتابع يعلم أن “الآخر العدواني” في معارك اليمن ملتبس، ولن نصدر حكما سياسيا، إلا أن القارئ المتابع لفكرة الآخر المعتدى، والتي غالبا ما تعبر عن نفسها في روايات التجربة الحربية.. لم تكشف عن نفسها في تجربة الحرب في اليمن.

  • أما وقد حدثت النكسة في عام 1967م، ثم كانت حرب الاستنزاف بعد تهجير سكان

مدن قناة السويس، ثم معارك أكتوبر 1973م.. وكلها تكفلت بجيل كامل بدأ معها ومازال يعطى على الساحة الأدبية وقد رسخت أقدامه. منهم: ” فؤاد حجازي- إبراهيم عبد المجيد- السيد نجم- علاء مصطفى- محمد الراوي- فتحي امبابى- سمير عبدالفتاح- مصطفى نصر- فؤاد قنديل – سعيد بكر- أحمد حميدة – قاسم مسعد عليوه-محمد عبدالله عيسى- سيد الوكيل- ربيع الصبروت.. وغيرهم.

  • كما رصدت الرواية في مصر الحرب العراقية الإيرانية، حرب الكويت، والحرب

 الأهلية اللبنانية… وغيرها، وقد تبدلت وجوه “الآخر العدواني” وتغيرت من مكان إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى.

مما سبق يمكن التأكيد على عدد من الحقائق:

: أن”الآخر العدواني” عنصر فاعل في رواية أدب الحرب، على الرغم من تنوعه وقوة تأثيره.

: إن التجربة الحربية لها تأثيرها الفاعل والدائم على جنس الرواية في مصر.

: أن الروائي المصري لا يرى انفصالا بين أحداث الجسام مثل “التجربة الحربية” سواء كانت في مصر أو غيرها من البلدان العربية. وبالتالي الآخر العدواني عنده ليس محددا باسم دولة ما أو حالة ما، بقدر تحديده بالفهم الخاص بهذا الآخر لنا أيضا.

: لم تكن زاوية الرصد للروائي المصري مكتفية بالجانب المباشر من أدب الحرب، بل هناك العديد من الروايات التي تتسم بالفنية والتقنية العالية.

: لعبت التجربة الحربية دورها الأكيد في إثراء فن “الرواية المصرية / العربية. وهناك من الأسماء من أخلص للتجربة ومازال يعطى في مجالها باعتبارها تجربة “جيله”.

: بروز تقنية جديدة لم تستخدم من قبل في الرواية العربية.. وهى التوثيق والتسجيل. الطريف أن نشأة هذه التقنية على يد الروس بعد الحرب العالمية الأولى كان وليد التجربة الحربية (الحرب العالمية الأولى).

وقد مارسها الروائي “صنع الله إبراهيم” في رواية “بيروت.. بيروت” حول الحرب الأهلية في لبنان.

: لم يبرز للمرأة دورا رئيسيا في الرواية الحربية المصرية.. سواء مع الروائيات أو كشخصية روائية. على العكس من الرواية العربية الحربية ببعض البلدان العربية مثل فلسطين والعراق وأخيرا الكويت.

ولا يبقى إلا التأكيد على أن التجربة الحربية ارتبطت بالحياة على الأرض المصرية (مثلما هي على الأرض العربية) وأضافت إلى تراثها وخبراتها.. بل وحضارتها التي لم تهدأ الحروب على أراضيها طوال تاريخها !!

.. من صور الآخر العدواني في الرواية (مصر):

-الآخر العدواني المباشر.. رواية”الرفاعى”/ “جمال الغيطانى”

تقع الرواية في ثلاثة أقسام : “العد التنازلي” حيث زمن أحداث معارك أكتوبر73. وقد قدم فيه الروائي صورة بانورامية لانتصارات ومنجزات تلك المعارك، متضمنا الشخصية المحورية”الرفاعى”، وهو قائد مجموعات القوات الخاصة والتي عادة ما تكلف بمهام لا يعلن عنها، وقد تبقى لفترات طويلة غير معلنة، إلا أنها دوما للتمهيد أو للإعاقة.

القسم الثاني “التكوين” وهو ارتداد زمني سابق عن أكتوبر73. بداية من هزيمة يونيو67 ومرورا بجمع الشتات، والتدريب العنيف حيث الرفاعى يتجلى مخلصا لقضية الأرض ولمهمته، ثم العمليات البسيطة التي تم تنفيذها عبر شاطئ القناة، إلى معارك “حرب الاستنزاف” التي شهدت بطولات، ربما لم تسجل بكاملها حتى الآن. وان قدم “الغيطانى” بطله “الرفاعى” على قدر وافر من الحب والتقدير، وسجل له ولمجموعاته أعمالهم التي قد تبدو شبه معجزة.

والقسم الثالث “النشور” حيث استشهد الرفاعى، وتحول إلى حكاية أو أسطورة يردده البسطاء من الناس والخاصة. كيف لا يحدث ذلك وهو الذي استشهد من أجلهم. وكأنة أسطورة إيزيس وأوزوريس، فقد تولت الزوجة في هذا القسم مهمة الراوي (في أغلبه) وكذا رجاله من الضباط والجنود. فأصبح الرفاعى رمزا متجددا للبطولة.

وان كان القسم الثالث فنيا وظف فن الحكاية الشعبية، والأسطورة، فحياة “الرفاعى” من الثراء بحيث أضافت وربما أوحت إلى الكاتب. فقد كانت شخصية الرفاعى فيها من العمق والصدق والأمانة العسكرية مع الرغبة في التضحية والفداء، ما جعلها مادة ثرية للراوى. فهو الذي اشترك في العمليات الفدائية الفلسطينية، ومع المجموعات الخاصة للقوات السورية. كما كان من النشاط والفاعلية بمصر بحيث نفذ عمليات صعبة وشبه مستحيلة في الصحارى والبحار، أعلى الجبال وفى جزر البحار.

وليس جديدا الإشارة إلى أن الروائي عمل مراسلا حربيا خلال فترة ما قبل أكتوبر 73، وقد نشر تحقيقا صحفيا حول تلك الشخصية الطولية، ثم كتب قصة قصيرة عنها “أجزاء من سيرة عبدالله القلعاوى”.. والرواية هي المحطة الأخيرة التي حرص الروائي على تضمينها بكل السبل إلى الأعمال الهامة في “أدب التجربة الحربية” وبالتالي “أدب المقاومة”.

ترجع خصوصية تلك الرواية، إلى أن الروائي عمل مراسلا حربيا وهو ما انعكس على طريقة المعالجة والتناول الفني للرواية (راجع كتاب “الحرب: الفكرة-التجربة- الإبداع/ السيد نجم/ هيئة الكتاب). ونضيف أن الاهتمام بالبعد الإنساني للشخصية، بلا افتعال وصوت زاعق أضاف إلى العمل بعدا جعل الرواية بكائية مرة واحتفالية مرة، وفى كل قراءة تبقى الشخصية وأفاعيلها راسخة في الوجدان وهو مؤشر الفن الحق.

-الآخر العدواني المتعدد (العدو والطبيعة).. رواية “السمان يهاجر شرقا/السيد نجم”

تبدأ الرواية: “التففنا حول الترانزيستور لسماع بيان المفتى، علت صرخة بين أرجاء الوحدة “المستشفى الجراحي تحت الأرض رقم5”.. غدا الأول من شهر رمضان، تبادلنا التهنئة، داعين الله بصدق: “ربنا لا يعوده علينا ونحن هنا”! ص1

وتنتهي الرواية : ” اليوم سوف ينتهي الحصار اعتبارا من ساعة حضورهم”.. انشغل الجندي في حذائه، أخرج مسمارا منها بأسنانه.. حفر هذه الجملة : “بعد مضى 134 يوما انتهى الحصار في كبريت…. الضفة الشرقية لقناة السويس”.. في الأول من مارس 1974م. “

بتلك الفقرتين تبدأ وتنتهي الرواية. تلك التي بدأت مع أيام قليلة قبل السادس من أكتوبر 1973حتى انقضاء بضعة شهور قليلة لا أكثر.

تعبر الرواية عن “تجربة الحصار”، ذاك الذي كان وعبر عنه الجنود حول حالتهم النفسية طوال السنوات السابقة عن بداية المعارك. أو الحصار الفعلي، بعدما انتقل جنود كتيبة المشاة وعبروا منطقة نقطة دشمة كبريت الحصينة على الضفة الشرقية للقناة.

تقع الرواية في عدة فصول: “العصفور لا يغرد ولا يبكى”.. “الطيور الفزعة”.. “السمان يهاجر مرتين”.. “الثيران تلتهم التورتة”.. “الجمل يجتر ما في جوفه”.. “ذكر النحل يموت في أنثاه”.. “الطيور لا تأكل عشها”…

وتحت دلالة تلك العناوين، عايش القارئ تفاصيل التجربة.. الملل والضيق النفسي الذي يعانيه الجنود.. بداية رفع درجة الاستعداد مع استدعاء الجنود الإجازات.. التأهب لاستقبال الأطباء المدنيين المكلفين للعمل بالوحدات الطبية العسكرية، ومنه المستشفى الخامس (وهى أول وحدة طبية عسكرية بعد خط القناة).. مفارقات الحياة اليومية للجنود حتى بداية المعارك على غير توقع من الجميع.. لم يشعر أفراد الوحدة الطبية بالمعارك إلا بعد انقضاء ثلاثة أيام وحيث بدأت معارك الدبابات.. مع كل مصاب خطوة من خطوات المعارك على أرض سيناء.

أما وقد الحق “طارق” الطبيب المجند على إحدى وحدات المشاة والتي لم تعبر خلال الأيام الأولى من بداية المعارك، أصبح أحد أفرادها.. فور التحاقه صدرت الأوامر بالعبور.. تم العبور وبدأت المعركة بين الجنود المصرية وأفراد حصن كبريت الإسرائيلي.. نجح الجنود في السيطرة على الحصن وأسر الجنود الإسرائيلي..

ومع ذلك بدأ الحصار أيضا، فقد أحاطت القوات الإسرائيلية بحدود الحصن والمنطقة القريبة منه، لانتهاز أقرب الفرص للانفصاد على المصريين، واسترداد الحصن.

وبدأت مفارقات وبطولات الحصار.. انه حصار قاتل، حيث دانات المدافع والغارات الجوية، والهجمات بالأسلحة الخفيفة ليلا. كما أنه الحصار الذي بلا ماء ولا طعام!! ومع ذلك نجح الجندي محمود من ابتكار جهاز تحليل مياه القناة المالحة !!، ونجح الضابط “أسامة” أو “الذئب” في الهجوم على أفراد نقاط المراقبة الإسرائيلي، والاستيلاء على المواد الغذائية بموقعهم!!، ونجح الضابط “سامح” في نقل المصابين ليلا إلى أقرب وحدة عسكرية مصرية وهى مهمة قاتلة وخطرة.

 نجح الكل في الصمود وتحدى الحصار.. على الرغم من المعارك المتجددة يوميا، وعلى الرغم من استشهاد واصابة العديد من الجنود، لعل لحظات استشهاد العقيد “إبراهيم عبد التواب” من أكثر اللحظات تأثيرا على القاري.. فقد صلى ركعتين في إحدى المواقع، وأشار إلى موقع سجوده وقال لأحد أفراد وحدته : إن استشهدت أدفن هنا”.. وقد كان.. !!

وبقى صمود الجنود بطولة حقيقية أمام حصار شرس للعدو، وطبيعة صحراوية جافة تحت الحصار.

-الآخر العدواني غير المباشر.. “مراعى القتل”. /فتحي امبابى”

.. كانوا ثلاثة أصدقاء، جمعتهم “قروانة” الوحدة العسكرية، ومعارك الاستنزاف(ما بين عامى67حتى1970)، ثم معارك أكتوبر73. ضاقت بهم سبل العيش (كما أغلب شباب مصر في تلك الفترة) بعد تسريحهم من الجيش. سافروا إلى “ليبيا” حيث الأمل في مصدر رزق جديد في مكان جديد. فكانت الرواية التي تلخص شكوى الاستلاب والتهديد بالموت حتى من أبسط حقوق الإنسان في لقمة تسد الرمق وفى صباح هادئ جديد.

عالج الروائي فكرته من خلال التوازي والاسترجاع، فلم تكن الحياة قبل التسريح من الجيش أقل أو أكثر من الحياة بعده.. في كل منهما التهديد بقنص الحياة، ربما يبدو ذلك مبررا وواضحا لمثل هؤلاء المعرضون لغدر عدو لا يبعد عن وحدتهم العسكرية سوى عرض المجرى المائي لقناة السويس. غير المبرر هو أن يبقى الإحساس نفسه، على الرغم من غور ملاجئ الأعداء إلى أغوار سيناء البعيدة (قبل التحرير الكامل لسيناء).

وقد استعان الروائي بحيلة فنية أضافت بعدا جماليا إلى سخونة الموضوع وأهميته. استعان بأحد النصوص الشفهية (المعاصرة) لتغريبة بنى هلال الشهيرة. وهذا الاستحضار التراثي أضاف إلى الحالة بعدا فكريا يستثير العقل للتأمل أيضا.

يقول فيما قال:

 “كنت في جلدي زي بعدى عن ملاحي

 وأوثق صدهم قلبي جراحي

 فسرت من الهوى قدرا وصاح

 ألا يا ليل.. هل لك من صباح.. ؟”

في البداية نلحظ تكرار الجملة: “الزمن قطر غشيم لا يرجع للوراء”. وهى إسقاطه لمعنى ما يريد الروائي تبليغه للقارئ، مع التكرار نتعاطف ونسأل : هل يعنى القطار حقا أم الزمن؟؟.

أما وقد بدأت الرحلة الغامضة، فلا حيلة إلا اعتلاء الذكرى والتذكر. لم يكن “التذكر” عنا حيلة فنية مقحمة ومفتعلة، كان ضرورة فنية.. أما أن يقف “عبدالله” ورفقائه لسؤال المرشد من قبيلة “أولاد على” عن طريق اختراق السلك أو الحدود الرسمية بين ليبيا ومصر، فيقول لهم بتعال وغرور غير مبرر:

” كنك يا تيس يا عرس.. راع تنطق بكلمة ولا نضربك بالنار، عهد الله بنترك فيك هون للديابة”

وفى لحظات الغروب تزداد مشاعر الاغتراب، فليس في لون المياه الزرقاء البعيدة جمال، ولا في غروب الشمس وشروقها على أرض الأفق والصحراء. ويتذكر الجميع أحداث مظاهرات الجامعة بعد النكسة حيث جندي الأمن المركزي يقاتل الطلبة بكل جدية ونشاط!. ولا يبقى أمام القارئ سوى الربط الخفي /الظاهر بين قهر ومأساة المقاتلة على خط النار مع العدو الإسرائيلي، وعدو آخر على خط نار آخر !!

ومثلما كانت مشاهد القتلى والجرحى على أرض المعارك هناك، كانت المشاهد نفسها على أرض أخرى وعدو آخر.. لكنه هذه المرة ليس إسرائيليا.. وهو ما يعد تفسيرا ومبررا للعنوان الأصلي للرواية “مراعى القتل”.

كتب في ص47: ” استيقظوا واحدا بعد الآخر، وأمامهم كانت تسبح سبع جثث من المتسللين المصريين الذين جرفتهم سيول الأمس بينما كانوا عائدين، تسد مدخل مخر السيل”.

تتواصل فصول الرواية.. ما بين إعادة حوارات وأحداث ما كان بعد معركة 67 وحتى 73، وما هو كائن وممارس فعليا في طريقهم البرى إلى أعماق ليبيا.

وصلوا حدود طبرق، وما زال الغموض يكتنف مصير الجميع، فيأتي الليل.. الليل الحقيقي ويأتي معه الليل النفسي المليء بالخوف من صباح جديد، فيقول أحدهم:

 “ألا يا ليل.. هل لك من صباح؟؟” ص111

وتعد الرواية من الروايات القليلة التي تناولت موضوع مصير الجندي العائد من الحرب، بالإضافة إلى كونها كتبت بقلم أحد المحاربين، كما أنها كتبت بعد فترة مناسبة من انتهاء المعارك، وهو ما تجلى في وضوح البعد الجمالي الفني، الذي انعكس وعبر عن نفسه بتلك التقنيات الفنية المستخدمة، وبما يمكن أن نطلق عليه “النفس الهادئ” في التناول والصياغة، وهو ما أكسبها مذاقا خاصا.. جعلت من الآخر العدواني خلفية زمانية/مكانية، ودافعة للذات، وهو ما يكشف البعد الدلالي للآخر بأنه جزء من الذات!

.. من صور الآخر العدواني في الرواية (الجزائر):

أما وقد وضعت الحرب العالمية الثاني أوزارها، فظهر فن “الرواية” خجولا كما بالمقارنة بالرواية التي كتبت في الشام ومصر، وربما في تونس والمغرب أيضا. ويجب الإشارة إلى صورتين للرواية في تلك الفترة. صورة الجزائري الذي يكتب أدبا عربيا باللغة الفرنسية، وأدبا لشباب فرنسيين يعيشون في الجزائر ويكتبون بالفرنسية (منهم البير كامى).

لعل أشهر هؤلاء الجزائريين الذين يرون بالفرنسية: ” مولود معمري – مولود فرعون ” وغيرهما، وقد أخذ على أعمال ذاك الجيل الآتي:

: أن الرواية تخاطب القارئ الفرنسية (حيث كانت تطبع وتنشر غالبا).

: عنيت تلك الأعمال بالمكان (عربيا)، سواء داخل الجزائر أو في إحدى البلدان العربية.

: رصدت الروايات العادات والتقاليد وحتى المظاهر الشعبية في المأكل والملبس، بلا دلالة فنية، حتى أن الغرب استقبلها من باب الطرافة والشوق لمعرفة الغريب العجيب.

: كان البعد الاجتماعي لا يحمل هما نقديا، أو أيدلوجية للإصلاح.. فكانت صورة المرأة (مثلا) يعرض بإفاضة مع كل سلبيتها، من أجل شد الانتباه والتشويق.

: لم تخل بعض الأعمال من إبراز ظواهر التفسخ الاجتماعي، في مقابل التقدم الفرنسي.

إجمالا يمكن القول بأن إنتاج تلك الفترة لم يعبر عن هم الناس وأحلامهم، إما لغلبة التأثر بالعملاق الفرنسي، واما لعدم الثقة في الذات، واما لتحاشى غضبة المستعمر.

فكان الرأي النقدي حول تلك الأعمال الروائية، والذي كتبه الناقد الفرنسي “جان بومبير” الذي كتب يقول:

“يجب أن نقر بادئ ذي بدء، بشيء مخيب للآمال.. لا يوجد ولم يوجد قط أدب جزائري.. أدب

 مختص بالجزائر وحدها، أدب يتأكد طابعه بوجود لغة وجنس وأمه جزائرية بمعنى الكلمة”

 وبدأ الجهاد المسلح، مات الجزائريون في سبيل التحرر، لتصبح تجربتهم الحربية نبراسا لكل الشعوب، حيث تفرغ جنود الاحتلال لقمع الثوار، بعد أن تخلت فرنسا عن وعدها بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية. لم تنفذ فرنسا وعدها ولم يصمت الشعب الجزائري.

ويعتبر عقد الخمسينيات (بداية الثورة) هو زمن فارق بين عهدين، وهو ما تجلى في الأدب والرواية تحديدا.

نشير بداية إلى أدباء “مدرسة 1952”.. “مولود معمري” الذي نشر في فرنسا رواية “التل المنسي”، ثم رواية “نوم هادئ” عام 1955. أما “مولود فرعون” فقد نشر عام 1954رواية “أيام القبائل”.. كما نشر “محمد ديب” ثلاثيته الشهيرة: “الدار الكبيرة”عام 1952، “الحريق” عام1954، ثم “النول” في عام 1957.

وكلها كتبت بالفرنسية ونشرت بفرنسا.. بصرف النظر عما تم من ترجمة للعربية. بدت تلك الأعمال الأكثر نضجا في تاريخ الرواية الجزائرية.. (والتي بلغت حتى عام 1995م خمس وسبعين رواية- حسب الببليوجرافي التي أعدها د. حمدي السكوت). وهو ما جعل النقد الفرنسي يستقبل تلك الأعمال بترحيب اكثر عما سبقوهم، فقالوا كتبت الرواية الجزائرية وان كانت باللغة الفرنسية. وجملة ملامح المقاومة تبدو جلية في تلك الأعمال.

أما المرحلة التالية وهى كتابة الرواية باللغة العربية، فقد برز كل من “الطاهر وطار” وروايته التي يؤرخ بها مولد الرواية الجزائرية الناضجة باللغة العربية.. رواية “اللاز”. ثم “عبد الحميد بن هدوقة ” وروايته “ريح الجنوب”.

وقد رافقت الأسماء السابقة أسماء: “آسيا جبار”، “أحمد رضا حوحو”، و”رشيد بوجدرة” وغيرهم. وتلتهم أسماء: “أحلام مستغانمى”، “حفناوى زاغر”، و”محمد سارى” وغيرهم.

-الآخر العدواني في الحياة اليومية.. “ثلاثية محمد ديب”

نشرت الثلاثية ما بين عامي 1952-1957م بالفرنسية (الدار الكبيرة-الحريق-النول). وقد ترجمت ونشرت بدار الهلال بالقاهرة.

تدور أحداث الجزء الأول بمدينة “تلمسان” على مقربة من الحدود مع المغرب، ثم في دار كبيرة، هي دار “سبيطار”.. التي وصفها الروائي بقوله: “تشبه دار سبيطار أن تكون بلدة، رحابها الواسعة جدا تجعل من المتعذر على المرء أن يقول ما عدد السكان الذين تؤويهم على وجه الدقة. حين شق قلب المدينة وأقيمت شوارع حديثة حجبت العمارات الجديدة وراءها، تلك المباني القديمة المبعثرة التي بلغت من تراصها أنها تؤلف قلبا واحدا: المدينة القديمة ودار سبيطار الواقعة بين طرق ضيقة صغيرة ملتوية كأغصان النبات المتعرش كانت تبدو للناظر إلا قطعة من ذلك القلب الواحد.. ” الدار الكبيرة ص59

أقامت عدة أسر داخل الدار، لكل أسرة غرفة. وكانت أسرة “عيني” التي فقدت رجلها، فتعول المرأة أولادها.. ويعرض الكاتب جانبا من الحياة السياسية والاجتماعية للمجتمع كله. ينتهي هذا الجزء مع مقدم رجال الشرطة للقبض على المناضل “حميد سراج” الذي يعيش مع أخته في إحدى غرف الدار الكبيرة.

وفى الجزء الثاني “الحريق”، ينتقل الكاتب إلى مشاكل الفلاحين(الصورة المكملة للمجتمع في المدينة) من خلال قرية “بوبلان”. في هذه القرية تقيم إحدى بنات الدار الكبيرة بعد زواجها من أحد الفلاحين. أثناء زيارة أختها لها مع “عمر” جارها تلتقط الأحاديث والأحداث التي تدور بالقرية.. ويتم عرض الحياة الاجتماعية والسياسية في القرية.

فتكون جملة النماذج النضالية والخونة أيضا.. أمثال “قرة على” الذي اجتمع مع المدير (ممثل السلطة) أثناء الإضراب الذي قام به العمال الزراعيين، وقد قال المدير في تلك المناسبة:

 “لابد لكل بناء من أساس ونجن نريد لبنائنا أساسا أخلاقيا هو الاتحاد. “.. “لاشك أن هناك لفيفا من الانفصاليين الخطرين أو الحالمين الأغبياء يعملون ما استطاعوا التشويش عقول الشرفاء من الناس. وهذا أمر قبيح خال من الشرف، قال ذلك المدير ثم نهض وشكر لفترة ما يقدمه للسلطات من معونة”. الحريق ص108

وتوجد النماذج الإيجابية مثل “حميد سراج” وهو زوج “زينه” وقد استشهد في سبيل وطنه. ليبقى حضوره الفني المستمر والملموس طوال العمل عن طريق تذكر واسترجاع زوجته له في أحاديثها عنه مع الجيران: “.. انه حين مات لم يترك لنا ما نأكله في الليلة الأولى بعد موته”.. الدار الكبيرة ص57

بجانب النماذج الإيجابية والخونة، توجد النماذج السلبية، تلك التي تقى نفسها باللامبالاة، مثل شخصية “بوشناق وابن أيوب”.

ويتشكل المجتمع بالنماذج الثلاثة، كما يتشكل الوعي العام، وقد مهد الوعي للثورة على كل حال. بدأ الفلاحون يتكلمون عن وطأة المظالم ويفهمون أن الأجور التي يدفعها لهم المستوطنون لا تكفى.. فكان البؤس والفقر والمرض.

أما الجزء الثالث “النول” فحول طبقة العمال في مصنع نسيج “ماحي بوعنان”، ويعرض الروائي لصورة القهر من خلال “عيني” التي ذهبت للمصنع تطلب عملا لطفلها، ما أن وقفت: “ولم تصل إلى الكلام عن الغرض الذي جاءت من أجله إلا بعد ربع ساعة من الزمان، فلما عرضت على المحسن ماحي بوعنان أنها تلتمس لابنها عملا تنهدت تقول: “هذا اليتيم وهى تمسك بكم عمر الذي ظل واقفا خلفها، وفى الوقت نفسه ارتعش واحمر وأوشكت أن تنفجر باكية فدمدم الرجل يقول: أرسليه إلى مصنعي.

هذا هو الكلام الوحيد الذي سقط من شفتيه، فخرت (عيني) راكعة أمامه تشكره” النول ص18

.. ويتابع الكاتب عرض تأثير حرب التحرير، بلا صراخ أو شعارات، وذلك من خلال العمال والفلاحين وصورة من صور نضالهم في مواجهة المستوطنين وجنود الاحتلال والشرطة.

-من صور الآخر العدواني في الرواية (فلسطين):

يقول “د. محمد عبدالله الجعيدى” في تقدمته للببليوجرافي الهام عن الأدب الفلسطيني: “وللتدليل على الإهمال الذي لاقاه الأدب الفلسطيني، لأسباب غير موضوعية، تكفى الإشارة إلى أنه حتى عام 1967م، لم يعرف على صعيد البحث الجامعي غير أطروحتين جامعيتين. الأولى بعنوان: “حياة الأدب الفلسطيني الحديث من النهضة حتى النكبة” للباحث “عبد الرحمن ياغى (عن جامعة القاهرة). والثانية بعنوان: “موقف الشعر العربي الحديث عن محنة فلسطين من2-11-1917الى 31-12-1955للباحث “كامل السوافيرى” (عن جامعة القاهرة). “ص10

مع ذلك فقد لاقت القضية الفلسطينية وأدبها ما تستحقه، ولا شك أصبحت هي القضية المركزية لكل القضايا السياسية في المنطقة، وربما هي الأصل ولولاها ما كان كل ما جرى ويجرى حتى اليوم في المنطقة.

لقد أطلقت التجربة الحربية عام 1967م بكل أبعادها العسكرية والسياسية.. الشعلة(على الرغم من كل شئ)، ولعلها نبهت من نالت منه الغفلة. وبدأ الأدب الفلسطيني يلقى الاهتمام المستحق منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.

في البدء سعى العالم إلى أدباء الأرض المحتلة للتعرف على آدابهم، أليس الأدب هو المرآة وبحق، ثم فتحت الجامعات العربية والأجنبية أبوابها لمزيد من الدرس.

أول مطبعة دخلت فلسطين عام1830م بمعرفة الإرساليات الأجنبية، وأول مطبعة وطنية أحضرها “باسيلا الجدع” إلى حيفا عام1908م.. وظهرت بعض المطبوعات الأدبية وشبه الأدبية.. فكانت أول مجلة قصصية شهرية على يد “بندلى بياس مشحور” عام1924م، وتعدد المجلات التقليدية والثقافية. وطبعت الكتب وخصوصا كتب الشعر، حتى أن مؤسسة ثقافية مثل “لجنة الثقافة العربية ” بالقدس.. نظمت أول معرض للكتاب الفلسطيني عام1946م.

فلما كانت نكبة 1948م، فقدت أغلب المنجز المطبوع ضمن ما فقدته الثقافة المحفوظة بين دفتي الكتب، بعد أن فقد الفلسطيني الأرض والبيت، ماذا عساه أن يحمل معه إلى الخيمة.. وهو ما عبر عنه الكاتب “عيسى الناعورى” في كتابه “أدب المهجر”.. سواء بالنسبة له شخصيا أو لغيره من الأدباء الفلسطينيين في تلك الفترة.. لا أحد يحمل كتابا.

ومع ذلك فقد بدأت بعض المطابع والمؤسسات الثقافية في تبنى الأدب الفلسطيني (بعد النكبة)، إلا أنه لم يكن بالقدر الوافر والواجب الملائم للقضية وضرورة التعبير عنها، بسبب القهر السياسي والوضع الجديد الذي أصبحت عليه البلاد.

ربما التقسيم المناسب للأدب الفلسطيني (خصوصا للرواية)، يلائم القسمة حسب “التجربة الحربية” التي عاشها الشعب الفلسطيني.

المرحلة الأولى.. الفترة التي تبدأ مع بدايات القرن العشرين وحتى عام النكبة (1948م).

المرحلة الثانية.. الفترة من 1948 حتى 1967م.

المرحلة الثالثة.. الفترة من 1967 حتى بداية الانتفاضة الأولى 1987م.

المرحلة الرابعة.. تلك الفترة التي عبرت عن انتفاضة الحجارة، وانتفاضة القدس…..

.. توجد دراسات سابقة(موضحة بعد) تتضمن فن الرواية الفلسطينية.. وإجمالا فان المرحلة الأولى وقد شهدت ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الإحيائي الذي ينتمي إلى ملامح الأدب العربي عموما والانتماء إليه، وبرز جليا في الشعر وليس في الرواية- أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الرومانسي، وربما هروبا من الواقع القاسي المعاش ورفضا له، لكن دون أن ينسى أصحابه الوطن، فكانت الروايات: “صراخ في ليل طويل/جبرا إبراهيم جبرا”- “وحدي مع الأيام/عبد الحميد ياسين”- “عابرو السبيل/ نجوى قعوار فرح”.

أما الاتجاه الثالث، وقد تبلورت الأحداث وأنتجت أفكارها وأناسها، فكان الاتجاه الواقعي النقدي. لقد اشتعلت الثورة هنا وهناك، واستشهد الأدباء قبل غيرهم. (يرصد هنا أن أول قصيدة كتبت على الأوزان الحرة في فلسطين كتبها “محمد إسعاف النشاشى” في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي وكانت مرثية في الشاعر “أحمد شوقي”، كما شهدت تلك الفترة أول قصيدة نثرية للشاعر”حسن البحيري” بعنوان “أحلام البحيرة”.. حيث كانت فترة فوران وتمرد على الواقع المعاش هناك والأحداث الدموية بداية من “ثورة البراق”، ثم الثلاثاء الحمراء حيث اعدم الشيخ فرحان السعدي، واستشهاد الشيخ عز الدين القسام، كما أجهض الإضراب العام بكل شراسة وقسوة المستعمر. )

كما أن تلك المرحلة السابقة على عام48، ومع اقتراب التاريخ المشئوم، بدت إرهاصات التوجس من “النكبة”، وقد عبر عنها الشعراء أسرع وأوضح من الروائيين. وهذه الروايات هي : “البطلة/خليل بيدس”، “الظمأ/ محمود سيف الدين الإيراني”، “، “أي السبيلين/نجوى قعوار”، و”فلسطين نستغيث/ عيسى العيسى”، ثم “مذكرات دجاجة/ اسحق موسى الحسيني”.. وتعد الأخيرة هي أول رواية فنية وذات تقنية تتجاوز ما سبقها في كل إنتاج الرواية الفلسطينية وقد نشرت عام 1943م.

أما المرحلة التالية – حتى 67- فقدت شهدت ميلاد الإذاعة الفلسطينية عام 1964م لأول مرة، وكانت البرامج الأدبية التي تعنى بأدب الوطن، ثم كان كتاب “أدب المقاومة” لغسان كنفاني الذي وضع المصطلح على طاولة البحث وفى ذمة التاريخ لأول مرة، حيث عرض لفكرة “المقاومة” في الأدب الفلسطيني، وقد نشر عام 67 ثم مزيد ومنقح في طبعة تالية في 1968م.. (كما صدر كتاب لا يقل أهمية في الشعر الفلسطيني بعنوان “ديوان الوطن المحتل” عام 1968م/ يوسف الخطيب).

صحيح أن الخبرة المضافة مع التجربة المعاشة ليس بالضرورة تثمر فورا أدبا معبرا وجيدا، خصوصا في فن الرواية. إلا أنه يمكن الإشارة هنا إلى تلك المرحلة تحديدا كانت للشعر ومنجزاته التي عبر عن نفسها على مستوى العالم العربي، والعالم الخارجي، بعد 67، فكان الشعراء الذين أضافوا إلى إنتاجهم إنتاجا أكثر توهجا، وشعراء ولدوا مع النكبة أو قبلها، من الأسماء الواجب الإشارة اليها: ( إبراهيم طوقان- فدوى طوقان- عبد الرحمن محمود- توفيق زياد-مؤيد إبراهيم- توفيق زياد- محمود درويش- سميح القاسم- سالم جبران.. )

أما الرواية فقد صدر منها: “صراخ في ليل طويل/ جبرا إبراهيم جبرا”، “فداء فلسطين/ رجب توفيق”، “المجموعة 778/ توفيق قناص”.. وغيرها. لم تكن الرواية بثقل وقيمة الشعر فنيا خلال تلك المرحلة.

ومع كل ما كان في 67 خرج الفلسطيني إلى معنى الثورة، تتأجج ويعلو النشيد حتى عبرت عن نفسها في انتفاضة 1987م (بعد أن صمتت البنادق في 1965 لظروف سياسة دولية وغيرها).

لعل أوضح ملامح تلك الفترة (التالية ل67) أن كثرت الدراسات العربية وغيرها حول الأدب الفلسطيني، وبالذات الجانب المقاومى فيه.. مثل دراسة”محمود درويش شاعر الأرض المحتلة/ رجاء النقاش- القاهرة1969م” و”الحركة الشعرية في الأرض المحتلة/ صالح أبواصبع- بيروت 1979″.

والآن يمكن الإشارة إلى عدد غير قليل من الأسماء الروائية الفلسطينية، وقد احتلت موقعها الإبداعي عن أعمال عالية القيمة الفنية: جبرا إبراهيم جبرا – غسان كنفاني – رشاد أبوشاور- يحيى يخلف – غالب هلسا- نبيل خوري – سحر خليفة – ليانة بدر.. وغيرهم

كما أشار محمود قاسم ” في كتابه “الأدب العربي المكتوب بالفرنسية” عن “إبراهيم الصوص” الدبلوماسي الفلسطيني الذي شاء أن يخاطب الفرنسيين بلغتهم وطريقة تفكيرهم، فكانت روايته “بعيدا عن القدس”، تلك الروية آلتي يمكن أن تصنف برواية تجربة التهجير أو الطرد.. تلك التي ترتبط بالحروب. وقد عرض الروائي لتجربة طرد أسرة من بيتها في القدس حيث التشرد عام 1935م. أما وقد أحب أحد الشباب العربي “نبيل” الفتاة اليهودية الجارة “جابريللا”، ثم تزوجا.. وتمضى الحياة على الرغم من التناقض بين الزوجين بسبب الحب. وأرى في تلك الرواية خصوصية الكتابة بلغة غير العربية، وفى خصوصية التجربة.

-الآخر العدواني التاريخي.. رواية”الصبار”/ “سحر خليفة”

“أسامة” فتى فلسطيني اختفى لخمس سنوات بعد نكسة 67.. كان في إحدى دول الخليج.. أثناء رحلة عودة وقد قرر أن يصبح عضوا في العمل المقاومى. هبط بلدته لاحظ مالم يكن من قبل، فقد زادت الأموال بين يدي الناس، وزادت طلباتهم ورغباتهم مع زيادة التواجد الاقتصادي الإسرائيلي.

بدت الأمور أكثر وضوحا، مع زيادة تعامله مع الأقارب والأهل والجيران.. الأم تريد ترويجه، ابن العمة تائه بلا مرسى، حارس المزرعة يتعامل بواقعية مع الأحوال كلها: “لما كنا نموت بالجوع ما أحد سأل عنا”.. لا تزيد عنها إثارة للقلق إلا تلك النماذج من الخونة. العمال تركوا البيارة أو المزرعة الكبيرة للعمل في المصانع الإسرائيلية التي تعطى أجورا ودخلا أكبر.. حتى “عادل” القريب الشاب المشارك لاسامة في تفكيره الظاهر على الأقل، يعمل في مصنع إسرائيلي.

فشل أسامة في تجنيد عادل وغيره للانضمام إلى الثورة.. فوقع في الحيرة التي هي نتيجة سؤاله المباشر لهم: هل تريدون انتعاشا اقتصاديا مقابل الاحتلال؟!

تبلور التناقض بين توجه أسامة وعادل، وصل إلى حد التصارع بعد المكاشفة في حوار طويل، دل. يقول أسامة:

“أنا لا أصدق بأنك نسيت البلد والاحتلال”

“أنا لم أنس، بدليل أنى لم أتركها”

“أنا لم أتركها إلا لفترة قصيرة، وهاأنا أعود كما ترى”

“سمعت من العمة أنهم طردوك”

“تقصد لولا أنهم طردوني من هناك ما عدت هنا”

واتسع الشقاق بين خط وطني يولد من أجل مقاومة الاحتلال، وخط مستسلم للحياة اليومية ومشاكلها التقليدية.

وضح خط أسامة وبدأ عمليات مقاومة الاحتلال بطعن ضابط كبير على أرض الحي السكنى الذي يعيش فيه، ثم يهرب إلى الجبل ومن هناك تتوالى العمليات حتى كانت العملية التي انفجر فيها العمال العرب في طريقهم إلى الداخل الإسرائيلي.. حتى ولو مات فيها “عادل”، لكن عادل لم يمت لأسباب قدرية وأصيب قريب أو صديق آخر لكليهما “زهدي”.

تكبر الخلية ويزاد المتطوعون على العمليات الفدائية… وتتوالى صور القتل والتشريد وتفجير المنازل والاعتقال..

تصور الروائية تلك الصورة/ الصور على تتابع وصفى قائلة:

.. ” انفجرت الألغام. وتزعزع البناء، بدأت الحجارة تتساقط من السماء. وانطلقت زغرودة. زغرودتان. عشرة. وهكذا يفيق عادل، وتسرى بداخله “رعشة التمرد والنقمة”. والرغبة في البدء من جديد. وبعد أن انتهى كل شئ، مشى صامتا. واخترق الشوارع في صدر المدينة. وكان الباعة ينادون: غزاوى يا سمك. يافاوى يا بردقان. ريحاوى يا موز. وصاجات بائع العرقسوس والخروب. وبائع الجرائد ينادى: القدس. الشعب. الفجر. كيسنجر يبشر بحل القضية. وفريد الأطرش مازال يندب يوم مولده الشقى. والناس يشترون خبزا وخضارا وفاكهة”.

وتنتهي الرواية التي نشرت عام 1980م.

-الآخر العدواني المستبد.. رواية”رأيت رام الله”/مريد البرغوثى”

“الطقس شديد الحرارة على الجسر. قطرة العرق تنحدر من جبيني إلى إطار نظارتي.. غبش شامل يغلل ما أراه، وما أتوقعه، وما أتذكره”. عندما انتهى من أداء امتحان ليسانس الآداب بالقاهرة، كانت حرب يونيو 67، واحتلال “رام الله”، حيث منعت السلطات الإسرائيلية عودة الشباب إلى مدينتهم. وكانت بداية المنافي. فكانت الغربة الأولى حيث منفى الشباب وهم داخل أوطانهم، وحيث كانت قصيدته الشعرية الأولى منشورة بعنوان”اعتذار إلى جندي بعيد” وكأنها النبؤة، فقد نشرت بمجلة المسرح في الخامس من يونيو 67!!فلما عبر الجسر.. بعد ثلاثين سنة من الغربة وطول انتظار.. “الآن أمر من غربتي إلى.. وطنهم؟ الضفة وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين؟”. وبعد طول انتظار وإجراءات طالت عبر بوابة الصالة الحدودية والمبنى كله إلى الشارع: ” بوابة الأبواب/لا مفتاح في يدنا. ولكنا دخلنا/لاجئين إلى ولادتنا من الموت الغريب/ولاجئين إلى منازلنا التي كانت منازلنا وجئنا”، وبعد طول سؤال “مريد” على عنوان الدار التي يبحث عنها، اتصل بأحبابه في عمان والقاهرة، أخبرهم: ” أنا في رام الله”!!

.. ” الصباح الأول في رام الله. أستيقظ وأسارع بفتح النافذة: ” شو هالبيوت الأنيقة؟”.. سألت وأنا أشير بيدي إلى “جبل الطويل” المطل على رام الله والبيرة.. “مستوطنة”. “وكانت ذكريات الطفولة والمراهقة.. ثم كانت التيارات السياسية الداخلية والخارجية، العربية منها بالذات.. حرب 56 والوحدة بين مصر وسوريا ثم الانفصال والبكاء. وفى العودة تعرف “مريد” على وجوه عرب48: “أسميناهم لاجئين! أسميناهم مهاجرين!”. “من يعتذر لهم؟” “من يعتذر لنا؟”. لكن الاحتلال يمنعك من تدبير أمورك على طريقتك، إسرائيل تغلق أية منطقة تريدها في أي وقت تشاء.. انه موجز ما يقال عن حالة الكاتب في “هنا رام الله”.

.. “لكل بيت في دير غسانة اسم”.. وحيث التعرف على الأشياء والبحث في قاع الذاكرة البعيدة، ربما الأبعد من المتذكر “مريد” نفسه. البحث عن/في الجذور وان بدت بحثا في أصول ألقاب العائلات !.. لكن هناك الفتى الشهيد بسبب المظاهرات، وحنقه الأهالي من سلوك المحتل بمنع التوسع والبناء خارج حدود القرى… ولكنه في النهاية الإحساس السخيف: “سخيف أن تطرح في مسقط رأسك أسئلة السياح: من هذا وما هذا.. “. ومع هذا كله شعر الكاتب أنه عندما شاهد ماضيه ككلب ملقى على الأرض، تمنى لو يقبض عليه ليقذف به إلى أيامه التالية.

.. “لم أنبذ الرومانسية لأن نبذها موضة فنية، بل الحياة ذاتها هي التي لا شغل لها إلا إسقاط رومانسية البشر.. “. أخير عاد مريد إلى القاهرة وأسرته بعد ممانعة من السلطات لمدة سبعة عشر عاما. لكن البهجة لا تأتى بمجرد أن تضغط الحياة زرا يدير دولاب الأحداث لصالحك، لأن السنوات محمولة على أكتاف المرء.

وفى القاهرة تبدل كل شئ.. الأشخاص والأماكن والحالات، لكن: “شهوة اللصوصية الطفل فينا/نغافل بخل العجوز التي وجهها/مثل كعك تبلل بالماء، /كي نسرق اللوز من حقلها. /متعة العمر أن لا ترانا”.. “اقتادوني إلى دائرة الجوازات في مجمع التحرير. ثم أعادوني في المساء إلى البيت لإحضار حقيبة السفر وثمن تذكرة الطائرة.. في الطائرة قلت: “وداعا أفريقيا”.. لم أقم بأي فعل لمعارضة زيارة السادات لإسرائيل.. لكنها وشاية لفقها زميل معنا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين”.. يبدو أنه من المستحيل التشبث بمكان، انتقل “مريد” من عمان إلى بغداد إلى بودابست إلى القاهرة ثانية. فكان التخلي عن نباتات الشرفة التي يرعاها بنفسه، وعن مقتنيات الغربة بشكل خال من المشاعر، ودخل سلوك حياة الفنادق عنوة إلى حياته.. ففيه الخلود القصير إلى النفس مع التخلص من الالتزامات الاجتماعية ثم التخلص من سطوة الجار على جاره!!. لكنه في الحقيقة مازال يقيم في رام الله.. فقط يتذكر ما كان بالقاهرة. وفى زيارة لمبنى الإذاعة والتليفزيون سأله المذيع: “ألسنا شعبا معجزة؟ شعبا مختلفا؟”.. فقال له: “كل الشعوب

تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر، المعتقلات والسجون مكتظة بمناضلى العالم الثالث. “

.. ” الغربة لا تكون واحدة. إنها دائما غربات”

كما يتعود المرء العتمة شيئا فشيئا، هكذا يكون حال السجين والمهجر والغريب والمنفى، يعتاد الكل مدنهم وأماكنهم الجديدة. وعزاء”مريد” أنه لا توجد أسرة فلسطينية لا تشكو من الشتات بين أفرادها. فكانت الغربة في بودابست، والقاهرة، وعمان، وغيرها. لكنه قابل صديقه “أبو وائل” في حديقة رام الله وأعرب عن عدم اعتراضه على اتفاقية “أسلو” بين السلطة الفلسطينية والإسرائيلية. لكنه المنفى الذي يحمل الأوطان مع المنفى في كل مكان: ” السمكة، /حتى وهى في شباك الصيادين، /تظل تحمل/ رائحة البحر!”

ونجح “مريد” في اعتماد شهادة ميلاد ابنه بالمكتب الرسمي الفلسطيني.. “تميم سيعيش هنا ذات يوم”. كانت فترة الثمانينات أسوأ فترة، حيث حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان، حرب الفصائل داخل المنظمة الفلسطينية، شهداء صبرا وشتيلا… وغيرها. أما وقد جاءت الليلة الأخيرة له في رام الله.. قدم طلبا للم الشمل مع زوجته وابنه. لكنه سمع من قبل بموت منيف شقيقه، وأكد أن أمه لن تبقى على الحياة من بعده.. وتذكر كل الفرقات التي ألمت به وبأهله.

.. ” مستلقيا على ظهري في السرير، أصابع يدي تتشابك تحت رأسي على المخدة، لم أعرف ما الذي أبقى عيني مفتوحتين باتجاه السقف.. هذه ليلتي الأخيرة في رام الله… الليلة اسأل سؤلا:

 ” ما الذي يسلب الروح ألوانها؟”

.. من صور الآخر العدواني في الرواية (الكويت):

يصعب الانتقال إلى صورة “الآخر العدواني” في التجربة الكويتية إلا بمعاودة إلقاء نظرة أكثر شمولية. فلما كان التناول السابق يشير في مجمله إلى “الآخر العدواني” غير العربي، المدفوع بنزعات ومبررات سياسية/اقتصادية تخصه.. نجد التجربة الكويتية في عام 1990م تتعرض لعدوان من “آخر”.. عربي وتدفعه نوازع شريرة شرسة غير مبررة تحت أية أسباب معلنة أو غير معلنة.

إجمالا كان الآخر والمعبر عنه في الرواية العربية: هو ” الأوروبي ثم “الأمريكي”.. رواية “أديب”/طه حسين”، “الحي اللاتيني/سهيل إدريس”، “هموم الشباب/عبدالرحمن بدوى”، “جسر الشيطان/عبدالحميد جودة السحار”، “نيويورك80/يوسف أدريس”، “بالأمس حلمت بك/بهاء طاهر”، “ترحالات/يحيى الرخاوى”، “قنديل أم هاشم/يحيى حقى”، “موسم الهجرة إلى الشمال/ الطيب صالح”، “ملف الحادثة 67/إسماعيل فهد إسماعيل”، “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل/اميل حبيبي”، “اللاز/الطاهر وطار”، “الجبل الصغير/الياس خورى”، “السفينة/جبرا ابراهيم جبرا”، “ستة أيام/حليم بركات”، “حكاية زهرة/حنان الشيخ”، “الوشم/عبد الرحمن مجيد الربيعي”، “مدن الملح/عبد الرحمن منيف”، “قلوب على الأسلاك/عبد السلام العجيلى”، “كوابيس بيروت/غادة السمان”، “عائد إلى حيفا/غسان كنفاني”، “تحولات الفارس الغريب في البلاد العارية/ فوزية رشيد”، “لن نموت غدا/ليلى عسيران”، “المسلة/نبيل سليمان”، “الوباء/هاتى الراهب”، “سمية تخرج من البحر/ليلى العثمان”.. بالعموم لسنا بصدد حصر تلك الأعمال، فقط لابراز الصورة التي كانت.

وكانت وقفة مع الآخر العدواني وكيف تبدى في بعض الأعمال الروائية في مصر والجزائر وفلسطين.. ؟

أما الصورة التي استجدت بقيام “آخر” لإلغاء هوية “آخر” تجمعهما العديد من الأمشاج، فقد جاء مع مخاض عالم جديد (العقد الأخير من القرن العشرين)، وقد كشف عن نفسه جليا مع بدايات القرن الواحد والعشرين بتلك الحروب الإقليمية في منطقة البلقان، وأفغانستان، وأخيرا العراق.

وربما جملة قيم المرحلة التي بدأت مع غزو العراق للكويت، ومازالت، هي: التوسع في الاستخدام التكنولوجي بديلا عن الإنسان حتى في مجال العواطف.. اللامبالاة الأخلاقية.. طريقة التفكير التي تتخذ من ثقافة معينة المثل الأعلى للتفكير.. حروب الإنسان ضد الإنسان تحت شعارات زائفة.. بات التواصل المباشر بين البشر أقل حميمية بعد ثورة الاتصالات الهائلة….

ما سبق محاولة للفهم، ولا يعد تبريرا، خصوصا أن خروج آخر عربي على آخر عربي بهذه الدرجة من الشراسة غير مبرر.

ربما لاحظ البعض (إبراهيم غلوم) أن الكويت والبحرين أكثر أقطار منطقة الخليج العربي تفاعلا خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية بالقرن الماضي. ويمكن النظر إلى المنتج الروائي الكويتي (المقاومى) على اتجاهين.. تبنى “إسماعيل فهد إسماعيل” الاتجاه القومي العربي منذ كتاباته الأولى، وتبنت المرأة أو الكاتبة الكويتية وخصوصا “ليلى العثمان” الاتجاه نحو “الآخر العدواني” الداخلي أي من خلال العلاقات الحياتية اليومية وهو ما درج على تصنيفه بالاتجاه الاجتماعي، وخصوصا قضايا المرأة.

إلا أن أغلب كتاب الكويت بعد أحداث عام 1990م، توجهوا إلى الآخر العدواني السافر المتمثل في المحتل العربي/العراق.

-السباعية الروائية “إحداثيات زمن العزلة/إسماعيل فهد إسماعيل”..

وقد كانت صورة الآخر العدواني في الرواية الكويتية واحدة تقريبا، تتصف بالفظاظة والقسوة والشراسة إلى حد اللاإنسانية.. نكتفى هنا بالإشارة إلى رواية “إسماعيل فهد إسماعيل” المسماة

“إحداثيات زمن العزلة/سباعية روائية”.. والتي تقع في حوالي 2500 صفحة حجم كبير. مع الاعتزاز بالمنتج الروائي لليلى العثمان وفاطمة العلى وآخرين ممن كانت فكرة الآخر العدواني حافزا للإبداع وراصدا للتجربة.

الرواية بأجزائها السبعة (الشمس في برج الحوت – الحياة وجه أخر – قيد الأشياء – دوائر الاستحالة – ذاكرة الحضور –الابابيليون – العصف) تعد رحلة ممتدة لأحدهم، لعلة الروائي نفسه. (… من أين له همة ينهض لكي يتوجه يلتقط سماعة التليفون… “آلو.. نعم”… “سيدي سلطان، أردنا نسألك إن كنت تأذن لنا نقفل المكتب!”… “ماذا؟؟”… الصوت يعرف مصدره. شاب من العاملين لديه… “لعلك لم تعرف بعد!”… “وأضاف في وضوح: “الجنود العراقيون.. )

.. (يوم احتلال عربي متفرد بطبيعته. الأحداث.. تواتر لاهف ولا منطقي في الوقت نفسه. الحياة حالة التحام بالموت، والموت.. “من أين لك قدرة التأقلم؟!”.. كانت الساعة جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل حين آوى سلطان إلى ديوانيته.. ينام.. )

.. (رفضك أو سخطك.. قلقك أو جزعك.. حالات انتيابك.. التحامك بالحياة وهى تتأهب للموت…. نقاط السيطرة بانتشارها طول البلاد وعرضها. عسكر الاحتلال واستخباراته.. انبثاثهم في كل مكان. وجود مكثف ضاغط يشعرك انه عندك، يراك، يراقبك، يترصدك، يؤكد حضوره بأفعال بطشه… )

.. (.. شهر أغسطس- من خلال ارتهانه- بدا أطول شهور العمر. شهر سبتمبر- بمخاضاته- صار أطول من سابقه، وها هو أكتوبر.. “حتى متى؟!” سؤال محدد كاد يحتل مكان الصدارة من أذهان الكويتيين”… )

.. (طال أمد الاحتلال لدرجة اعتياد وجوده بالصيغة التي تفرد بها، مقارنة مع أيما احتلال آخر في زمان ومكان معينين. العسكر –كما هو باد- يحكمون البلاد من خلال آلاف نقاط السيطرة، وقد رابطت لدى كل تقاطع شوارع أو منعطفات… بحتا عن مخربين وأسلحة)

.. (الأيام العشرة الأخيرة من ديسمبر. شتاء الاحتلال يختلف عن شتاءات أخرى سبقت. مراوحة ما بين اليأس والقنوط. نفاد الصبر إزاء إيغال سلطات العدو إجراءاتها الهادفة إلى طمس الهوية الكويتية أكثر. )

.. (اعتياد الناس – داخل الكويت – على الحرب الجوية أكثر فأكثر. قناعتهم أن الأخطار لا تتهدد هم بشكل مباشر، في هذه المرحلة على الأقل.

الحياة –يوما بعد يوم- تعود إلى الأسواق الطارئة على ضفاف المناطق الكويتية، مع ملاحظة تناقص أصناف السلع المعروضة، وندرة الأساسي منها… )

وهكذا يعرض الروائي لجملة ملامح الاحتلال على أرض الكويت، في صياغة أقرب إلى السرد الزماني المستقيم، والمكاني المتعدد، مع الشخوص الأقل رسما، حتى يكاد أغلبها يبدو بلا ملامح محددة.. وبلا صراعات جانبية تحيد القارئ عن محور العمل الأساسي.. ألا وهو إبراز أفاعيل المحتل يوما بيوم، وربما ساعة بساعة.

والرواية في هذا الإطار تقع بين فن اليوميات/ المذكرات، وفن القص الروائي. وان قارئ العمل على أنه مذكرات، فالحنكة الروائية غالبة. وان قارئ على أنه رواية، فالتتابع الزمني المستقيم، والبعد عن التفاصيل وخصوصية الشخصيات يجعل العمل أقرب إلى الرواية الوثائقية التسجيلية. ذلك “الفورم” أو الشكل الروائي الذي ابتدعه الأدباء الروس بعد الحرب العظمى، ثم راج وانتشر، وان ارتبط أكثر مع روايات “أدب المقاومة”.

 وينتهي العمل الروائي وقد مات من مات، وسجن من سجن، وخرب ما خرب.. وبقى البحث عمن غاب أو اختفى هدفا حتى يعرف أهله ما آل إليه. موتا أو سجنا!!

تعد الرواية من الأعمال الراصدة لتجربة حربية ثقيلة على النفس وعلى الوطن، ويبقى للروائي فضل الصبر عليها حتى أنجزها على هذا الحجم الضخم. ولعل هذا التوجه هو ما يبر “الإهداء ” المسجل في الصفحة الأولى : “إلى كل من يهمه الأمر” وكأنه بلاغ إلى البشرية!!

……………..

المراجع:

1-“في نظرية الرواية” –د. عبد الملك مرتاض – عالم المعرفة – الكويت 1998م.

2-“الاتجاه القومي في الرواية ” –د. مصطفى عبد الغنى –عالم المعرفة-الكويت1994م.

3-“ببليوجرافي الرواية العربية”- إشراف د. حمدي السكوت- الجامعة الأمريكية-القاهرة-عام1997م.

4-“الشعر في إطار العصر الثوري”- د. عز الدين إسماعيل- الدار المصرية للتأليف1966م

5-“الأدب في مواجهة عصر مختلف”- مجموعة دراسات –هيئة قصور الثقافة – مصر2002م.

6-“قضايا أدبية عامة” –ايمانويل فريس، برنار موراليس –ترجمة”د. لطيف زيتونى” –سلسلة “عالم المعرفة” –الكويت فبراير 2004م.

7-“اسرائيليات” –أحمد بهاء الدين- دار الهلال- أكتوبر 1967م.

8-“الفلسطينيون.. والأدب المقارن” – د. فريال جبورى غزول وآخرون –سلسلة “كتابات نقدية –هيئة قصور الثقافة –ابريل 2000م.

9-“قراءة عبر الثقافات” –مارى تريز عبدالمسيح –سلسلة “كتابات نقدية”- هيئة قصور الثقافة مارس 1997م.

10-“فضاء الجرح.. قراءات في أدب الانتفاضة”- إبراهيم سعفان-دائرة الثقافة بالشارقة.

11-“المقاومة والأدب”- السيد نجم- هيئة قصور الثقافة(مديرية القاهرة الكبرى) 2001م

12-“المقاومة في الأدب العربي”-السيد نجم- (تحت الطبع)

13-“المقاومة والرواية العربية”- السيد نجم- (تحت الطبع)

-النصوص الإبداعية المشار إليها.

 

مقالات من نفس القسم