محمد غازي النجّار
هُوَ لمْ يكنْ يعرفُ كيفَ حصلَ هذا
ولا لماذا
لمْ يكنْ يعرفُ أينَ كانَ تحديدًا
هلْ كانتْ عاصفةً
أمْ دوّامةً
أمْ زلزلةً
أمْ طاحونةً
أمْ هاويةً ملآنةً بالصخورِ المُدبَّبةِ كالسواطيرْ؟!
كُلُّ ما يذكُرُهُ أنّهُ رأىٰ ذاتَهَ مُفَكَّكةً وأشلاءَهُ مُشتَّتةً ترتجفْ
وكانَ يُحِسُّ بأعضائهِ كُلِّها كأنّها ما زالتْ جسدًا واحدًا حارًا وحيّا
وأفكارُهُ كانتْ تَشغلُ كُلَّ حيّزٍ وتنمو كنبتٍ شيطانيْ
لقوا قدمَيهِ، مكسورتَينِ كحطبتَينِ جنبَ النارِ، وكانتا مُتَّسِخَتَينِ بالطينِ.
قالوا: كانَ فلّاحًا. وأشاروا إلىٰ شقوقِ قدمَيهِ.
وصرخَ آخرونَ: بلْ نبّاشَ قبورٍ، ألمْ تشمُّوا عفنَ الميّتينَ الصارخَ في أصابعِهِ؟!
لقوا يدَيهِ، واحدةً مُنفتِحةً وممدودةً كشريطِ قطارْ، مُلطَّخةً بالألوانِ وفي قبضتِها حُلْمٌ غامضْ، والأخرىٰ مُنطويةً، تُمسِكُ مُسدَّسًا ومُلوَّثةً بالدمْ.
زعقَ أصحابُ الصوتِ العالي: كانَ مجرمًا.
ولمْ يسمعْ أحدٌ حبيبتَهُ وهيَ تنتحبُ قائلةً: كانَ رسّامًا وعندي لوحاتُهُ.
بيْنما كانَ رأسُهُ يتدحرجُ، أسرَعوا إليهِ راكضينَ، لقوا الرأسَ بلا عينَينِ، وبلا فمٍ، ولهُ وجهانِ، واحدٌ يُطِلُّ علىٰ الداخلِ، وواحدٌ يُطِلُّ علىٰ الخارجِ.
“كانَ مَسخًا كريهًا” صرخَ الصارخونْ.
بيْنما كانتْ حبيبتُهُ تحكي لواحدٍ أصغىٰ إليها وسْطَ الضجيجِ: لقدِ انتزعَ فمَهُ في ليلةٍ مِنَ اليأسِ المُميتِ، حينَ قرّرَ الصمتَ والكفَّ عنْ قولِ الشعرِ للأبدْ، وبَعْدَ رحيلهِ بحثتُ عنْ عينَيهِ الضائعتَينِ؛ وزرعتُهما في مَحجِريَّ كيْ أَظلَّ أُبصِرَ الحياةَ بعينَيهِ.
فئةٌ قليلةٌ استطاعتِ الوصولَ إلىٰ قلبِهِ، كانَ شفّافًا وعبقريّا، ينزفُ وينبضُ في آنْ، مُتخِذًا هيئاتٍ متعددةْ، يتلوَّنُ وامضًا كبلّورةٍ سحريّةْ، كُلَّما لامسْتَها شُفْتَ جانبًا مِنْ حياتهِ العامرةْ.
ضاعتْ أعضاؤهُ
وتمزّقتْ حقيقتُهُ بَيْنَ الناسْ
بيْنما رُوحُهُ كانتْ تُحلِّقُ فوقَ الأجسادِ والأشلاءِ مُتحرِّرةْ
وتبرقُ كُلَّما لامسَ واحدٌ قلبَهْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري، من ديوان “إنها تتراءى لي” الحاصل على جائزة المجلس الأعلى للثقافة 2020