في وصف سيوران

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ماريو أندريا ريغوني

ترجمة: نزار آغري

حين سنحت لي الفرصة، في مستهل الستينات من القرن الماضي، للقاء سيوران لأول مرة، عند أحد الأصدقاء في باريس، لم يكن يتمتع، آنذاك، بالمكانة الراسخة والشهرة الواسعة، اللتين جعلتا منه، في ما بعد، واحداً من كلاسيكيي القرن العشرين.

كان قد نشر، في ذلك الوقت، القسم الأعظم من كتاباته، وبادرت دار نشر غاليمار إلى ترجمة ونشر أعماله، مبتدئة  عام 1949بكتاب “مقال عن الانحلال”، الذي قوبل بالترحاب من لدن عدد محدود من النقاد. ينبغي أن أشير، هنا، إلى أن سيوران تمتع بحظوة، لم يحظ بها سوى القلة، وهي أن ”بن“ هو الذي روج له وتسيلان قام بترجمة بعض أعماله وأودن هيأ أنطولوجيا خاصة به ولكن بالرغم من هذه الحظوة فإنه، والحق يقال، لم يكن يشغل بال أحد كما هو الحال الآن. وهذا ما كان الأمر عليه، على وجه الخصوص، في الخارج، حيث لم تنشر إلا ترجمات مقتضبة لبعض كتاباته في صحف ودرويات هامشية، إن لم نقل مشبوهة. في أي حال لم تكن لتلك الترجمات أي صدى. ولهذا لا يصعب أن نفهم أنه، حين أعلن مضيفي عن قدومه، لم يكن ذلك ليعني لي أي شيء، فأنا لم أكن أعرف سوى إسمه، كما أن مضيفي لم يعط  أهمية خاصة لشخصه، فهو ”كاتب من بين كتاب كثر“، لا يختلف عنهم سوى بالطابع ”الغامض“ لمؤلفاته.

في تلك الأمسية، التي دار أكثر الحديث فيها حول مواضيع أدبية، لم يلفت الشخص الجالس أمامي انتباهي. كان متواضعاً ومتحفظاً بل خجولاً.

غير أنه كان يومض بنظرات حاسمة ويأتي بإيماءات معبرة ولعل ما زاد الأمر إثارة للانتباه طريقته الصعبة في النطق الأمر الذي كان يضفي على نطقه إيقاعاً خاصاً، ليس متردداً، بل غير منتظم. ومن دون أي تزويق كان واضحاً أنه يستلذ باللجوء إلى الأقوال المأثورة والطرائف. كانت طريقته في التعبير عن أفكاره في كل  شأن ممتعة وعميقة.

ما أثار انتباهي أكثر، أبعد من تبحره في أفكار القرن الثامن عشر وقدرته الفائقة في الانتقال من التراجيدي إلى الكوميدي  ومن السردية العامة إلى السخرية، كان التنوع الهائل لقراءاته، كماً وكيفاً، والشغف بالمعرفة الشاملة، والدقيقة، في آن معاً. ولاح لي أنه ليس من ذلك الصنف من المثقفين الباريسيين أو مثقفي البلاط، بل هو يسير في دروب غير مطروقة وأنه، في تعلقه باليوميات والسير الذاتية والرسائل والمذكرات، فضلاً عن الفلسفة والفكر الصوفي، كان قد غاص عميقاً في نصوص ومؤلفات منسية وفريدة.

كنتُ، في ذلك الوقت، في العشرينات من عمري، ولكن القدر وضعني في طريق شخص تحيط به الشهرة والغموض معاً، من ذلك الصنف الذي لا يظهر معدنهم الحقيقي في كتابتهم بل في الاحتكاك بهم.

التقيت به، إذن، عن طريق صديقي الإيطالي ـ القاريء النهم والناقد الصعب وترك هذا الأمر في نفسي أثراً بليغاً.

سرعان ما أدركت القيمة الاستثنائية للزائر حين عرفت، في ما بعد، أنه كان قارئاً أسطورياً مذ كان مراهقاً في رومانيا وأنه الآن، من جانب آخر، يسكن شقة صغيرة متواضعة لا تسع لكتب كثيرة. لقد ازددت إعجاباً واندهاشاً.

كانت الشقة التي يسكنها سيوران، مع صديقته سيمون بوي، التي التقاها أثناء الحرب، واحدة من مجموعة من ”غرف الخدم“ في الطابق الخامس من بناية في شارع الأوديون، على مقربة من دار المسرح.

تدلف من باب صغير ومنحن، علقت عليه قصاصات ورق كتبت فيها أسماء بخط اليد، وتدخل ممراً ضيقاً وواطئاً يقود إلى الغرف الصغيرة على أحد جانبيه وسقيفة مرتبة وأنيقة في الجانب الآخر تشبه الخيمة في حجمها وشكلها، وهي كانت  ”ستوديو“ سيوران. لم يكن ذلك المسكن مريحاً بالتأكيد غير أنه لم يكن فيه ما يبعث على الحزن أيضاً: بل إنه كان يشبه، بالأحرى، مكاناً خيالياً من قصة خرافية، إذ كان وكأن هالة تنبعث من قاطنيها الإثنين، منه ومن صديقته، وكان من الصعب معرفة سبب ذلك: أهو ذكاءهما الخارق أم تواضعهما الخجول.

كانا قد استقرا هناك، بعد أن خاضا غمار حياة بوهيمية حقيقية، والتي لا يمكننا اليوم سوى تخيلها لأنها تنتمي إلى عالم اختفى تماماً. كانا قضيا سنوات طويلة وهما ينتقلان من فندق صغير إلى فندق صغير آخر في الحي نفسه، ومن المؤكد أنهما ما كانا ليستقرا في مكان ثابت لو لم تدفعهما لذلك ظروف خارجية.

ذلك النمط من العيش، الذي وصفه لي سيوران بنبرة رثاء، كان يتوافق، كما قال لي ذات مرة، مع فكرته عن أن الأشياء عابرة، ولكنه كان، في الوقت نفسه، تعبيراً عن  تصور طوباوي للحرية والاستقلال الذاتي المطلق وهو الأمر الذي كان يتوق إليه ويجسده في كل ملمح من ملامح تفكيره وسلوكه. ولقد أعلن أنه ضحى من أجل ذلك بكل شيء بما في ذلك ”كرامته“. من الواضح أنه كان يشير بذلك إلى رفضه القيام بأي مهنة والعيش على حساب سيمون التي كانت معلمة للغة الإنكليزية في مدرسة ثانوية.

حين سألته زوجة يونغر، ذات مرة، من أين يحصل على قوته أجاب، بدعابة جعلت السيدة المسكينة تحمر خجلاً، أنه قواد.

بقي سيوران على الدوام مخلصاً للمبدأ الرومانسي ـ الانحطاطي القائل بأن الفنان لا ينبغي أن يعمل لأن العمل يمثل ليس فقط إقحاماً خارجياً فظاً بل إهانة للأنا وحطاً من شأنها. إنه هجوم على الجوهر الجواني للإنسان وخدش لرقته. ألم يرد في سفر التكوين أنه، أي العمل، لعنة حلت على الإنسان بعد طرده من الجنة؟

إن لم يكن رفض سيوران للعمل حنيناً للجنة فهو ليس بالتأكيد مجرد موقف مناهض للبرجوازية لأن الكتابة الحقيقية، بالنسبة له، ينبغي أن تكون للناس أجمعين: تنفيذ وصية القدر، بالقدر الممكن من النبل، وبالشكل الذي يراه المرء مناسباً.

من الواضح أنه لم يستطع، حسب هذا المفهوم، أو بالأحرى هذا الدستور الروحي، أن يتكيف مع ذلك المزيج المنحط من الغرور والمنافع الذاتية والدجل الذي كان يسود الميدان العام للأدب والنقد.

لقد عُرضت عليه الجوائز الرفيعة وقد رفضها كلها، بالرغم من أنه كان يعيش في وضع مزر، أولاً لأنه لم يستطع أن يسمح لنفسه بأن يحول ما يجترحه إلى مهنة وبالتالي يحط من شأنه وثانياً لأن ما يبدعه كان من قماشة فريدة: كان يعتقد، وليس عن خطأ، بأن الخلاص من الوهم لا يحتاج إلى جوائز.

هناك حالة استثنائية وحيدة، في هذا الباب: حصوله على جائزة ريفارول، وهي جائزة اللغة الفرنسية، في بداية مسيرته ككاتب منفي، حين نالت مخطوطته

 ”مقال“ استحسان لجنة تضم أندريه جيد وأندريه موروا وجان بولهان وجول رومان وجول سوبرفيل. كان رفض الجائزة من كاتب شاب، أجنبي وغير معروف، سيعتبر سلوكاً وقحاً للغاية.

لم يكن سيوران يتقبل أي شكل من أشكال الاحتفاء وقد أحبط كل مسعى أو مبادرة لتكريمه. وأتذكر جيداً أن إحدى المهتمات بأدبه ومن المعجبات به أصرت أن تكرس له عدداً خاصاً من المجلة التي كانت تشرف عليها بالرغم من توسله إليها ألا تفعل. وصدف أن التقيا في حفلة أقامها صديق مشترك لنا بمناسبة صدور كتاب لي في فرنسا. وقد عرف سيوران أن تلك الصديقة مصرة على المضي في مشروعها وأنها قامت بخطوات في هذا الشأن فدعت كتاباً يعرفونه للإسهام في المجلة، مثل بيكيت وإلياد وإيونسكو، استشاط غضباً وكان سيصفعها لولا أنه غادر الحفل فوراً. لم أره بذلك القدر من الغيظ أبداً. غير أنه لم  يرد أن يسبب الإزعاج لأصدقائه ولهذا لم يكد يصل إلى البيت حتى كتب رسالة اعتذار إلى بيكيت، شرح فيها موقفه.

مازلت أحتفظ بالرد الذي كتبه ”سام“ ** على قصاصة ورق، وقد أعطاني إياها سيوران، كتذكار ولإشباع فضولي، إذ يؤكد أنه أدرك على أي حال أن سيوران لم يكن على علم أبداً بتلك المبادرة. وأنا أورد هذه الملاحظة كي أشير إلى أن مثل هذا التواضع وهذه الرقة أمر نادر الوجود بين الأدباء والفنانين، كبيرهم وصغيرهم، بل هو نادر الوجود لدى البشر قاطبة. وهو حين صار يقبل بإجراء المقابلات معه، في السنوات الأخيرة، فإنه فعل ذلك من قبيل التعاطف، أو التسلية واللهو، وأحياناً التكرم نحو أولئك الذين كانوا يريدون مقابلته، وليس الغرور أو الإستعراض.

لقد أتيحت لي الفرصة أكثر من مرة لأن أجلس معه ساعات وأنا أتمعن في كلماته وأراقب الطريقة التي يقضي بها عبقري أدبي وفلسفي مثله وقته. ولم تكن الدهشة مما يختزنه هذا الرجل في شخصيته بأقل من البهاء الذي كان يتسربل به نثره.

ليس كل الكتاب العظماء أشخاصاً رائعين وملفتين للنظر أو على الأقل محبوبين. ينبغي، في واقع الحال، أن نقر بالحقيقة البسيطة في أن الكثيرين منهم يثيرون الضجر بل المقت. وبشكل عام فإن الأدب، مثل الفلسفة، يضم تحت جناحيه هذين الصنفين من الشخصيات. لنقل أنه، أي الأدب، ونظراً لطبيعته الكاشفة، يقف على الحياد في هذا الأمر.

ولكن بما أنه، في نهاية المطاف، لا يستنفد الواقع، فمن السهل علينا أن نعرف الجهة التي ينحاز إليها، في حال ترتب عليه اتخاذ موقف منحاز.

يصعب على من لم يلتق بسيوران أن يتخيل مدى الرهافة والحيوية اللتين تشعان من شخصيته.

إنه، حتى في سخريته اللاذعة من بؤس الحياة، كان يسعى ألا يكون بارداً ولامبالياً. كان يفعل ذلك حين يفشل في أن يظهر قدراً من البراءة بطريقة حساسة ومعقدة.

الحال أن روحه المتقدة لم تذبل نتيجة الخمود الذهني والتقدم في العمر وهو احتفظ، حتى في أحوال المرض التي ألمت به أكثر من مرة، بابتسامة شفافة ومحببة. لم يكن المرء ليخرج محبطاً أو ناقماً من أي مقابلة مع سيوران، عاشق الرماد ورسول القنوط.

التضاد، الذي كان يتقن نسجه على صفحات الكتب، كان أيضاً سمة من سمات شخصيته ومصدر ثراء لذهنه لأن الواقع نفسه زاخر بالتضادات.

وبقدر ما تعلق الأمر بي يمكنني القول دون تردد أنني لم أشعر بأي متعة تفوق تلك التي كنت أشعر بها حين كنت ألتقي به في أي مكان أو أزوره في بيته أو أتحدث معه على الهاتف. كانت كلماته تبعث الراحة في قلبي وتبدد كل حيرة أو قلق.

ليس في وسعي أن أعبر عن صداقتي مع سيوران لأنها، شأن كل العلاقات العميقة، مما لا يمكن الإفصاح عنها بالكلمات. غير أن الجوانب التي أتيت على ذكرها تتفق مع تجربة العديد من الذين التقوا به وتستحق التوقف عندها لأنها إما تسربت إلى أعماله أو أنها فتحت الباب لها على هذا النحو أوذاك.

يمكن القول أن الرؤية الجامحة التي تسطع من تلك الأعمال والسموم الميتافيزيقية التي تتخللها، تخلقان، وياللمفارقة، تأثيراً مطمئناً، وهو أمر كثيراً ما تمت الإشارة إليه. هذا ينبع، دون شك، من سحر سرده وبهاء أسلوبه، ولكن أيضاً من حيوية أفكاره، التي أفصح عنها دوماً، سواء في كتاباته أو في مسيرته الحياتية.

آمن سيوران بمبدأ أن ”كل ما غير مباشر لا قيمة له“ ولهذا اجتمع في ذاته اللامبالي والمتصوف في آن معاً. لم ينفصل، في شخصه، الثقافي والفني عن المعاش وهو الأمر الذي تجسد في كل سطر من كتاباته بوصفه شهادة أو امتحاناً أو استفزازاً أو هدية من الأنا إلى الأنا.

إنه يضرب من الداخل، من خلال ألاعيبه في التضادات والمفارقات والتناقضات والمبالغات، فينتزع من الرؤية المجردة صورة تنقل العدوى إلى ما عداها، وهذا ما يفصح عنه بدءاً من عناوين كتبه نفسها:

Syllogismes de l’amertume, La tentation d’exister, De l’inconvénient d’être né…        

(مقايسات المرارة، السعي في الوجود، عن مأزق الولادة…).

هناك الكثير من الكتاب الذين يمكن أن نعجب بهم، بل أن نحبهم، ولكن أولئك الذين يغمروننا، جسداً وروحاً، ويصيرون، بذلك، شركاء في حيراتنا ومخاوفنا وأسرارنا، نادرون جداً.

ليس من المعتاد أن يصبح كاتب نص أدبي صديقاً لنا. سيوران فعل ذلك. الكثير من الغرباء، في أنحاء مختلفة من العالم، شعروا بالرغبة في البحث عنه ليتقاسموا معه أدق أسرارهم ومصائرهم وأسئلتهم أو، ببساطة، ليشاطرهم الضحك على كل شيء.

……………………….

المصدر:

MARIO ANDREA RIGONI. IN COMPAGNIA DI CIORAN.© 2004 il notes magico.
Via Negrelli, 6 – 35141 Padova Tel. 049-8717891 www.ilnotesmagico.it [email protected]

مقالات من نفس القسم