أفين حمو
في رواية “الشماشرجي” للكاتب محمود جمال يأخذنا في رحلة سردية شيقة لنتأمل في التاريخ والإنسانية ونغوص في أعماق فترة حاسمة من تاريخ مصر تحت حكم محمد علي وأبنائه، حيث تسرد الرواية قصة شحاتة، الملقب بالشماشرجي، من خلال نسيج معقد من الأحداث والشخصيات التي تعكس التداخل بين التاريخ والإنسان.
تبدأ الرواية بصوت التاريخ الذي يسترجع أحداث الفترة من عام 1789 إلى 1805، مقدماً خلفية عن ولادة شحاتة. يفتح هذا السرد نافذة على بداية حياة الشخصية الرئيسية، حيث يسلط الضوء على التحولات التاريخية التي أثرت في حياته المبكرة.
بين عامي 1805 و1825، نجد شحاتة تحت رعاية الباشا، الذي تبناه وهو في سن صغيرة. نتعرف على دور الباشا المحوري في تشكيل حياة شحاتة، حيث عرّفه على عالم التجارة وسافر به إلى بريطانيا، مما أثرى تجربته الشخصية. خلال هذه الفترة، تبرز الصعوبات الاجتماعية التي عانى منها المواطن المصري العادي، من ذلك التجنيد الإجباري، الذي أثقل كاهل الفقراء، وتأميم قناة السويس التي عززت من نفوذ الدولة وعمقت الفجوة الطبقية. الفروق الطبقية بين النخبة مثل الباشا والشماشرجي، والمواطنين العاديين، كانت واضحة؛ بينما عاش الأثرياء في رخاء، عانى الفقراء من ظروف قاسية وعبء الخدمة العسكرية.
يأخذنا شحاتة بعد ذلك في سرد عميق عن خيانة الباشا لزوجته، ويكشف عن كيف أن هذه الخيانة تكررت في حياته الخاصة. يروي شحاتة كيف أصبح متورطًا في خيانة زوجته مع زوجة الباشا، التي أنجبت منه طفلًا غير شرعي. هذا الفعل لم يكن مجرد خيانة عائلية، بل كان له تأثير طويل الأمد على حياته، حيث انقطعت علاقاته العائلية وتآكلت الروابط الأسرية. لم يرَ أخته إلا في جنازة والدته، وحضر فقط جنازة والده، مما يعكس مدى تباعده عن عائلته.
تتواصل الأحداث بتعرف شحاتة على صديقه الطبيب النفسي، الذي يقدم له الدعم ويشكل جزءًا من تطور شخصيته. كما نرى شحاتة في فترة لاحقة من حياته، حيث أصبح شخصية ذات نفوذ، حتى وصل ان يكون اليد اليسرى للوالي . يظهر المشهد الأخير مع المطرب عبده الحامولي، الذي استجاب لطلب شحاته باشا بالعزف والغناء لتسليته رغم الظروف الصعبة التي كان يمر بها ، مما يبرز التداخل بين السلطة والفن في تلك الفترة. كما يتناول إغلاق الصحف التي تحاول أن تظهر الحقيقة.
التعامل مع الشخصيات وتوظيفها
استطاع الكاتب محمود جمال بمهارة تحريك شخصيات روايته وتطويرها بشكل يحقق التوازن بين الأحداث التاريخية والدرامية. كل شخصية في الرواية تمتاز بعمقها وتعقيدها، مما يجعلها حية ومؤثرة. الباشا، بشخصيته المتناقضة، يعكس الطبيعة المعقدة للسلطة وتأثيرها على الأفراد من حولها. شحاتة، الذي يمر بتحولات شخصية وجسدية عبر السرد، يُظهر بوضوح كيف أن الظروف المحيطة يمكن أن تشكل الأفراد وتؤثر في سلوكهم وأفعالهم.
تظهر الشخصيات الأخرى، مثل نازلي وعائلة الشماشرجي، بأبعاد متعددة، مما يعزز من واقعية الرواية. تبرز تطورات الشخصيات وديناميكيات العلاقات بينهما كيف يمكن للأحداث التاريخية أن تؤثر على الأبعاد الشخصية للأفراد وتوجهاتهم.
لعل ما يميز الرواية هو الطريقة التي يختم بها الكاتب قصته. بعد استعراض وجهات النظر المتعددة، ينتهي السرد باعتراف الشماشرجي لابنه بخيانته لأمه ، ويكشف عن وجود أخ غير شرعي. هذا الاعتراف لا يُعَدُّ مجرد تطور درامي، بل هو تأمل عميق في طبيعة الخيانة والأخطاء، وكيف أن أفعال الفرد تؤثر على الأجيال القادمة.
التنوع السردي وتأثيره
اختيار الكاتب لتعدد الرواة، بدءًا من صوت التاريخ، ثم الشماشرجي وابنه، وأخيرًا باعتراف الشماشرجي، يعزز من عمق الرواية. حيث نجد أن كل راوٍ يقدم زاوية مختلفة للأحداث ويكشف معلومات جديدة، مما يساعد على بناء صورة متكاملة ومعقدة للأحداث والشخصيات.
ربما يؤخذ على الرواية في النهاية كثرة الشخصيات التي ربما تشكل مصدر إرباك للقارئ، حيث يتطلب متابعة دقيقة لربط الأحداث والشخصيات بشكل سلس، مما قد يشوش أحيانًا على وضوح السرد، كما يأتي تكرار عرض بعض المشاهد من خلال تعدد الرواة، مما قد يسرب بعض الملل للقارئ .
ولكن يبقى في النهاية أن رواية “الشماشرجي” أكثر من مجرد سرد تاريخي جامد؛ إنها رحلة إلى أعماق النفس البشرية وعلاقاتها مع الظروف الاجتماعية والسياسية. من خلال الشخصيات المتنوعة والتطورات الدرامية، استطاع الكاتب من خلالها أن يعرض تأملات عميقة في الهوية، والعدالة، والخيانة. الرواية تذكير بأن التاريخ ليس مجرد تسلسل للأحداث، بل هو نسيج معقد من التجارب الإنسانية التي تستمر في تشكيل ذلك التاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة وشاعرة سورية