ممدوح رزق
“البرد”
هل جربت أن يكون الباب المقفول بالمفتاح حلمًا بالنسبة لك؟ …
لم يكن بابا يصدقني كي لا يشعر بالذنب .. الذنب الذي لم تكن ملامحه قادرة على إخفائه .. الذنب الذي لم يعطّل قسوته إلا في لحظات نادرة …
كان بابا عنيفًا جدًا، سليط اللسان إلى أبعد مدى، وحينما كان يشعر بعزّة نفسي لم يكن يتورّع عن ضربي بالحذاء على وجهي أو البصق عليّ كلما راق له ذلك …
في البداية كنت أبكي في صمت، ثم أصبحت أمتنع عن البكاء أمامه، وفي إحدى المرات لم أستطع منع نفسي من الضحك فثار جنونه بعدما أحس أنه أضعف مني بكثير .. طردني من البيت وأخبرني بأنه لا يريد أن يراني مرة أخرى.
كنت وقتها في الكلية، فحملت حقيبتي ووضعت فيها بعض الملابس والكتب ومحفظتي، وحينما توجهت ناحية الباب قالت لي ماما “لا ترحلي، هذا بيتك وليس بيته، ولا يقدر على إذلالك لكونه ينفق عليكِ، هو لم يفعل إلا أقل مما يفعله أي شخص لأولاده” .. كنت مصممة على الرحيل لكنني وجدته خائفًا من معرفة الناس بأنه قد طرد ابنته الجامعية المتفوقة فمنعني من الخروج …
هل تعرف يا ممدوح ما هي نوعية الكوارث التي كانت تبرر له أن يفعل ذلك بي! .. مجرد أن يكون لي رأي مخالف لرأيه، والأسوء أن أدافع عن أمي حين يضربها بالعصا .. ذات مرة وهو يعتدي عليها أمسكت يده بقوة لا أعرف من أين جئت بها ثم جذبت العصا وأخذتها منه رغمًا عنه وأنا أصرخ فيه قائلة “طلقها إذا لم تكن تعجبك، ولكن لا تهنها بهذا الشكل”.
اكتشفت بعد موته أنني كنت أحبه جدًا، والأفظع أنني ما زلت أشفق عليه حين أتذكر رفضي أن أحكي له خصوصياتي عن أصدقائي والجامعة وما إلى ذلك .. كيف كان يمكن أن أحكي له وهو بهذه القسوة، وكيف كان يمكنني تجاهل إحساسي بكونه غريبًا عني بعدما ظللت أعوامًا طويلة لا أراه إلا شهرين فقط كل سنة؟
بعد وفاته بدأت أحس بالأعراض، فأجريت فحوصات، ولما عرفت حقيقة مرضي رفضت البقاء في مصر وسط نظرات ومشاعر الشفقة والشماتة، وقررت السفر إلى مكان لا أحد يعرفني فيه.
بابا مات في حضني، لكن تعرف؛ ليس الموت هو الذي أحزنني .. ما أحزنني هي البرودة التي بدأت تسري في جسمه حينئذ .. شعرت أن البرد هو الذي أخذه وليس الموت.
أنت ستكون أبًا حنونًا جدًا، ساخرًا كعادتك من الأبوة يا ممدوح …
متى كانت آخر مرة سالت فيها الدموع من عينيك دون بكاء؟
دفا
الجمعة ـ 23 يوليو 2004
* * *
“الرابط السيّئ”
أن أكتب لكِ ـ كبوحٍ مقابل ـ عن صفعات أبي عقابًا لي على عدم أداء الصلاة، أو التأخر في الرد على ندائه فهذا لن يجعلها صفعات حقيقية ـ بالنسبة لي على الأقل ـ بقدر ما ستكون إيماءات خجولة، بالغة الشحوب نحو تلك التي ما زالت تتعاقب فعليًا على وجهي، محتفظة بثقلها الحارق، في نصوصي …
لم أر أبي يضرب أمي مطلقًا، لكنني أشهد له بأنه كان بارعًا للغاية في إذلالها، من غير أن يحتاج حتى إلى توجيه سباب لها …
ردًا على سؤالك الذي توقعته في نهاية الرسالة فقد حدث ذلك بعد موت أمي بيومين .. قبل ذلك كنت قد خرجت من المستشفى إلى الشارع ومشيت بين الناس مذهولًا، غير مصدق أنهم يسيرون بطريقة طبيعية، وأن الحياة مستمرة، لدرجة أنني كنت أريد أن أستوقف كل من أقابله في طريقي وأسأله: (ألا تعرف أن أمي ماتت الآن؟) .. كنت الوحيد من الأسرة الذي بقيت معها في المستشفى خلال مرضها الذي لم يستغرق إلا أيامًا قليلة، ورأيتهما تموت أمامي من وراء زجاج غرفة العناية المركزة، ومع ذلك ظلت دموعي تؤجل الإفصاح عن نفسها .. جاءت إلى البيت لتقديم العزاء بائعة اللبن العجوز التي كانت أمي تستضيفها كل صباح وتعد لها الإفطار وتجلس لتأكل معها لأنها ـ كما أخبرتني ـ تشفق عليها؛ امرأة كبيرة السن، تخرج في الصباح الباكر من قريتها، وتدور كثيرًا على البيوت من دون أن تضع لقمة في فمها .. حينما فتحت باب الشقة ورأيت هذه العجوز انصرفت من أمامها ودخلت إلى حجرة مكتبي وظللت واقفًا في الشباك، شاردًا في الذكريات المعذِّبة لفترة طويلة، انتبهت في نهايتها أن الدموع قد أغرقت وجهي بدون أن أشعر.
أستمتع الآن إلى فرانك سيناترا “”Moon River ولكنني لا أتخيل نفسي كالعادة كلما استمعت إلى هذه الأغنية وأنا أحلق عاليًا وحدي بين ألوان ونسائم الغروب نحو مدى لا نهائي، وإنما أفكر في أجمل مشهد تتخيلين نفسك فيه كما أخبرتيني من قبل: ترقصين تحت المطر بكعب عال من دون شمسية في شوارع خالية حتى تصلين إلى شارع جانبي ينتظرك فيه حبيبك كي يعتصرك بين يديه وهو يقبّلك .. الرابط السيّئ بين ما يتخيله كلٍ منا حول “المشهد الأجمل” لم يصبح بعد ـ بالنسبة لكِ ـ واضحًا بشكل كامل .. لا يزال يخفي أمام عينيكِ حقيقة المأساة الهزلية التي نعيشها معًا كقمة جبل جليدي.
ممدوح
السبت ـ 24 يوليو 2004