سينما إيليا سليمان.. المقاومة عبر السخرية والعبث

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العبادي

في أحدث أفلامه “إن شئت كما في السماء” نرى المخرج الفلسطيني “إيليا سليمان” جالسا أمام مسئول الإنتاج الفرنسي الذي يخبره أن مؤسسته لن تستطيع أن تشارك في انتاج فيلمه, لأن الفيلم لا يعبر عن “القضية الفلسطينية” كما يرونها، وأن أحداث الفيلم قد تحدث في أي مكان في العالم, ليس بالضرورة في فلسطين!

هذا المشهد العبثي الذي يملي فيه الأجنبي على ابن البلد كيف يجب عليه أن يعبر عن بلده وقضيته قد يلخص لنا طبيعة الرؤية السينمائية لإيليا سليمان عبر مسيرته، سينما سليمان هي سينما فلسطينية بامتياز كما هي مناهضة للاحتلال بكل قوة والتزام، لكنها حقا أبعد ما يكون عن النموذج الذي يتوقعه المشاهد الغربي – وربما العربي أيضا – عن الفن الفلسطيني وتعبيره عن القضية، على مدى عقود أصبحت الصورة الذهنية للفن الفلسطيني أنه عن الكوفية والحجر, عن البندقية والمخيم، لكن إيليا سليمان اختار طريقا أكثر صعوبة وعمقا للتعبير عن رؤيته: طريق الكوميديا السوداء والعبثية, فعبر رصده لمواقف صغيرة من الحياة اليومية في فلسطين يقدم لنا “سليمان” الشعب الفلسطيني كشعب حقيقي وأرضه كوطن حقيقي، هكذا ببساطة ودون الحاجة للمواهب الحنجورية العربية المعتادة.

دوما يظهر أهل بلده في أفلامه في مواقف كوميدية مختلفة, يختلط فيها التقليدي بالمبتكر والمعتاد بالمجنون, في أفلامه نجد افتتاحية من الشتيمة القبيحة تغطي عليها أنغام “أنا والعذاب وهواك”، ليس غريبا أن تجد مطاردة أقرب لأفلام الأكشن بين فتيان المقاومة و”بابا نويل”، وأن تنتهي مسيرة دينية بالناصرة بأن يقوم رجل الدين باقتحام باب الكنيسة عنوة ويؤدب اثنان من اتباعه السكارى بالضرب!, هكذا في خلطة كوميدية تشمل مع التفاصيل الفلسطينية شديدة الخصوصية تفاصيل أخرى تحدث في أي مكان في العالم, كمشاكل الجيران اليومية حين يلقي أحد القمامة في فناء الآخر، ويستولي أحدهم على ثمار الليمون من الشجرة في فناء المخرج نفسه!, إذن المنتج الفرنسي إياه لديه كل الحق في أن سينما سليمان تعرض مواقفا قد تحدث في أي مكان في العالم، وربما هذا تحديدا ما يخيفهم منه، أولا لأنه يخرج بأفلامه عن “النمط” الذي اعتادوا على حبس “العالم الثالث”  فيه: نمط الفقر والعشوائيات والكفاح من أجل الكفاف والحرب اليومية ضد الاحتلال، بالتأكيد هو النمط الأمثل لإراحة دماغ العالم الغربي، حيث يختزل القضية في الفقر والظلم الاجتماعي كمبررات لل(إرهاب) من وجهة نظرهم، مع تجاهل كل الخلفيات الثقافية والتاريخية الأخرى وراء الصراع, بكلمات أخرى يمكن أن نقول أن العالم الغربي يحب أن يرى الفلسطيني كـ”هندي أحمر” جديد بينما استطاع مخرجنا أن يقدمه لهم كمواطن عالمي يستحق الحياة مثل أي مواطن في أي دولة من دولهم. الأمر ببساطة أنه (فلسطيني من فلسطين.. لا ليس فلسطيني من إسرائيل) كما جاء على لسان الممثل الأرجنتيني “جايل جارسيا بارنيل” في ظهوره المحدود في “إن شئت كما في السماء”.

تبدو أفلام إيليا سليمان أحيانا كامتداد لفيلم واحد, فالبطل دوما هو “سليمان” نفسه، يمضي كمشاهد صامت معظم الوقت لما يحدث من حوله, يعرض بذكاء لمشاهد مختلفة ليريك العالم عبر عينيه، نجد في أفلامه بعض الأفكار المتكررة التي تعبر عن نظرته، فرجل الشرطة بزيه الرسمي يظهر غبيا ومنفصلا عن الواقع، يكفي “بالون” عليه صورة “عرفات” ليميته رعبا ويجبره على إعلان حالة الطوارئ، يتساوى في ذلك الشرطي المحتل أو الفرنسي أو الأمريكي، كذلك نجد نظرة خاصة للمرأة العربي، دوما هي رمز للقوة والحكمة والجمال، في الخط الأمامي من المقاومة سواء حين يصورها في حياتها اليومية أو في مشاهد حلمية متعددة, تارة هي مقاتلة نينجا تهزم جنود الاحتلال ببسالة، وتارة أخرى تستغل غباءهم لتجعلهم يتخبطون في تحركاتهم عبر اللاسلكي، وتارة تظهر كملاك عاري الصدر في سنترال بارك لتطاردها شرطة نيويورك بكل قواهم!

لهذا تبقى الأرض في سينما سليمان هي ملك الفلسطيني، يعرف تفاصيلها حتى لو معصوب العينين ويستطيع أن يهرب من جلاديه ويسخر منهم بمنتهى السهولة، مهما حاول المستوطن والمحتل أن يثبت قوته بفرض الأمر الواقع يبقى محتلا غريبا عن الأرض.. يسخر منه إيليا بأغنيته المفضلة: لقد وضعت لعنة عليك.. أنا سحرتك!!

………………….

* نشرت في مجلة إبداع العدد 51. مارس إبريل مايو 2024

 

مقالات من نفس القسم