أفين حمو
مجموعة “قبل أن يرتد إليك طرفك” للكاتبة جيهان عمر تضم خمسة وأربعين نصًا/قصة قصيرة، تأخذ القارئ في رحلة عميقة إلى أعماق النفس البشرية. كل قصة منهم تمثل نافذة على عوالم نفسية وروحية معقدة، حيث تتجاوز الكاتبة السرد التقليدي وتبني جسوراً بين التجربة الفردية والمشتركة، فتُغمرنا بمشاعر وأفكار لتصبح كل قصة مرآةً لما بداخلنا.
في المجموعة عالمٌ من الحكايات التي تغمرنا فيها، حيث يجد القارئ نفسه مشاركاً في رحلة داخلية عميقة، كأنه يتجاوز حدود المألوف ليختبر بنفسِه ما وراء الكلمات، وليُحِسَّ بالاختلاف والتجريب الذي تقوده الكاتبة، ليس فقط بتجاوز الأشكال السردية، بل بتطويع اللغة لخلق نثر شعري، ينسج بين الفلسفة والقصة ويضعنا في مواجهة مباشرة مع الروحانية.
يتردد العنوان في الذهن كصدىً بعيد منذ لحظة الوقوف عنده: “قبل أن يرتد إليك طرفك”، ويأخذنا إلى آفاق زمنية وروحية غارقة في التأمل، حيث تتسارع لحظات الحياة وتتحول بطريقة لا نملك التحكم بها، فتنتقل الأمور في لمح البصر، كأن العالم يتغير ونحن في لحظة واحدة ثابتة، نبحث عن معنى أعمق بين هذه النصوص.
في قصص مثل “فاتتنا رؤيتها”، وجدت نفسي أفكر فيما فاتني من رؤى، ليس فقط في الحياة بل حتى في الموت. تخيلت نفسي بين الكلمات، رغبت في رؤية ما وراء العدم، طلبت استمرار الوعي حتى بعد نهاية الحياة المادية. في تلك اللحظات، وضعتني الكاتبة أمام مواجهة مباشرة مع نفسي، مع رغبتي في إدراك العالم بعيون لم تغمضها نهاية.
أما في قصة “لست آن سكستون يا عزيزي”فقد شعرت بالثقل النفسي للبطلة. أنا أعيش معاناتها، أعيش الصراع بين الحياة والموت، بين الانسحاب والتحدي. لا أجد نفسي أراقب تلك المشاعر فقط، بل أشعر أنني في خضمها، أواجه الحياة بتساؤلاتها وأبحث عن إجابات قد لا تأتي. أعيش كما تعيش البطلة، بين ألم الشاعر وقرار الاستمرار رغم قسوة العالم.
حتى في تفاصيل مثل “حذاء أسامة”، أجدني أتشبث بذكريات مادية تملأ الفراغ الذي خلفه الفقد. أعيش مع تلك الأم لحظات الحنين والألم، أشعر بارتباطي بكل شيء يحفظ لي تلك الذكريات، كأنني أتمسك بها لتبقى الروح جزءاً من حياتي.
اللغة التي استخدمتها جيهان عمر في هذه المجموعة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لخلق عوالم موازية مليئة بالرموز والإيحاءات. كل جملة تبدو وكأنها قصيدة قصيرة، مشبعة بالتأملات الفلسفية. اللغة كانت ثقلها محسوساً، كل كلمة كانت تطرق باباً مغلقاً في داخلي، لتُفتح أبواب التأمل العميق
في أحد المقاطع التي أبهرتني، تقول:
“سيأخذون القرنية بعد الموت، يأخذونها من دون سؤال الميت. هذا الذي طالما أحب عينيه، وجاء الوقت المناسب تماماً للتحديق في الظلام، وفك رموز الصمت المحيط.“
جعلني هذا النص أتوقف عند فكرة الموت والوعي الروحي. شعرت أن الكاتبة تجسد لحظة التأمل بين الحياة والموت، حيث الرؤية تصبح أعمق من مجرد فعل بصري، بل هي استمرار لحياة أخرى، للتأمل في الفراغ والعدم. هذه الكلمات تركت أثراً على تأملاتي حول فقد الأحباء وكيف يستمر وجودهم الروحي رغم رحيلهم.
الشخصيات التي تعيش في هذه القصص لم تكن غريبة عني؛ شعرت بأنني أعرفهم منذ زمن بعيد. كأنهم يحملون مشاعري وتجاربهم تشبهني، أفراحهم وآلامهم كانت حاضرة في وجداني. لقد اندمجت تماماً مع شخصيات فقدت أحبائها أو كانت تعاني الألم العميق، حتى اللحظات التي وصفت فيها الأم كيف كانت تحتضن حذاء ابنها بعد فقده، كانت بمثابة تعبير عن التمسك بالذكريات حتى وإن كانت تتجسد في أشياء مادية بسيطة.
أحد المقاطع الأخرى الذي لا يمكن نسيانه:
“يمكنهم أن يأخذوا أي شيء ويتركوا القرنية. ستتدحرج مع بقية العين مثل جوهرة، ماسة صغيرة تضيء العتمة.“
هنا، شعرت بأن الكاتبة تُصور حواراً روحياً بين الإنسان والموت، وبين الحياة وما بعدها. الألم هنا لا ينفصل عن التفكر والتأمل في الغاية من الوجود، وكأن كل جرح هو باب لطرح الأسئلة الكبرى حول الحياة والموت والفناء.
ومن أبرز القصص التي تترك أثراً عميقاً قصة “الحمامة”، التي تعد رمزًا للتواصل الروحي. الحمامة في هذه القصة لم تكن مجرد كائن حي، بل رمزاً للعلاقة الروحية بين الإنسان والطبيعة، وكيف يمكن لمشاعر النقاء والصفاء أن تجذب الكائنات الحية. رفض الحمامة الاقتراب من الجارة التي تفتقر إلى تلك المشاعر النقية كان تعبيراً عن الحاسة الروحية التي لا تخطئ في تمييز الصدق.
“الحمامة قررت أن تبيت، لأن دفء المشاعر الصافية كان كافيًا ليجذبها، بينما رفضت أن تقترب من الأيادي الخالية من المحبة.”
هذا المقطع يعكس فكرة البحث عن الصفاء في عالم مليء بالفوضى والسطحية. الحمامة كانت تجسد التوازن الروحي بين النية الصافية والبحث عن ملاذ آمن بعيداً عن المشاعر الزائفة. من خلال هذا الموقف البسيط، تسلط الكاتبة الضوء على قيمة النية الخالصة والمشاعر الحقيقية في الحياة.
البيئة، في قصص جيهان، ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من النفس، من تلك التجارب التي نعيشها مع الشخصيات. في “لا ألم في كيرالا”، أشعر بالرطوبة تخنقني، والبيئة الهندية تضغط على روحي، حتى أجد نفسي أبحث عن مخرج في الطاقة الروحية كما تفعل الشخصية. وكأنني أتأمل في كيفية تأثير المحيط على مشاعري الداخلية، فأجدني أتعلم كيف أحيا وأتحمل وأتجاوز.
وهكذا فإن كل قصة تقرّبنا أكثر إلى عمق الإنسان، إلى صراعه الداخلي وتحدياته اليومية. وفي النهاية، أجد نفسي أمام غموض يتركني في حالة تساؤل. القصص لا تترك لي خاتمة نهائية، بل تضعني أمام احتمالات مفتوحة، تتيح لي أن أكون جزءاً من تكوين تلك النهايات، وكأنني أصبحت شريكاً في هذا العمل الإبداعي، أستمر في التفكير والتأمل حتى بعد انتهاء القراءة.
المجموعة كلها تدعونا للتأمل في اللحظات العابرة التي قد تبدو بلا معنى، لكنها تحمل في طياتها قدرة على إحداث تغييرات كبيرة. في كل قصة هناك فكرة خفية تجعلنا نفكر في حياتنا بشكل أعمق، مثل قصة الحمامة التي تجسد البحث عن الطمأنينة والأمل في عالم مليء بالفوضى والاضطراب.
“قبل أن يرتد إليك طرفك” ليست مجرد مجموعة قصصية عن الفقد أو الألم، بل هي تأملات عميقة في الحب، الحياة، الموت، والبحث عن الأمل وسط الفوضى. هذه المجموعة تجعلنا نعيد التفكير في معنى التواصل الحقيقي مع من حولنا، وكيف يمكن للحب والصدق أن يفتحا لنا أبواباً غير متوقعة.
وفي الختام، وأنا أنهي هذا الكتاب، شعرت أنني لم أنته من الرحلة، بل ربما بدأت رحلة جديدة، رحلة داخلية تقودني نحو تأمل أعمق في معنى الوجود. فهذه المجموعة ليست مجرد تلقي لسرد قصصي، بل هي تجربة نفسية وروحية تمس القلب والعقل في آن واحد. إنها تذكرنا بأننا نعيش في عوالم صغيرة بداخلنا، مليئة بالأسئلة والتأملات التي قد تفتح لنا أبواباً جديدة، قبل أن يرتد إلينا طرفنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وكاتبة سورية