إطلالة في تعريف.. “المقاومة”

السيد نجم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

السيد نجم

شاع استخدام مصطلح “أدب المقاومة” خلال النصف الآخر من القرن العشرين. وربما لعبت آثار معركة يونيو67 دورا في شيوع المصطلح، بحيث راج وانتشر أكثر من مصطلحات شاعت قبله: “أدب المعركة”، “أدب الحرب”، “أدب النضال”.. كما رسخ بعد الانتفاضة الأولى والثانية وحتى الآن. حان الوقت الآن للاقتراب أكثرمن المصطلح، ربما نصل إلى تعريف له.

يعد “الوعي” أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى. وهو ما يتبدى على عدة صور.. في المقام الأول في (الإنسان/الفرد) بكل مستويات وأبعاد الشخصية الذاتية، التي هي شديدة التعقيد بطبيعتها. ثم يتبدى في الفرد داخل الجماعة في مواجهة جماعة أخرى (أو في مجتمع بمواجهة مجتمعات أخرى) أو (في مواجهة الطبيعة من حوله/حولهم).. ثم كفرد في جماعة في مواجهة المجهول أو المستقبل، وبالتالي تتوالد الأسئلة الوجودية الكبرى حول الوجود والعدم، والحياة والموت، وغيرها.

إلا أن هذا “الوعي” على علاقة جدلية بين “الفرد” و”المجتمع”.. ما بين الأنانية والانتماء لجماعة.. ما بين المنفعة الذاتية والمنفعة الجماعية.. ما بين الخاص والعام، وهو ما يولد “المعرفة” (التي هي اجتماعية المنشأ والطابع والتوجه) التي تسعى لفهم الذات والآخر وكشف أسرار الطبيعة والمجهول.

وإذا كان المجتمع (أي مجتمع) يتشكل في حدود زمانه.. الذي هو “الماضي”، بكل الخبرات والتجارب والمعارف.. ثم “الحاضر” وهو المتشكل بفعل الماضي، وأصبح له وجوده الآن.. ثم “المستقبل” الذي هو في الحقيقة رؤية الجماعة (تلك الرؤية هي العنصر الفاعل في تشكيل الواقع الحاضر).

لكن تلك الرؤية تتشكل في المجتمع بحسب مفهوم “المصلحة” أو “المنفعة”، في إطار ثقافة المجتمع نفسه أو إطار النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

بالتالي فان “الوعي” الذي هو مبعث المعرفة في إطار حركة المجتمع نحو النافع له.. هذا الوعي قادر على تحريك الأفراد، الجماعات، الشعوب، والأمم.. بحيث يتحول إلى طاقة بشرية هائلة، ذلك لأن “الوعي” قابل للتوظيف الأيديولوجي أو قابل للتوجيه والإدارة بالمعنى العام. لكن

السؤال الأهم هو:”الوعي” بماذا ولماذا؟ وماذا نعنى ب”الوعي” في حديثنا حول “أدب المقاومة”؟

بداية “أدب المقاومة” بمعنى ما فعل مقاومي.. ولما كانت “المقاومة” تأتى بين “الحرية” و “العدوان”.. لنقل أن الإنسان جبل على “الحرية”.. لكنها المنفعة الخاصة في مقابل منفعة خاصة أخرى، فكان “الآخر” لدراسته وفهم تفكيره وحركته، لمواجهة “الآخر العدواني” في المقابل.. ولتكون “المقاومة” إذن!ويعد الوعي بمفهوم الحرية والعدوان والمقاومة، هو المدخل للوصول إلى تعريف مناسب لأدب كل همه الدفاع عن الذات (الجمعية) في مقابل (الآخر العدواني).

 

أولا: الحرية..

تسعى كل الكائنات الحية وبالفطرة إلى التحرر من الأضرار، وذلك بفعل بيولوجي (حيوي) مشترك وعام، وهو الواضح في فعل التقيؤ للتخلص من السموم من الجهاز الهضمي (كثير من الحيوانات تتقيأ أيضا)، والعطس للتخلص من الإفرازات المحملة بالميكروبات الضارة في الجهاز التنفسي. مثل تلك الأفعال البيولوجية لا تعد أفعال إرادية معبرة عن حرية صاحبها، بل هي أفعال منعكسة شرطية.

وهذا الفعل المنعكس الشرطي (الفعل الحيوي) يبدو جليا ومباشرا، عندما يتعرض الإنسان إلى خطر شديد ومفاجئ.. فغريزة البقاء وراء تلك الأفعال المباشرة السريعة المندفعة، وحتى يحرر الإنسان نفسه من أجل الابتعاد عن مصدر الخطر بالهروب.

بمضي الوقت ومع اكتساب الخبرات اللازمة، يكتسب المرء أو الكائن الحي (وب التكيف) قدرا مناسبا من السلوك المقاوم من أجل التحرر. لكن السؤال: عن أية حرية تلك التي نعنى؟ (التي ليست أكثر من فعل منعكس شرطي وبلا وعى لا يعبر عن حب الحرية أو حتى الرغبة الحقيقية فيها؟!)

مع ذلك، يمكن القول أنه بالتكرار وحساب النتائج، تكتسب الخبرة اللازمة، وتتشكل خبرة “التكيف الفعال” وهو ما يطلق عليه operant conditioning، وبتكرار هذا التكيف الناجح يكون ذلك الأثر المسمى ب”المعزز”، فالطعام معزز للكائن الحي الجائع (مثلا)، وللنتيجة المعززة للطعام يتكرر تناول الطعام كلما شعر الإنسان بالجوع.. (أو الكائن الحي عموما).

لكن هناك الكثير من صور العدوان اليومي على الأفراد، وبعيدا عن الأفعال المنعكسة الشرطية، ترى ما هي صور الخلاص من تلك المنغصات الآنية اليومية الحياتية في الأفراد وربما الجماعات الكبيرة والشعوب. درس العالم “ب. ف. سكينر” تلك الحالة وانتهى إلى ثلاث صور من الخلاص:

-الهرب.. أي الابتعاد عن المتاعب في محاولة سريعة لتجنب المشاق. ويؤكد العالم أن “الهرب” لعب ومازال يلعب دورا هاما في هذا الإطار، ربما يفوق دور الكفاح من أجل الحرية بالطرق المباشرة. وهذا الهرب غالبا ما يتجلى ويصبح وسيلة ملحة عندما تزداد الظروف البغيضة وتصبح أكبر من احتمالات الأفراد والجماعات.

-الهجرة أو ترك البيت أو الانسلاخ من حضارة أمة بأكملها (كما يفعل الهيبى).. هي الوسيلة الثانية التي تستخدمها الأفراد، كي تكون خارج مدى المشكلة.

-الهجوم.. على من ينظمون أو يتسببون تلك الظروف الشاقة غير المحتملة.

هذا النمط الثالث من سبل النجاة غير الموجهة أو المباشرة بلا إرادة أو إدارة كاملة وواعية، يفسر به “سكينر” ظاهرتي “التخريب” و”الشغب” التي تندلع أحيانا في المجموعات الفئوية أو بين الطلاب والعمال أو حتى الشعوب المقهورة، وهما من أشكال العدوانية غير المباشرة.

بداية يلزم الإشارة إلى بعض المصطلحات التي قد تتوازى أو تتداخل مع مفهوم “الحرية”، حتى يمكننا في النهاية الاقتراب من مصطلح الحرية، وأية حرية نعنى ونحن نتحدث عن المقاومة.

“الكرامة”.. وهى من أكثر المصطلحات ارتباطا بمفهوم الحرية عموما. والمتابع قد يعزى الكثير من الأحداث العنيفة بين الأفراد، وحتى بين الشعوب، إلى حدوث ما يمكن أن يوصف بأنه إجراء ما أو سلوك ما و قد أساء إلى كرامة الطرف الآخر. ونضيف، إجراء ما أو سلوك ما أساء إلى قيمة أحد الأفراد(أو الشعوب).. أي أن الكرامة بمعنى ما مرتبطة بمفهوم القيمة عند الأفراد أو الشعوب.. أي أن “الكرامة” و”القيمة” مصطلحان مترادفان لمعنى واحد.

وتعد الكرامة من الأفعال المعززة، أو من المعززات الإيجابية عند الأفراد /الشعوب، كما يلاحظ أن التصفيق والهتاف فعل إيجابي معزز لأحد المطربين (مثلا) المجيدين.

لكن الحقيقة تؤكد أننا لا نمتدح شخصا ما أو شعبا على السلوك المنعكس الشرطي، ولا على أية استجابة بيولوجية، لأنه ليس صاحب فضل فيما حدث وكان. لكننا نمارس المديح فورا أمام أي رد مناسب لأحدهم مارسه في مواجهة سلوك ما أو فعل ما هدد كرامته وقيمته. فنثني على المرء الذي وضع الواجب قبل الحب.. أو وضع الحق والواجب قبل القرابة والنسب. كما نمتدح هؤلاء الذين يظلون على حال الوفاء لفكرة عليا أو لحركة مقاومة على الرغم من تعرضهم للاضطهاد. أي أننا نسعى دوما على تأيد الأفعال المعززة ونشجع صاحبها على تكرارها.

والطريف أنه هناك علاقة طر دية بين المديح والإعلان عن مديحنا، وبين السباب وقيمتها العليا. حتى أننا نشعر بالمبالغة وربما تحول التقدير إلى نفاق لو كان المديح أكثر كثيرا من قيمة النتيجة والسباب آلتي نمتدح شخصا ما عليها.. ويصبح التقدير أقل قيمة وتأثيرا.

في خطوة تالية، يمكننا الادعاء أن الإنسان يكون أقل مقدار من الحرية، والكرامة، وهو تحت أي تهديد مادي. أي وهو تحت تهديد “العقاب” أو “الحبس” أو غير ذلك. كذلك حال الشعوب، بحيث يصبح الشعور بفقد الحرية والكرامة والقيمة وهى تحت تهديد الاحتلال أو الهيمنة أو السيطرة الأجنبية.

وفى عجالة نعرض لبعض التعريفات المباشر ل”الحرية”. نبدأها بمحاولة خاصة قدمها “هكسلى”، رفضها البعض على الرغم من أن مبرر ما يقوله هو دعوة للحرية. يقول:

 “إذا وافقت أية قوة عظمى على أن تجعلني دائما أفكر بما هو حق، وأفعل ما هو صحيح، على شرط أن أكون على شكل ساعة فأعبأ كل صباح قبل أن أغادر سريري، فأنني سأقبل العرض فورا”

فالمثلية المثالية مرفوضة بداية، حتى مع حسن النوايا.

:الحرية.. قضية نتعرف عليها وتثيرها نتائج بعض السلوكيات البغيضة.

:الحرية.. حالة يستشعرها المرء (أو الشعوب) مع غياب السيطرة التعسفية.

:الحرية.. حالة ذهنية تبدو واضحة بأن يعمل المرء ما يريد أو يرغب.

:قال “جون ستيوارت ميل”.. الحرية هي أن يعمل المرء ما يريد.

:قال “ليبنتير”.. تتكون الحرية من قدرة المرء على أن يعمل ما يريد.

:قال “فولتير”.. تتوفر الحرية بالنسبة لي، حين أستطيع أن أفعل ما أشاء.. لكن لا أستطيع أن امتنع عن الرغبة فيما أريده حقا”.

:قال “جو فنيل”.. إن القدرة على أم نريد شيئا هي مسألة الحرية الداخلية، وتقع خارج اللعبة (أي خارج لعبة الحرية).

كما يقول “ب. ف. سكينر” إن من يريد شيئا يعمل على الحصول عليه حينما تلوح الفرصة. لكن الرغبة في شئ ليست شعورا به، وليس الشعور هو السبب الذي يجعل المرء يتصرف للحصول علي ما يريد. إن بعض الحالات الطارئة تزيد من احتمالات قيام السلوك (مثل الجوع والنزوع إلى تناول الطعام)، وفى الوقت نفسه تخلق ظروفا يمكن الإحساس بها.

ويتابع بقوله:”فالحرية هي مسألة الحالات الطارئة التي تعزز السلوك، وليست هي قضية المشاعر المنبثقة عند تلك الحالات. ولهذا التمييز أهمية خاصة، حينما لا تنجب الحالات الطارئة هروبا أو هجوما مضادا. “

كما يضيف.. “يمكن تصور الحرية “أحيانا” على أنها قلة المقاومة أو الكبح، فالمرء يكون أقل حرية تحت تهديد العقاب.. الخ. لكن السيطرة السلوكية أو الكبح بواسطة ظروف التعزيز فهي أمر مختلف. “

والحرية هي التي تكسب البعض صفة “الصلاح”، لأن الشخص الصالح هو الذي يسلك سلوكا جيدا مع أنه بإمكانه أن يسلك سلوكا سيئا.

كما أن الحرية في النهاية، تهدف إلى خلق عالم يكون “العقاب” فيه أقل شيوعا أو حتى غائبا.. حيث تتولى “الحرية” الأمر كله مع دخائل الأفراد والجماعات. هي الحرية المسئولة إذن عند الأنا، تجاه الآخر الغائب الحاضر.

 

ثانيا: العدوان Aggression

هو ظاهرة التعبير عن الصراع.. الصراع الداخلي (بين المرء ودواخله) والصراع الخارجي (بين الأفراد والجماعات والدول).. في مواجهة تتسم بالعنف. غالبا يتبدى الصراع الداخلي على شكل معضلات نفسية ومشكلات تصل ذروتها بالانتحار. أما الصراع الخارجي فيتبدى فيعبر عن نفسه بالمشاجرات بين الأفراد والجماعات، والمعارك بين الدول.

وقد نال موضوع “العدوان” جانبا من أحكام القرآن الكريم، أشار إلى صوره ودوافعه في العديد من السور والآيات:

 “فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كان فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين”.. سورة البقرة آية 36

 “قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو” سورة طه آية 123

 “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون” سورة البقرة آية 30

وللعدوان صور متعددة في القرآن غير القتل:

  • العدوان اللفظي “بالسب”.. “أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم و ودوا لو تكفرون” سورة الممتحنة آية2
  • العدوان بالتهكم والسخرية.. “زين الذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين أمنوا” سورة البقرة آية212
  • العدوان بالشماتة.. “إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء”سورة الأعراف آية150
  • العدوان بالغيرة (المضمرة).. “إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة أن أبانا لفي ضلال مبين” سورة يوسف آية 8

وهناك صور أخرى.. مثل العدوان بالبغضاء وبالكراهية، مع صور العدوان على النفس.. سواء الصريح أو المضمر. والأخير يتوافق مع مفهوم “العداوة” أو hostility أو العدائية.. أي الرغبة في الإيذاء ربما تصل إلى درجة من الإيذاء البدني.. وهو ما أشار إليه “زيلمان ” في كتاباته حول العدوان.

هناك عاملان يزكيان العدوان أو السلوك العدواني، العامل السيكولوجي أو النفسي، والعامل الأيديولوجي أو العقائدي أو السياسي.

الأول (النفسي).. يتسم بالانفعالية الزائدة، وهو في الأفراد كما في الجماعات والشعوب. فقد عرف عن الهند تلك السمة الانفعالية، فالميثولوجيا الهندية مليئة بالعنف “البراهماتية”، حيث صراع الآلهة معا، وبينها وبين البشر. بينما عند الصين على العكس، ففي تعاليم البوذية يقول “كونفوشيوس” :”الجنرال العظيم حقا هو الذي يكره الغزو وليس حقودا أو انفعاليا”.

الثاني(الأيديولوجي).. هو الذي يفسر لنا مقولة في الحرب، : إن الصراع وحده لا يكفى لإشعال الحروب، لأنه (أي الصراع) تابع لإرادة وإدارة سياسية تسبقه.. أي أن الحرب تلي فكرة الحرب. وهو وحده ما يبرز أهمية وجود عقيدة قتالية عند الجيوش المتحاربة.

وجد الباحثون صعوبة في تقديم تعريف واحد للعدوان. ربما يرجع ذلك إلى تعدد المفاهيم حول وظيفة العدوان.. منها ما هو بغيض كريه، ومنها ما هو واجب ومشروع، بل وتحث عليه الأديان والقيم العليا.. مثل الحفاظ على العرض والشرف. هناك العديد من محاولات التعريف:

1-التعريف اللغوي.. مادة “عدا” في المعجم الوسيط: عدا عدوانا بفتح (العين والدال) جرى. وعدا عدوانا (بفتح العين وفتح الواو) تجاوز الخد. وهو ما يعنى أن الحد الفاصل بين العدوان كتقدم والعدوان كاعتداء هو تجاوز الحد (أي أنه فرق كمي).

أما aggression في المعجم الإنجليزي Webster’s فتعنى الإعداد للهجوم، والاعتداء على إحدى البلدان، وهى بذلك أقرب للمعنى المباشر المتداول للمفهوم العام.

2-التعريف النفسي.. (يجدر الإشارة إلى أننا سوف نتخير بعض التعريفات التي تلقى الضوء على الموضوع، دون التوقف عند غيرها –خصوصا تلك الخاصة بأحوال سلوك الطفل_)

.. تعريفات تعرض للسلوك العدواني:

-يعد السلوك عدوانيا، إذا كانت نوايا المعتدى تبطن شرا وتقصده.. أو إذا كان السلوك هجوميا (جسمي أو نفسي) أو تدمير ممتلكات.. إذا كانت النتيجة مؤلمة على الآخر (نفسي أو مادي).

-تعريف “هيلموث”.. انه ضرر أو محاولة الإضرار للآخر، أو أنه سلوك قتال يوجه مباشرة من إنسان ضد الآخرين.

-تعريف “انجلش انجلش”.. هو أفعال عدوانية نحو الآخرين وما يشتمل عليه من عداء معنوي نحوهم، وهو أيضا محاولة لتخريب ممتلكات الآخر.

-تعريف “بارون”.. انه شكل من أشكال السلوك يوجه مباشرة، بهدف إلحاق الأذى والضرر بالكائنات الحية.

 

ويقسم العدوان من حيث الشكل إلى :

.. عدوان ضد المجتمع anti-social aggression ويشمل الأفعال المؤذية التي يظلم بها الإنسان نفسه أو غيره. وتؤدى إلى إفساد المجتمع (اعتداء على النفس والمال والعرض والعقل والدين).

.. عدوان يرعى المجتمع pro-social aggression ويشمل الأعمال المؤذية التي يجب على الفرد النهوض بها، لرد ظلم (خاص/ مجتمعي) أو للدفاع عن النفس و الوطن والدين.. وهو في معنى “فرض عين” مراعاة لقوله تعالى:

  “كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”

سورة البقرة آية 216

ربما يلزم الإشارة إلى بعض المصطلحات التي تتصل ب”العدوان” ومرتبطة به. منها “العدائية (هي العدوان دون أن يصل الأذى بالمعتدى عليه) ومن الباحثين من سوى بين العدوان والعدائية. كما يوجد “الغضب”، الغيرة”، “الحقد”، “التوتر”، “الإحباط”. أما “الإرهاب” و”التطرف” فلهما وقفة قصيرة.

– ما الإرهاب؟

.. هو عملية متعمدة من الإيذاء المادي الصريح، لإثارة حالة من الترويع والقهر للآخر.. تمارسها جماعات بهدف تحقيق هدف سياسي/أيديولوجي معين.

شاع مصطلح الإرهاب في العقدين أو الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، يمكن القول الآن أن “الإرهاب” أصبح شكلا من أشكال الحروب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية(انتهت في 1945م)، مع بعض الإضافات على أرض الواقع.. حيث تلاحظ أن بعض الدول تمارس الإرهاب وليست جماعات صغيرة، كما أصبح الهدف منها ليس التأثير المؤقت المؤلم.. اقترب من مصطلح “الحرب” الصريحة. ولم يعد للإعلان عن جماعة ما أو هدف ما أو حتى لتحقيق ألم محدد ومحدود.. أتسع المفهوم الآن.

:”الإرهاب” هو.. استخدام متعمد للعنف أو التهديد بالعنف، من قبل جماعة ما أو دولة ما.. من أجل تحقيق هدف/أهداف استراتيجية.. أو حتى حالة من الرعب والتأثير المعنوي الذي يستتبع بمزيد من العنف.

:”الإرهاب” هو.. نوع من أنواع العنف المتعمد، تدفعه دوافع سياسية، موجه نحو أهداف غير حربية، تمارسه جماعات أو عملاء سريون لإحدى الدول. (وهو تعريف وزارة الخارجية الأمريكية – في العقد التسعيني من القرن العشرين).

:”الإرهاب” هو.. القتل العمد المنظم الذي يهدد الأبرياء ويلحق بهم الأذى، بهدف خلق حالة من الذعر من شأنها أن تعمل على تحقيق غايات سياسية، لكن المشكلة.. أنه أحيانا ما توصف بعض العمليات الثورية من أجل التحرير والتغيير بصفة العمليات الإرهابية.. كما فعلت وسائل الإعلام الغربي مع العمليات الفدائية الفلسطينية. وكذلك اعتبرت حكومة “ريجان”.. “الكونترا” في نيكاراجوا مقاتلين من أجل الحرية على العكس من الاتحاد السوفييتي (في حينه). وهو الأمر الذي يكشف البعد الأيديولوجي الكامن وراء مفاهيم وتعريفات وأشكال الإرهاب (تعريف الباحث الأمريكي “كوفيل” عام 1990م. )

-ما التطرف؟

هو الهوس العقائدي fanatcism (قديما كان يعنى الهوس الديني فقط، بات يعبر عن الهوس العقائدي كله). من خصائص السلوك الإرهابي. ثمة رابطة بين اتجاه المتطرف وسلوكه، وغالبا ينتهي المتطرف إلى حلول ترضى ذاته التي تتجه إلى التعصب المتطرف.

وهناك تداخل بالفعل بين المصطلحين “الإرهاب” و”التطرف”، لذا يلزم استيعاب بعض المصطلحات التي قد تكون السبب في هذا اللبس.. وهى:

.. التصلب، وهى حالة من الاحتفاظ باتجاه أو رأى أو التمسك بأسلوب عمل على الرغم من أن الشواهد تؤكد أن هذا التمسك ليس صوابا.

.. الجمود الفكري، وهى حالة العقل المغلق، ويقاوم التغيير، وغالبا ما تلحق به صفة المتعصب بالجامد فكريا، سواء كان يمينيا أو يساريا.

.. التعصب، وهى حالة خاصة من التجمد الفكري، بالإضافة إلى أن صاحبة يرفض كل الاتجاهات والجماعات الأخرى. أن محور ظاهرة التعصب هو العدوان وقابليته للتبرير والإسقاط والنقل.. والمتعصب يشير دوما إلى أن المجتمع يموج بمناخ عدواني.

ثالثا: المقاومة..

تقع “المقاومة” بين “الحرية” و “العدوان”.. حيث الحرية هي المسعى الواعي للتخلص من “الأضرار” (فالعطس مسعى بيولوجي، ولا إرادي للتخلص من أضرار مسببات الأمراض في الجهاز التنفسي.. بينما الفعل الحر يتسم بالإرادة الواعية لمواجهة تلك الأضرار). وحيث أن العدوان يبدأ من التهكم والاحتقار حتى الإرهاب بكل أشكاله والحروب النظامية. فالفعل الواعي الحر المناهض للفعل العدواني هو الفعل المقاوم.

إذا كان سلوك الإنسان يحدده الخصائص الوراثية التي تعود إلى تاريخ تطور الجنس البشرى، والى البيئة التي تعرض لها بوصفه فردا.. فان البحث العلمي يرجح كفة السبب الثاني. وإذا كان الوعي الإنساني بمفاهيم الحرية والعدوان معززا للاستجابات الصحيحة، فستكون هي “المقاومة”.

إن الكفاح في سبيل الحرية هو نتيجة اغراءات أو معززات اجتماعية عندما يصل التحدي إلى أقصاه وربما إلى حد الحروب، وقد يكون الكفاح بلا معززات اجتماعية مباشرة، فيسعى المرء إلى التمرد أو إلى حياة الاكتفاء الذاتي.

لذلك تمثل “المقاومة” الرابط الموضوعي بين العدوان و الحرية. فلا مقاومة غير مدعمة بمفاهيم الحرية لمجابهة العدوان، ولا حرية بلا مقاومة في مواجهة عدوان ما.

يزداد الصراع كلما قويت المقاومة، لكن هذا الفعل القوى قد يعبر عن نفسه بالعنف، وإذا اتجه هذا العنف إلى “الذات” أو “الأنا” أساسا.. تكون المقاومة السلبية، وإذا اتجه العنف إلى “الآخر” أساسا.. تكون المقاومة الإيجابية. ولكليهما دوره وتأثيره.

فالمقاومة السلبية هي أقرب التشبيهات إلى تجربة الزعيم الهندي “غاندي”، وقد أشار إلى ملامح تلك المقاومة السلبية في كتابه “في سبيل الحق” أو “قصة حياتي” وان كان عن غير عمد.. حيث الصراع يؤدى إلى إرادة ثم قرار ثم فعل.. ذاك الفعل الذي يعبر عن نفسه بالعنف. إذا اتجه العنف إلى الذات أصبحت مقاومة سلبية، وإذا اتجه إلى الآخر أصبحت مقاومة إيجابية.

ويمكن تعريف المقاومة السلبية بالتالي :”هي فعل العنف النابع عن إرادة قوية اتخذت طريقها نحو تنفيذ قرار له سمة “الجماعية”، نحو تحدى الآخر (المعتدى) عن طريق توجيه العنف نفسه تجاه الذات و الآخر (الذي هو غالبا أقوى).. غالبا تبدو أهداف ووسائل ونتائج المقاومة السلبية جلية تماما، مما يتيح للآخر فرصة المواجهة، فيتجدد الصراع، وهو هدف في حد ذاته.

أما المقاومة الإيجابية فهي الشائعة في رؤوس الجميع، وهى الجانب المرغوب من “العدوان”. ولا يفترق الإيجابي عن السلبي في المقاومة، إلى في اتجاه إدارة الصراع وتوجيه العنف.. إذا اتجه العنف إلى الذات باتت مقاومة سلبية، وإذا اتجه إلى الآخر العدواني، باتت المقاومة إيجابية.

بينما المقاومة الإيجابية هي الأقرب إلى الأذهان، وهى الجانب الإيجابي والمرغوب من “العدوان”.

إن الفعل المقاومى هو.. فعل العنف، المدعم بالوعي، والنابع عن إرادة موجهة (دفاعا عن قيم عليا) موجها إلى الآخر العدواني بكل السبل حتى يتحقق الهدف الأسمى. وقد يتجه هذا الفعل المقاومى العنيف الواعي إلى “الأنا” أو إلى “الآخر العدواني”.. وفى الحالتين بهدف الدفاع عن حق ومواجهة باطل و إلا أن الموجه إلى الأنا أساسا تكون حجم الأضرار المباشرة السريعة نحوه أقل حجما.. لذا تحتاج المقاومة السلبية إلى زمن أطول لتحقيق الهدف.. (أحيانا).

إن المقاومة في جوهرها ترتكز على أمرين:فعل المقاومة – هدف المقاومة. فهي حالة مواجهة، رافضة، تزكيها الرغبة في حماية “الذات” الجمعية، لمواجهة “الآخر” العدواني.. دون النظر إلى قوة الآخر وعنفه، ولا نتائج المجابهة، من أجل إعلاء إنسانية الإنسان، وتأكيد حريته وكرامته. إنها فعل له قيمة نفعية وأخلاقية للفرد والجماعة ولتحقيق: الحق في مقابل الباطل. الخير في مواجهة الشر. العدل ضد الظلم. غلبة الحرية على القهر والتسلط والمذلة.

– الحرب ذروة الصراع والمقاومة؟

.. الحرب هي قانون أثبتته الأحداث والتاريخ على أنها أزليه، يعبر عنه صراع الجماعات. لكن الصراع وحده لا يكفى، انه تابع الرادة وادارة سياسية تسبقه.. فالحرب تلي فكرة الحرب.

.. الحرب هي البديل عن عدم وجود تشريع قانوني قوى قادر على حل النزعات بين الجماعات والدول، وبالتالي فالحرب مسعى (غير واع ربما) لفرض قوانين بعض الجماعات (الدول) على أخرى أو لفرض قوانين جديدة.

.. الحرب هي النزوع إلى العنف النفسي، فالعنف أو الميل إلى السلوك العنيف كما هو في الأفراد يوجد في الجماعات والأمم.

.. الحرب هي العقد العنيف لتحويل بعض الدول والأمم إلى سوق تجارية لدول أخرى، أو لجعلها مصدرا لمواردها الخام.

.. الحروب هي صوت مرتفع في مقابل عجز صوت الحكمة.

وتلقى “فكرة الحرب” اهتمام كل الأديان السماوية. ففي “اليهودية” إقرار بشريعة الحرب والقتال في أبشع صور التدمير والتخريب والهلاك والسبى.. كما جاء في سفر التثنية، الإصحاح العشرين، عدد 10وما بعده: “حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب الهك… “

وتوجد فكرة الحرب في المسيحية، ففي عهودها الأولى كانت رافضة لفكرة الحرب:”.. من ضرب بالسيف سيهلك أو يجن… “. ثم تبنى القديس “بولس” فكرة الدعوة إلى احتمال استخدام القوة (مع زيادة عدد المسيحيين). ثم كان القديس “توماس” صاحب فكرة “الحرب العادلة” أي من أجل قضية عادلة.. والآن تعلن الكنيسة أن عدالة الحرب تحددها عقول أصحاب الرأي الراجح بالمشورة.

أما الإسلام فكان لفظ “الجهاد” بديلا للدلالة على الحرب كلفظة شائعة. وفى بداية الرسالة كان التوجيه الإلهي إلى الرسول (صلعم) في مكة هو “وأصبر لحكم ربك بأعيننا” سورة الطور آية 48. وفى المدينة تقرر الإذن بالقتال حين يطبق الأعداء:” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير.. ” سورة الحج، آية 39. وفى السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال وهو كره للمسلمين:” كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبو شيئا وهو شر لكم، والله أعلم وأنتم لا تعلمون” سورة البقرة آية 126.

إذن فالحرب هي أعلى صور العنف/ الصراع الشرس/ المقاتلة/ التعبير عن النزعات الشريرة / التعبير عن عجز القانون المنضبط الضابط/ الرغبة في فرض إرادة على إرادة أخرى /..

إلا أنه يلزم الإشارة إلى أن العمليات الحربية تتسم بالتالي: “أنها ليست عمليات فردية، بل جماعية، بينما عمليات المقاومة في غير الحروب النظامية تتسم بأنها قد تكون فردية أو جماعية (جماعات صغيرة). كما أن الحرب قد تكون مشروعة أو غير ذلك حسب الأسباب والدوافع، بينما عمليات المقاومة دائما مشروعة. وتعبر الحرب بغيضة لو كانت هدفا في ذاتها، أما عمليات المقاومة فهي مشروعة في ذاتها. ثم أن الحرب تعبر عن الصراع بين البشر طوال تاريخ البشرية، بينما عمليات المقاومة تعبر عن نزعة الإنسان إلى الحرية والى حياة أفضل. وهدف الحرب هو تدمير الآخر، بينما هدف العمليات المقاومة هو حماية الذات من قهر الآخر العدواني. والحرب ليست مطلوبة دوما، بينما العمليات المقاومة مطلوبة دوما. وعن الوسيلة، ، فوسيلة الحروب الأسلحة المادية، بينما وسيلة المقاومة بالإضافة إلى الأسلحة المادية، الفكر والفن والمأثور الشعبي وغيرها. كما أن الإبداع المعبر عن الحرب يكسب الدب خصوصية ومذاق خاص يرجع إلى خصوصية التجربة الحربية، بينما الإبداع المعبر عن المقاومة يرسخ للمفاهيم والقيم العليا فقط.

ما سبق إشارات للتفرقة بين عمليات المقاومة للعنصر الذي يظن أنه الضعف، في مقابل الحرب التي تبدو أحيانا وسيلة مقاومة، إلا أن الحرب ليست دوما للمقاومة، بل ربما للعدوان.

لكن السؤال الآن.. كيف يمكن للإنسان التعبير عن تجربة المقاومة إذا كانت من أجل ترسيخ المفاهيم والقيم السماوية والإنسانية العليا؟؟

وهذا هو السؤال الذي حاولت الإبداعات والآداب الإجابة عليه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح “أدب المقاومة”.

 

أدب المقاومة:

يهدف أدب المقاومة إلى إزكاء روح المقاومة والوعى لدى العامة.. فقد يعانى أحدهم من الظروف الكريهة والاحتلال وغيرها، لكنه يتعايش معها، دون رغبة في تغييرها. ويبدو أن الحكمة القائلة:” أن تكون عبدا واعيا لعبوديتك أفضل من أن تكون عبدا جاهلا سعيدا” مناسبة الدلالة في هذا الصدد.

ويخطئ الأديب إذا ما جعل الحرية حالة ذهنية دون أن يتجاوزها بعمل أدبي أي أن يتعامل بفاعلية وإيجابية، من أجل تحقيق الهدف الأسمى في التحرر.

أدب المقاومة الحق هو أدب التعبير عن صراع “الأنا” خلال سعيها لتحقيق رغباتها الواعية بالجماعة أو الوطن. انه الأدب الذي يسعى لترسيخ قواعد الوجود الإنساني.. الخير والسلام والنماء في مواجهة العدوان والشطط.

إجمالا يمكن لأدب المقاومة أن يحقق أهدافه من خلال مناهج متباينة:

.. التركيزعلى الظروف البغيضة التي يعيشها الإنسان تحت نير الاحتلال أو الاستبداد وغيره.

.. تحديد “الآخر”مع المزيد من كشف خططه ووسائله وحيله، حتى يمكن المواجهة والانتصار عليه.

.. يقوى أدب المقاومة دعوته بحث الناس على العمل، مع الاستشهاد بالنماذج الناجحة في التاريخ وفى الواقع المعاش.

.. واجب أدب المقاومة تغيير الحالات الذهنية والمشاعر، دون الوصية بإجراء عمل معين مكشوف ومباشر، أي تهيئة الناس وتزكية اليقظة والانتباه، دون إصدار الأوامر والتعليمات.

منذ أن استخدم البشر الأحجار وفروع الأشجار كأسلحة للمقاتلة، وحتى أواخر القرن العشرين مازال البشر يبتكرون من أجل وسيلة قاتلة أكثر فاعلية!.. ولعبت الحروب والاستعداد لها دورها في توظيف العلم لأهدافها. وقدم العلم منجزاته في الانشطار النووي واستخدامات “السيلنيوم” في الأجهزة الإلكترونية المبتكرة.. إلى رجال الحرب من أجل الهدف نفسه!!

منذ تلك الفترة السحيقة من التاريخ الحربي للإنسان وحتى الآن، مازال الصراع قائما، ولا توجد بشائر اختفائه، على الرغم من الحربين العالميين في قرن واحد (القرن الماضي) حيث قتل 175مليون إنسان (مع حساب القتلى في الحروب الإقليمية).

وطوال تلك الفترة، سجل الإنسان تاريخه الحربي، منذ أن رسم الثور الهائج مقوس الظهر والبطن، نافر القرنين على جدران الكهوف، مرورا بتلك الحفائر والآثار التي رصدت معاركه وانتصاراته حفرا أو نحتا أو نقشا، ثم كانت القلاع المدججة الحصينة هنا وهناك، حتى كانت كل معطيات التراث الشفاهى للجماعات والشعوب من مورثات الأساطير والملاحم، بل والأغاني والنوادر والحكايات، وحتى كانت وسائل الرصد والحفظ الحديثة من كتب وأفلام ووثائق.. وغيرها من موسيقى ورقص وجم الفنون.

لقد رافق هذا الصراع/الحروب دوما المنجز الإنساني التواق إلى قيم العدل والحرية، منجز مقاومي لكل النزعات الشريرة، ألا وهو الإبداع المقاومى(فنون وآداب). إذا كان أدب المقاومة هو:”الأدب المعبر عن الذات الواعية بهويتها، المتطلعة إلى الحرية.. في مواجهة الآخر المعتدى. ومحافظا على القيم العليا من أجل الخلاص الجمعي(من الجماعة حتى الأمة).. “.

انه إذن الأدب المعبر عن الرغبة في مواجهة الآخر العدواني، من خلال إبراز القوى الذاتية وتنمية عنصر “الانتماء” والرغبة في “الفداء” من أجل الجماعة والوطن.

ويشير التاريخ الأدبي أن الأدب (والفنون) رافق الإنسان طوال تاريخه الحربي. ويمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام : ما قبل المعارك.. أثناء المعارك.. ما بعد المعارك. ولكل منها ملامحها وخصائصها الفكرية والفنية، والتي يمكن إجمالها (غالبا) في تلك العناصر:”الدعوة إلى استرداد الحقوق المغتصبة”.. “”الدعوة للجهاد”.. “الحنين إلى الديار والوطن “.. “الدعوة إلى قيم العدل والإصلاح”.. “التغني بالبطل والانتصار”.. كما أن البكائيات تعد ضمن عناصر تناولات أدب المقاومة وإبداعاته، وهو ما تلاحظ في الإنتاج المقاومى خلال فترة انهيار الدولة الإسلامية في الأندلس، مع الدعوة للثأر والبحث عن البطل والبطولة، وطلب النجدة.

الآن.. وبعد كل المنجزات العلمية التي حققها الإنسان، وتطبيقاته في إنتاج ألالآت الأكثر فتكا وشراسة.. ترى ماذا يقال في أدب المقاومة وفنونه؟

قد يلزم الإشارة بعض الإحصاءات ذات الدلالة. يقال أنه عندما هاجم الأسطول الإنجليزي الإسكندرية عام1881م، أطلقت المدافع ثلاثة آلاف قذيفة، نجحت منها في إصابة الهدف حوالي عشر هذا العدد.

وفى الحرب الأمريكية الفيتنامية، حاول الطيران الأمريكي تدمير جسر”تان هوا”، فكانت 800طلعة فاشلة، بينما تمكنت أربع طائرات من طراز أف4(مسلحة بالأسلحة الذكية) في وقت لاحق، من تدميره في أول محاولة.

كما تتمكن طائرة واحدة من طراز اف-117 في طلعة واحدة، أن تحقق ما كانت تقوم به عدة قاذفات من طراز بي-17 في 4500طلعة(خلال الحرب العالمية الثانية)!!

وهكذا تتطور القوى التدميرية بفضل العلم!.. ويكفى الإعلان بأن حربي “كوسوفو” و”أفغانستان”.. كانت الأولى أول حرب في التاريخ حسمت دون تدخل القوات الأرضية، وبدون خسائر في الأرواح من جانب الطرف الأكثر تقدما تقنيا، وكذلك الثانية إلى حد كبير.

 

ما كان خلال العقد الأخير من القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي.. هناك عدة ملامح جديدة: الحروب أصبحت أقصر زمنيا، وتحقيق الانتصار لأحد الأطراف (الأكثر تقدما) محسوما بشدة، وأن المواجهات القريبة أو المباشرة غير متواجدة.. ربما تبدأ وتنتهى الحرب دون أن يرى أحد الجنود جنديا من الطرف الآخر…

ماذا يقال في أدب (فنون المقاومة) الآن؟

الإجابة بعد هذا العرض والمقدمة الطويلة، في جملة وحيدة.. لقد أصبح أدب المقاومة وقائيا(أي يمكنه أن يعمل قبل بدء المعارك فقط).. أما القسمة السابقة :قبل وأثناء وبعد المعارك فلا محل لها من الإعراب !! لذا قد يعتبر “أدب المقاومة” الآن أكثر أهمية عن أي وقت مضى.

إجمالا يمكن تقديم التعريف التالي لأدب المقاومة:

 ” هو الأدب المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) و (المتطلعة إلى الحرية).. في مواجهة الآخر العدواني. على أن يضع الكاتب نصب عينية جماعته وأمته، ومحافظا على كل ما تحفظه من قيم عليا.. وليس متطلعا إلى الحرية بمعنى الخلاص الفردي”.

     

مرتكزات المقاومــة:

إن المقاومة في جوهرها ترتكز على محورين أساسيين، هما:

أولا:فعل المقاومة.

ثانيا:هدف المقاومة.

إذا كانت “المقاومة” حالة مجابهة، رافضة، تزكيها رغبة أكيدة في حماية “الذات” في مقابل “الاخر”، دون النظر الى مقدار قوة هذا الآخر، أو عنفه، او حتى النتائج.. لأنها رد فعل لفعل عدواني سابق (مباشر أو غير مباشر)، من أجل إعلاء إنسانية الإنسان وتأكيد حقه في الحياة وفى الحرية والكرامة.

“المقاومة” إذن فعل له قيمة نفعية وأخلاقية للفرد وللجماعة لتحقيق لتأكيد قيم: الحق مقابل الباطل / الخير في مواجهة الشر / العدل ضد الظلم / ثم غلبة الحرية على التسلط والقهر والمذلة.

إلا أنه يلزم التفريق بين العمليات المقاومة والعمليات الحربية في عدد من النقاط:

العمليات الحربية    العمليات المقاومة

1-ليست فردية.    –ممكن أو تكون فردية أو بجماعة صغيرة.

2-قد تكون مشروعة أو غير ذلك.  –دائما مشروعة.

3-بغيضة لو كانت هدفا في ذاتها.  –مشروعة لو تكون هدفا في ذاتها.

4-تعبر عن الصراع التاريخي بين البشر. –تعبر عن نزعة الإنسان إلى الحرية.

5-هدفها “الآخر” لتحطيمه.   –هدفها “الذات” لتعضيدها ودعمها.

6-وسيلتها السلاح المادي ووسائل الحرب -وسيلتها مادية بالسلاح أحيانا وأحيانا بالفن

النفسية من الدهاء وغيره.   والأدب والمأثور الشعبي وغيرها.

7-ليست مطلوبة دائما.    – مطلوبة في أغلب الأوقات وفى السلم.

 

……………………………..

 

المراجع

1-ب. ف. سكينر.. “تكنولوجيا السلوك الإنساني”، سلسلة”عالم المعرفة”، الكويت، 1980م.

2-خليل قطب.. “سيكولوجية العدوان”، هيئة قصور الثقافة”، مصر1996م.

3-جون استيوارت مل.. “الحرية”، هيئة الكتاب، مصر 1996م.

4-محمد الغزالى.. “خلق المسلم، ط2، دار الكتب الحديثة، مصر 1974م.

5-سيد عويس.. “لا.. للعنف”، كتاب الهلال، العدد454، مصر، 1988م.

6-عزت سيد إسماعيل.. “سيكولوجية التطرف والإرهاب”، حوليات كلية الآداب، الكويت، 1996

7-اريك فروم.. “الإنسان بين الجوهر والمظهر”، عالم المعرفة، العدد140، الكويت(بدون).

8-السيد نجم.. “الحرب.. الفكرة-التجربة-الإبداع”، هيئة الكتاب، مصر1995م.

9-يحيى الرخاوى.. “العدوان والإبداع”، دراسة مطولة، “الإنسان والتطور”، مصر1994م.

10-شرابي شرابي.. “مقدمات لدراسة الوطن العربي”، ط3، بيروت، لبنان 1984م.

11-مجموعة باحثين.. “ثقافة المقاومة”، سلسلة كتابات نقدية (جزأن)، هيئة قصور الثقافة فى سبتمبر 1996م.

12-أحمد محمد عطية.. “أدب أكتوبر”، سلسلة “كتاب آتون”، عن دار آتون، 1980م.

13-عباس خضر.. “أدب المقاومة”، سلسلة المكتبة الثقافية، عن دار الكاتب العربى 1968.

14-غالى شكرى.. “مرآة المنفى.. أسئلة فى ثقافة النفط والحرب”، هيئة الكتاب 1994م.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم