“شجو الهديل”.. وظيفة اجتماعية وروحية وفنية لـ “منور عمارة” بسيطة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمار علي حسن

لم ينقطع الأدب المصري عن تصوير علاقة الريف بالمدينة، ولا عن تبيان غربة القرويين وتهميشهم وتهشيمهم في شوارع المدن، وعرفنا منه، إلى جانب الشهادات الذاتية وعلم الاجتماع، كيف أن بعض هؤلاء يتكيف سريعاً مع المكان الجديد الذي انتقل إليه سعياً وراء الرزق غالباً، وفي المقابل يوجد من يلوذ بريفيته كسياج يحميه، قابضاً على الطقوس والقيم والذكريات واللهجة، وعلي طرف من حكايات الكبار والرفاق، يغالب الحنين، ويظل طوال الوقت مشغولاً بالمضاهاة بين عالميه، القديم والجديد، اللذين قد لا يفارقان القسوة، وإن اختلفت في نوعها وتفاصيلها، وفي طبيعة المدن، ما بين تلك الصغيرة المتريفة، وهذه الكبرى التي تختلف أنماط العيش في بعض أحيائها عن نظيرتها بالقرى.

أحد هؤلاء هو “فتحي” بطل الراوية الجديدة للأديب الكبير جار النبي الحلو، التي صدرت مؤخراً عن دار العين بالقاهرة، وأتت على شاكلة أعماله السابقة، مكثفة، المحذوف فيها ربما يكون أكثر من المكتوب، والفراغات السردية متتابعة كما هي في فن القصة القصيرة، لتدعو القارئ دوماً إلى ملئها، بما يعرفه ويتخيله، وهي أيضاً نابضة بلغة شاعرية، ونزوع إنساني مغموس في الألفة والحميمية.

نزل فتحي ضيفاً على “عبد السلام” صاحب بناية مكونة من عدة طوابق، لم يسكن شقة منها، ولا حتى الغرفة المعلقة فوق سطحها، إنما المنور، وليس “بئر السلم” الذي يُترك عادة  لحراس العمارات وبوابيها، ومع هذا يقفز “فتحي” ليصير هو المهيمن على الأحداث، والقابض على مركزها العامر بالتصرفات والكلمات، وهو في الوقت نفسه يمثل مفتاح فهم الرواية، الذي تتوزع منه مسارات سردها، وتعود إليه، لدرجة أن القارئ لا يجد أي صعوبة في أن يضع عنواناً بديلاً للرواية هو “المنور”.

يبدو المنور هنا منفذاً اجتماعياً وروحياً وفنيا،ً ويلعب هذه الأدوار الثلاثة التي ترسم شكل الرواية، وتطرح مضمونها. فمن المنور يمكن أن نطل على الأشخاص والأشياء و نشهد التطورات، ونتابع النقلات الدرامية، ونقاط التماس بين المدينة والريف، ومنه يمكن أن نرصد ما تجود به أرواح الشخصيات المعذبة، والتي تختلف أسباب عذابها، بينما يوحدها الألم والشغف واللهفة والتطلع إلى حياة أفضل، لكنها لا تجيء. وعلى شاكلة هذا المنور تأتي اللغة والبناء والزمن والوصف.

1 ـ المنور كنافذة اجتماعية: إذا بحثنا عن الوظيفة الاجتماعية للمنور في هذا النص، تقع في أيدينا الأشياء التي تتساقط من نوافذ الشقق المفتوحة عليه، سواء بإرادة أصحابها أو رغماً عنهم، أو سهواً منهم. هذه الأشياء تعبر عن الحالة المادية للسكان، وعن مزاجهم، أو موقفهم السياسي وعن القيم التي يؤمنون بها. هذه الأشياء يعبر عنها الرواي قائلاً عن العمارة: “سكانها يستسهلون رمي الأشياء الصغيرة، فجمعت من المنور علب سجائر فارغة لأنواع مختلفة، وأعقاب سجائر، وولاعات رخيصة، وأقلاما جافة، وعلب مشروبات غازية هشة، وورود بلاستيك، وأوراقا مكورة متهالكة، وصورا من مجلات وجرائد لنساء عاريات، وصورا لقادة.”

 ألقيت هذه الأشياء قبل أن يأتي “فتحي” إلى المنور، فلما جاء التقطها، وتخير منها ما ينفعه، وهو القليل جداً وتخلص مما لا نفع له، لكنه أدرك من احتفاظه بها أو تخليه عنها، مقدار ما تمثله لدى أصحابها. أما الأشياء الأكثر التي تلقاها فقد جاءت طواعية، ومن الباب، بعد أن هطل المطر غزيراً على ساكن المنور، فأشفق السكان عليه، وأمدوه بما يقيه من تقلبات الطقس.

 

 من مختلف النوافد يقتحم أذنيّ “فتحي” ما يسمعه السكان من نشرات الأخبار والأغاني، وما يقولونه لغيرهم في المكالمات الهاتفية، وما يتفوهون به في فرحهم وحزنهم، ووقت غضبهم وشجارهم. كل هذه الأحاديث المختلفة والمختلطة ومتفاوتة المدة والمصدر، تنهمر على أذنيه في كثير من الأوقات، ولا سبيل له في تفاديها، بل يجعله الإنصات لها هو الأكثر معرفة بما يدور في البناية كلها.

يبدو “فتحى” هنا أشبه بالشيخ حسني في رواية “مالك الحزين” لإبراهيم أصلان، ذلك الكفيف الذي كان يعرف، أكثر من غيره، أسرار الحي الذي يقطنه. لكن عمى “فتحى” لم يكن كلياً، إنما كان يعاني فقط من ضعف نظر، ليكون عماه منحصراً في جهله بالمدينة وقت أن هبط إليها، ثم لم يلبث أن عرف الكثير عن وحدة اجتماعية منها، تتمثل في العمارة. وبينما الشيخ حسني مجرد شخصية ثانوية في رواية أصلان، خلافاً للفيلم السينمائي المأخوذ عنها باسم “الكيت كات”، فإن شخصية فتحي هي بطل رواية الحلو.

ويمثل المنور أيضاً نقطة التقاء الريف بالمدينة، فهو أكثر بقاع البناية اتصالاً بالشارع حيث يدب بعض قاطني المكان في الذهاب والإيابف، وفي السوق حيث تأتي القرويات حاملات ما تنتجه القرى لتستهلكه المدينة، ثم يتحول المنور إلى بقعة ريفية في قلب مدينة، حين يربي “فتحي” فيه حمامتين، يحبسهما في قفص من الجريد، وعنزة يربطها إلى جانب جداره الكالح، أعطته إياها امرأة ريفية تسمى “اعتماد”. وفي المنور تدور حكايات جديدة على سمع “فتحي” يسمعها من “عماد” ابن صاحب العمارة، ذلك الشاب الخجول الذي يقرأ الروايات بانتظام، فيعرف منه فتحي أسماء كتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان.

في المنور نفسه ندرك طرفاً من شبكة العلاقات التي تبهت بين سكان المدن، وأهلهم القاطنين هناك في الريف، ثم يتحول إلى ملاذ لـ “عماد” الذي يعاني من قسوة والده، ولا يجد مصرفاً لآلام نفسه سوى بالبوح لـ “فتحي”، فيتحول المنور إلى ملاذ له في ساعات الضيق. ويبدو البيت كله محور اختبار توجهات السكان وميولهم وانحيازاتهم، حتى إن لم يعرفوا لهذا اصطلاحاً أو مذهباً سياسياً واقتصادياً، فصاحب البيت يتصرف كرجل رأسمالي يبحث عن تعزيز الربح دوماً، والشيخ “علي ” ذو اللحية الكثة يمثل النفعية في أعمق صورها، بينما تظهر التعاونية في أشكال من العلاقات والعبارات، كأن يجّد كثيرون في البحث عن متبرع بالدم من الفصيلة النادرة ( o) لـ “سهير” التي تعيش مع أمها في إحدى الشقق، ويساعد فتحي أمها المريضة على صعود السلم، ويتعاطف كثيرون من السكان مع السيدة “نعمات” التي هاجر زوجها إلى خارج مصر، وكان عليها أن تتعب في تدبير الإيجار الشهري، بعد انقطاع النقود التي كان يرسلها. لكن هذه العلاقات الطيبة، لا تنفي النظرة العابرة للموت عند أهل المدن، حيث يغور الحزن سريعاً على أي ميت من سكان العمارة، ويكون تأجير الشقة الفارغة هو الهم الأكبر لصاحبها.

من المنور، صعوداً إلى سطح العمارة، وخروجاً منه إلى أماكن أخرى ترتادها بطلات الرواية، يبدو المثقف في هذه الرواية شخصاً خاملا ًضعيفاً متردداً، بل ومستلباً. سواء كان هو الرسام “كمال” الذي يقطن غرفة السطوح، أو “حازم” المعيد بالجامعة الذي تتعلق به “حنان” ابنة صاحب العمارة، ثم يتركها لعجزه عن بناء أسرة، أو “مالك” المدرس المثقف الذي تتعلق به “سهير” المريضة، ويتخلى عنها أيضاً.

2 ـ المنور كنافذة روحية: يبدو المنور مكان لاتشغال الأرواح المعذبة، فالعلاقات العاطفية للفتيات الثلاث تنتهي إلى فجائع، وتترك في كل واحدة منهن حزناً مقيماً، يمس روح “فتحى” نفسه، فيتعاطف معهن من بعيد، دون أن يعرف كيف يساعدهن في اجتياز المحن.

وفي المنور ينهمر حنين “فتحي” إلى قريته، حيث أيامه التي لا تريد أن تبرح ذاكرته، فيجلس وحيداً يستعيد الحكايات والوصايا والوجوه والوقائع التي توالت في حياته منذ طفولته الغضة وحتى اللحظة التي فارق فيها بيته القروى البسيط. وفي المنور يتجلى حدب “فتحي” وفزعه على سكان العمارة، حين يصل إليه صراخ من يتم عقابها، أو يوجه لها لوم قاسي، كما تتهادى توسلات ورجاء من تطلب من حبيبها التمهل ليعطي ما بينهما فرصة البقاء على حاله حياً.

إلى المنور أيضاً ينهمر ما يغذي الروح، حيث القرآن الذي ينبعث من التلفاز أو المذياع أو ما يقرأه البعض من المصحف مباشرة. وإليه أيضاً تنسكب الموسيقى والأغاني العاطفية، وفيه يهدل الحمام بصوت لافت يمس شغاف الروح، وهنا يقول الراوي على لسان “سهير”: “ياه .. كبرت الزغلولتان، صارتا حمامتين، وصرت أحب التنصت لهديلهما في الصباحات الباكرة. يرتفع الهديل كأنه تسبيح، كأنه تهجد، كأنه مغازلة، كأنه طلب الود .. يتعالى هديل الحمام، يحكي ذكريات، بالكاد أراها مضببة، تبعث على الفرح وعلى البكاء.”

لا يبقى المنور أيضاً مكاناً جافاً قذراً إنما يحفل بعد تنظيفه وترتيبه بحكايات “عماد” التي استمدها من روايات قرأها، وحكايات أخرى في الأفلام العربية التي يحب “فتحى” مشاهدتها بعد أن صار لديه جهاز تلفزيون.

3 ـ المنور كنافذة فنية: بدا المنور أيضاً، بحجمه وسمته وبساطته، مسيطرا ًعلى شكل الرواية، فجاءت لغتها محكمة، قريبة من النفس، أشبه بقصص قصيرة متتابعة، أو حتى قصص قصيرة جداً في بعض المواضع، لكن بينها جميعاً روابط قوية، تضم أشتاتها، وتجمع نثارها، وتنظم خيوطها، وهو مسار طالما برع فيه الحلو في أعمال سابقة.

على المنوال نفسه جاء الوصف مقتصداً أو محتشماً أو ممتنعاً في بعض المواضع. فقليل ما نرى وصفاً للعمارة، فالمهم هو المنور، محور الأحداث، وليس هناك وصف للشارع الذي تقع فيه العمارة، ولا السوق التي تجلس فيها “اعتماد” عارضة بضاعتها، ثم يذهب “فتحي” إليها باحثاً عنها، ولا نرى أيضاً وصفاً لرحلة “فتحي” من القرية إلى المدينة. لم يجد جار النبي الحلو أي داع لكل هذا، طالما قبض على المكان المركزي المحدد، الذي يرومه، وأعطاه كل قدرته على الوصف والرسم والتوضيح.

كما أتى الزمن مضعوطاً أيضاً، فضلاً عن المكان، فأحداث الرواية تجري في زمن الهاتف النقال، وبه تختصر أوقاتاً طويلة، كما ندرك في بعض المكالمات الهاتفية التي يصيغها الكاتب على حالها، ليصنع بها حواراً عن بعد. وهذا الانضغاط نفسه يمس حال “فتحي” فهو جاء إلى المدينة طلباً للرزق، لكن لا تأتي الرواية على ذكر طبيعة عمله، ولا تفصل في هذا، فالمهم هي حالته وليست مهمته.

يبدو هديل الحمام، الذي يأتي كصوت متقطع، مناسباً لبنية الرواية، وحتى حين اختار الكاتب صوتاً للعنزة الوحيدة في سرده جعله مأمأة وليس ثغاء، ليشارك هذا التناسب وظيفته، أو يعبر عنه بدقة، من خلال دفقات ومقاطع سردية متلاحقة، وفصول قصيرة يأخذ كل منها عنواناً دالاً على وحدتها مثل: المنور، وحكاية على كل لسان، والمطر ينقذ فتحي، وحجرة من خشب تطل على سماء، وعماد يبكي سعيد مهران، واعتماد تدخل الرواية، ويتعالى الهديل، وفصيلة الدم O، والصدى، ولماذا ينطفيء الوهج؟، وذعر، وقرارات، وشجو، ومحاولة للنجاة، واللحظة الخطأ، وسحب دكناء.

نعم كانت النهاية دكناء، كسحب سوداء، يأتي معها الخوف والاكتئاب، فقد انقطعت السبل بـ “فتحي” حين ذهب إلى السوق ليرد إلى “اعتماد” عنزتها بعد أن ضاق بها صاحب البيت، وهدد بذبحها. وعاد إليه الحزن بعد أن طارت الحمامتان، ثم ذُبحت العنزة بالفعل، ليخلو عالمه من رافد مهم للبهجة، ويجد أمامه توحش المدينة، يقبض عليه بقسوة.

………………………….

*نقلا عن جريدة “الوطن”

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم