فِتنَةُ القراءة الثانية! .. مدخل لقراءة “أسفار مدينة الطين”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
في "أسفار مدينة الطين" تتداخل الأجناس الأدبية والفنية بخفةٍ وسلاسة، فلا تشعر أنك خرجت من الرواية إلى جنسٍ أخر، وكل هذه الأجناس تتضافر لتوصل المعنى الذي يريده كاتب الأسفار، وتحول دون الملل من أُحادية صوت السارد أو رتابة الحكي بالطريقة نفسها على مدار أكثر من ثمانمائة وخمسين صفحة.

مروة تميم

في رمضان الماضي قررت إعادة قراءة روايات سعود السنعوسي بترتيب صدورها، وفي أوائل مايو أنهيت أخر إصداراته: “أسفار مدينة الطين”. ومع اقتراب الأسفار على الانتهاء، كنت أعرف الحكاية والأشخاص مسبقًا، بعد أن زالت لهفة القراءة الأولى وشوق التعرف على الرواية التي غرق فيها كاتبها لثمان سنوات، ويحكي عنها في كل لقاء على أنها “الرواية الحُلم”! كنت اقرأ هذه المرة بتأنٍ وعلى مهل، استطعم حلاوة كل حرفٍ وأرى أبعد مما تضمه السطور، واكتشف مناطق إبداعٍ جديدة تجاوزتها عين اللهفة في القراءة الأولى، ولا تفارقني الدهشة، ويتضاعف إعجابي بقلم سعود السنعوسي المسكون بالجمال.

الروائي الحُلم “صادق بو حَدَب”:

اسمٌ صادفته للمرة الأولى في ملحق “ناقة صالحة”، وقبل أن اكتشف لعبة سعود، هرعت إلى محرك البحث لأستزيد معرفةً بهذا الـ”صادق بو حَدَب” الذي كتب سعود روايته على نهج قصة قصيرة كتبها صادق في الستينات. وبالطبع خاب مسعاي، وعندما عدت لناقة صالحة وفهمت لعبة سعود، اعترفت بأنه غلبني هذه المرة بلعبته المتقنة.

بعد صدور سِفري مدينة الطين: سِفر العَباءة وسِفر التَبَّة، أصبح صادق بو حَدَب روائي حقيقي- على الورق- له مُنجَز ثقافي على مدار نصف قرنٍ، حيلة جديدة من سعود ولكن هذه المرة أدخل اللعبة وأنا أعرف الحيلة.. وابتسم.

لم أتوقف أمام الاسم طويلاً؛ “صادق بو حَدَب” اسم مثل أي اسم، ربما له وقع قديم على الأُذُن ليُتقن سعود لعبته ويجعلنا نصدق أنه ينتمي لستينات القرن الماضي.

الآن بعد القراءة الثانية للأسفار انتبهت لمدلول الاسم وإحالاته ليس في متن الأسفار وحدها، بل في كتابات سعود السابقة لا سيما “ناقة صالحة”. “صادق” هو الاسم المذكر من “الصادقة”/ الصَاجَّة؛ وهو ما أشار إليه كاتب الأسفار في منتصف سِفر التَبَّة حين قال: “أنتِ أنا فيما مضى.. أنا أنتِ فيما يجيء”.

واختيار الاسم ليس من قبيل الصدفة؛ فسعود على لسان دخيل بن أسمر قال عن صالحة أنها “تكذب لتقول الحقيقة”، وفي الكلمة التي ألقاها سعود نفسه في افتتاح الدورة السادسة عشر من مهرجان طيران الإمارات للآداب في 31 يناير 2024 يقول: “في الرواية أتخيل، وأكذِب كذبيّ المشروع، وارتكب حرامي الحلال، لأن الرواية كذبةٌ تقول الحقيقة”. وكأنه باختيار الاسم يذكرنا أن من يكتب الأسفار “صادق” حتى وإن كانت روايته كذبة.

أما “بو حَدَب” فهي أبلغ كُنية لسعود- نفسه وممثلاً لجيله- ذلك الصغير الذي وصفه سعود نفسه في تعليق على مقطع فيديو يظهر به صغيرًا في عامه الثالث، نشره بحسابه على إنستجرام بتاريخ 22 أكتوبر 2018 بأنه: “عينٌ ترى كل شيء، ولسانٌ عاجز عن قول شيء”. أي وصفٍ يمكن أن يُلخص ما يحمله هذا الصغير على ظهره من “خذلان” كالـ”حدَبَ”؟!

الطفل العالق في “خذلانات” طفولته:

  • الغزو:

يتكرر حديث سعود عن الغزو وأثره عليه طفلاً، ويظهر ذلك في كتاباته وفي عدد كبير من لقاءاته التليفزيونية، أخرها كان في برنامج “الليوان” مع عبد الله المديفر بتاريخ 25 مارس 2024، والذي تحدث فيه عن الغزو الذي عاشه طفلاً لا يُدرك معناه، إلا في نظرات القلق والترقب والخوف في أعين أهله، ثم فهمه شابًا وعانى التشوهات التي خلفها هذا الغزو محليًا وعربيًا؛ منها أسئلة الطفل الحائر الذي عاش سنوات عمره التسع الأولى يتجرع “العروبة” في البيت وفي المدرسة كل صباح، ثم في عامه العاشر يقف حائرًا أمام انقساماتٍ لا يفهمها، وأوامر بشطب كل ما يتعلق بدول الـ”ضد” من كتبه المدرسية دون أن يقدم له أحد تفسيرًا لأسئلته المُعَلَّقة: لماذا ربيتونا على وحدة الأمة العربية؟  لماذا قام “عربي” باحتلال “عربي” آخر؟ ولماذا الآن نحذف “عربي” ثالث من مناهجنا؟!

ربما جاء التجلي الأكبر لأحداث الغزو وتبعاته في “فئران أمي حصة” وأسئلة كتكوت وروايته “إرث النار”، ولكن اختيار تاريخ إصدار سِفريّ “العباءة” و”التبة” في إبريل 1990، ثم لقاء صادق بو حَدَب و”الرجل الغريب”/ “غايب” في يونيو 1990، له دلالة على أن السِفر الثالث “سِفر العَنْفُوز” ربما سيشهد في مقدمته أو خاتمته في المجتزأ من “ذخيرة أيام الخرف” بعضًا من أحداث الغزو وتبعاته ووقعه على شخصيات “الحاضر”: “الشايب، صادق، غايب”.

  • سقوط “القدوة”:

ربما يظهر مدى تأثر سعود السنعوسي بالتحولات التي حدثت لبعض رموز جيله الثقافية والدينية في مقاله “يا شيخ أحمد جزاك الله مَكرُمَةً” المنشور بزهرة الخليج بتاريخ 7 يونيو 2019، ولقاءه مع عبد الرحمن الديِّن في برنامج “صناديق العمر” على تليفزيون الراي بتاريخ 1 مايو 2021؛ حيث تحدث عن رجال الدين والشعراء والمثقفين وكُتاب المسرح أو من أسماهم “المؤسسين الأوائل” و”صُناع ذاكرة” طفولته، مَن تربى على كلماتهم وعانى من ترهيب شيوخهم لطفلٍ كل ذنبه سماع أغنية أو مشاهدة مسرحية أطفال! وبعد عقودٍ ظهروا في الفضائيات التي “كفروه” صغيرًا لمشاهدتها، وتغنوا بما نهوا الطفل عنه!

كلهم انقلبوا على أنفسهم وتركوه وحيدًا، وإذا ما سأل أحدهم: “لماذا؟” يأتي الرد الذي ما اقتنع به الطفل أبدًا: “كبرت وعقلت و.. تغيرت!” وبقي الطفل عالقًا في مرحلة “ما قبل العقل” يؤمن بشعاراتٍ باتت هي نفسها لا تؤمن فيه!

هذا الطفل المخذول لا يفهم، يحتاج اعتذارًا ممن شوهوا طفولة جيله، اعتذارًا عن الأذى النفسي الذي تسببوا فيه، يحتاج تفسيرًا، أيًا ما كان هذا التفسير: “لم أكن على صواب”، “كان غلوًا مني”، “كانت إندفاعة شباب”… أي تفسير، لكن لا يتركونه وحيدًا هكذا لا يفهم، عالقٌ في ماضٍ لا يستطيع التخلص منه.

في رواياته يحاول علاج نفسه بنفسه من هذه التشوهات، يحاول تضميد ذاكرة الطفل الصغير ومساعدته لفهم ما جرى ومحاولة تخطيه إلى حاضرٍ يستحقه ومستقبلٍ يتمناه.

وفي أسفار مدينة الطين نجد “الملالوة” وترهيبهم للصغار في الديرة، ونهر الطفل كثير الأسئلة وإرجاء الإجابات إلى أن: “يكبر” و”يفهم”!

وربما كان التصوير القاسي للشرخ الذي أحدثه هؤلاء في نفسية الطفل الصغير، متجسدًا فيما فعله الملاَّ إبراهيم “كريم العين” بخليفوه، والأثر الذي تركه بداخله، ورغم كل الألم الذي عاشه كان خليفوه مستعدًا لمسامحة المُلاَّ لو أنه فقط “رد عليه السلام”!

 

استنطاق الكائنات:

لم يكتفِ كاتب الأسفار بتدخل شخصياته وتعبيرهم عن معاناتهم، ومقاطعته وتصويب ما يقوله، بل ترك العنان لكل من/ما في مدينة الطين ليكشف لنا جزءًا من الحكاية. فلولا صخرة الوَطْيِة- المُبتلاة بالنسيان بين مدٍ وجزر- لما عرفنا ما حدث بين مبروكة والخيزرانة. وبلبل عاموس، الطائر الذي شهِد كل شيء، ويعرف ما يدور في نفس صاحبه ولا يجرؤ على البوح به حتى لنفسه، من كان سيُعرِفنا مأساة عاموس “الرَبوة” الذي يظن نفسه حرًا؟ البلبل “الشاهد الوحيد” على ما حدث بمغسل المسجد، ومفتاح الوصول للشايب “الشاهد الوحيد” على أحداث الديرة وراوي أسفارها في زمنٍ مقبل.

سعود بارع في استخدام كل الموجودات في بيئته، يعلم، ويُعلِمنا معه، أن الرواية/ الحياة ليست حِكرًا على بني آدم وحدهم، فكل الكائنات شركاء تكتمل بهم الحكاية.

تداخل الأجناس الإبداعية:

في “أسفار مدينة الطين” تتداخل الأجناس الأدبية والفنية بخفةٍ وسلاسة، فلا تشعر أنك خرجت من الرواية إلى جنسٍ أخر، وكل هذه الأجناس تتضافر لتوصل المعنى الذي يريده كاتب الأسفار، وتحول دون الملل من أُحادية صوت السارد أو رتابة الحكي بالطريقة نفسها على مدار أكثر من ثمانمائة وخمسين صفحة.

تأتي “الأسطورة” في مقدمة الأجناس الإبداعية التي دمجها كاتب الأسفار في روايته ببراعة شديدة، ليس في الجو العام للرواية فحسب، بل في تأصيله لأساطير مدينة الطين سواء في متن الرواية أو هوامشها أو حتى في الملحق المجتزأ من “كائنات مدينة الطين”، الدراسة التي أنجزها صادق بوحدب عن الأساطير الشعبية في ستينيات القرن العشرين.

وفي الجزء الثاني يُفرِد كاتب الأسفار فصلاً لفن “الخطابة” ليقدم لنا فيه صورة حية لأيام الديرة، وتشريحًا لحال أهلها بمختلف انتماءاتهم؛ فمن خطبة الجمعة بين خطيب مسجد سوق الحريم وخطيب المسجد الكبير، إلى الدرس الديني للحاخام “بابا شمعون” في الكنيس يوم السبت، وأخيرًا موعظة القس إدوين في كنيسة الحيِّ القِبلي صباح الأحد.

وحتى فن “الرسائل” جاء بشكلٍ عفوي في رسالة سليمان لولده التي أودعها أمانة لدي الصَاجَّة خادمة المقام.

فضلاً عن “المذكرات” و”اليوميات” التي سبقت الأسفار في الفصول الهاربة من “ذخيرة أيام الخرف؛ مذكرات صادق بو حَدَب”، و يوميات الطبيبة إلينور التي تخللت فصول الأسفار.

وكان للمسرح والسينما نصيب فيما أبدعه كاتب الأسفار؛ فمشهد حديث الصخرة في الجزء الأول ما هو إلا مونودراما مسرحية تكاد تكون مكتوبة شعرًا. ومشهد “غابة الصوف” في الجزء الثاني سينوغرافيا مرئية مكتملة العناصر.

حتى الفنون غير الأدبية من رقص وموسيقى وغناء وفن تشكيلي، كلها جاءت بشكلٍ متناغم مع عناصر الرواية؛ فمن زَفن الغاصة على السنبوك الحامدي، إلى رقص العرضة عند السور مع طبول الحرب، ورقص الصاجَّات مع النسوة ليلة دق الهريس، وغناء شيوخ البحر حائكي شباك الصيد، وموسيقى الغرامافون في دار الاعتماد، وقرع الدفوف والصاجات النحاسية في أيدي الصاجَّات في يومهن المسحور “يوم السِّدِيس”، وتغاريد البلبل، ونَهمَات عبد الله النهَّام في المَنسى على صوت العود، وأخيرًا اللوحات المكمِلة لصفحات الأسفار للفنانة “فياصل المشيعل”، وهو الاسم الذي أطلقه الكاتب على الفنانة التشكيلية التي رسمت لوحات “أسفار مدينة الطين” الصادرة عام 1990، وهو تنويع على اسم الفنانة “مشاعل الفيصل” صاحبة أغلفة روايات سعود السنعوسي الأربع الأخيرة: “فئران أمي حصة”، “حمام الدار”، “ناقة صالحة”، وأخيرًا “أسفار مدينة الطين” بجزئيها.

قد يبدو تعدد الأجناس الإبداعية والتنقل بينها في نصٍ روائي واحد نوعًا من التجريب غير مأمون العواقب، ولكن مع روائي متمكن من أدواته الإبداعية ومؤمن بالفن “أيًا كان نوعه”- كما ذكر في مقاله “المجد للفن” المنشور بمجلة زهرة الخليج بتاريخ 29 أكتوبر 2018- سبيلاً للخروج من هذا العالم بأقل قدر من الخسائر، يأتي التناغم والتكامل بين هذه الأجناس الإبداعية ليُخرِج لنا رواية حيَّة تشتبك مع القارئ ولا تتركه إلا وهو متورط معها وغارق في عالمها، والأهم أنه مستمتع بهذه الورطة.

بين الرواية والتاريخ:

بالطبع لم يكن اختيار عام بدء الأسفار، وعام إصدار الرواية عشوائيًا؛ فعام 1920 من الأعوام المفصلية في تاريخ الكويت البعيد، وكذلك عام 1990 في تاريخها القريب. لعب سعود ببراعة على الربط بين التاريخين وكأن ما حدث بالماضي البعيد مرآة لما حدث في 1990، وربما يظهر ذلك في المناوشات “الذكية” بين المعتمد البريطاني وأعضاء الإرسالية الأمريكية أثناء العشاء قبيل معركة الجهراء، والصراع غير المعلن بينهما لفرض السيطرة على الكويت والتدخل في شئونها الداخلية، و”طاووسية” المعتمد البريطاني الذي يتحدث واثقًا ويظن أنه يملك خيوط اللعبة كلها في يده، وأن الشيخ سالم لاجئ إليه لا محالة، سواء بالإيحاء بتدخل الإنجليز لدفع إخوان من طاع الله للتضييق على الشيخ فلا يجد أمامه إلا اللجوء للإنجليز، أو بالإيعاز لرئيس الإرسالية الأمريكية أن يُقنع الشيخ بضرورة التخلي عن “أوهامه” بأن مشاكل العرب يحلها العرب. وزيادةً في الغرور يُهدد أفراد الإرسالية تهديدًا مبطنًا بتذكيرهم بأنه لولا وساطة “المعتمدية” لدى الشيخ لما كان للإرسالية وجود على أرض الكويت!

الاتهامات المتبادلة بين الجنرال مور والطبيبة الأمريكية، رغبة كل طرف في إظهار مدى هيمنته أو “دلاله” وقربه من دائرة الحكم سواء الشيخ سالم أو الشيخ مبارك، نظرة التعالي والإيمان برسالة الرجل الأبيض التي ظهرت في جملة تبدو عفوية من الطبيبة إلينور، ردًا على الاقتراح بتسمية مذكراتها “كنت أول طبيبة في الكويت”، بأن القراء في بلادها “لا يعرفون ما هي الكويت ولا أين تكون”. لذا فهي اختارت أن تسميها “أيامي وليالِّيّ العربية”! فالمستعمر الأجنبي “سواء كان معتمدًا أو رسول تبشيري” لا يعرف في دولنا غير أنها “عرب” بحاجة لمن يهديهم ويرعى شئونهم، ولم يُذكر اسم الكويت إلا في الترجمة العربية للمذكرات في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.

إشارة أخرى ذكية وردت على لسان المعتمد البريطاني الذى رأى في تعدد واختلاف أصول ساكني مدينة الطين “بذرة مجتمع كوزموبوليتاني في مساحة صغيرة في حدود السور”، هذا المجتمع الذي لو تُرِك دون تدخلات خارجية، ووسوسات داخلية لكان نموذج يُحتذى به في المنطقة، لكن الجنرال الذي أشاد بهذا التنوع كان من أوائل من أجهضوا فكرة ظهوره.

هل يمكن قراءة كل هذا بمنأى عن أحداث 1990 ومساحات التدخل الأجنبي التي تم فرضها قسرًا على الكويت؟ أشك.

في مقابل النظرة الاستعلائية لممثلي “الغرب الأجنبي”، نجد استهزاء أهل الديرة بهؤلاء الأجانب ورسالتهم المقدسة؛ فمنشورات التبشير التي كانت تصدرها الإرسالية وتوزعها نجد إشارات لاستخدامات الأهالي لها، بين خادمة “تُزيل السُّخام عن زجاج السُّرُج” بهذه المنشورات، وصبى القهوة الذي يستخدمها “بِطَانة” يُبَطِّن بها صينية الشراب!

أخيرًا رمزية العَبَاءْة في الجزء الأول لا يمكن قراءتها دون التطرق للاتفاقية مع الإنجليز كعباءة تُقيِّد الأمير، أو عباءة الدين التي تلُف أتباعه وكل طرف يرى أن طريقه هو الأقوَّم والأحق أن يُتَبَع، وعباءة الدجل والأسطورة التي تُغيِّب العقول وتحجب عنها نور العلم.. عباءات كثيرة كل واحدة منها تحجب جزءًا من مدينة الطين وساكنيها.

تقاطعات روائية:

أسفار مدينة الطين هي الرواية السادسة لسعود السنعوسي المُولَع بالبحث عن جديد في كل رواية يكتبها، فلا تتشابه لديه رواية مع الأخرى حتى وإن بدت كلها مُنطلِقة من بيئة واحدة وتعالج موضوعات متقاربة، أو حتى تنويعات على الموضوعات نفسها.

في القراءة الأولى للأسفار شعرت أن الروايات الخمس السابقة ما هي إلا مقدمات- بشكلٍ أو بآخر- لهذه الأسفار، ومع القراءة الثانية تيقنت أن هناك رابط بين كل ما كتبه سعود، فأبواب رواياته مفتوحة ينساب أبطالها من رواية لأخرى؛ فكتكوت قد يكون عبد العزيز طفلاً وربما يصبح صادق بو حَدَب في كهولته، وبخيتة ربما كانت فايقة في حمام الدار، وقطنة في إحدى صورها هي صالحة أو حتى بهيجة، أمي حصة تتشابه مع سند بن هولين، وسليمان يتقاسم مع فهد حب هريسة السمك…

وليست الشخصيات وحدها هي التي تتجول بين الروايات، فالأفكار والمواقف الموجودة بالأسفار نجد أصدائها في رواياتٍ سابقة (وربما لاحقة كما هو الحال في حمام الدار وناقة صالحة، الروايتان اللتان كتبهما سعود أثناء كتابة أسفار مدينة الطين وصدرتا قبلها) ومن ذلك:

  • الفأل السيء في قدوم إحدى الشخصيات للبلدة تزامنًا مع حادث أليم (مجيء جوزافين في رواية “ساق البامبو” وقت تفجير الموكب الأميري، ومجيء إلينور عام غرق جالبوت بن موسى)
  • ما يقوله الإسلام وما يظهر في تعاملات المسلمين ( ما قرأه عيسى الطاروف في رواية “ساق البامبو” عن الإسلام وما عاناه من معاملة المسلمين، وعبارة إلينور للمُلاَّ عبد المحسن “سمعت كثيرًا ما يقوله الإسلام مُلاَّ، هو رائع، لكني أسمعه ولا أراه”!)
  • الرضا بالكوابيس عوضًا عن صحوٍ يغيب فيه الأحباب ( عِرزال في رواية “حمام الدار” وهو يحاول إبقاء كابوسه علَّه يمنحه رؤية مَن يُحب، وخليفوه الراضي بكابوسٍ يجيء له بحبيب لا يجيء في ساعة صحوٍ)
  • أسطورة المُولاف (“أُحبُّ من يجيئني حُرًّا على هَواه” عبارة فالح في رواية “ناقة صالحة”، “يعود المُولاف حُرًّا على هَواه.. إن أقبلتِ عليه أدبر” عبارة أم حَدَب لشايعة)
  • انتظار ما لا/لن يجيء (منوال/عرزال في رواية “حمام الدار” ينتظر ولديه الغرقى، وشايعة تنتظر عودة ابنها، الذي قيل بأنه غرق، وولده الذي حُرِق)
  • الإيمان غير المُعلَّق على سبب (عاد الحمام أو لم يعُد في رواية “حمام الدار”، مَّر المسيحُ أو لم يمُّر)
  • الوصول موت والرحلة حياة (الوصول أكثر مشقة من الرحيل في مفتتح رواية “ناقة صالحة”، خوف عاموس من العودة للبصرة فيكون وصوله موت)

تقاطعات كثيرة تدفع للسؤال: هل يمكن قراءة الأسفار بمعزل عن الروايات السابقة، لا سيما حمام الدار وناقة صالحة؟ أو على وجه الدقة: هل يمكن الاستمتاع بقراءة الأسفار دون تلك التقاطعات والإحالات؟

عن نفسي استمتعت في القراءة الأولى وأنا غير مدركة لكل هذه التقاطعات، وزاد استمتاعي في القراءة الثانية بعد استكشاف أماكن التلاقي بين الروايات، وكأنها زيارات حميمة لأصدقاء قُدامي يرحبون بي ويرشدوني في طرقات مدينة الطين ويعرفوني بأهلها.

وارث لغة البحر، حافظ تراث الجدَّات:

أنا ابن اليوم، ابن جيلٍ لا يعرف عن البحر عدا ما أنصتَ إليه في حديث الجدَّات وحكاياتهن، أحنُّ إلى ما لم أعِشه يومًا إلا في ذاكرةٍ موروثة… هو الملاذ إذا ما ضاقت بي بلادٌ ما عدتُ أعرفها. الجلوس على ساحله يفوق الكفايةَ إذا ما أدرتُ ظهري إلى ما لم يعد يُشبهني… هو البحر الذي أفهمه وراثةً. لا يجيد الإنصاتُ إلى حكاياته إلا من تعمَّد بمائه وأتقن لغته. وأنا وارث لغة البحر مُنذ التحقتُ بمدرسة جدَّتي العتيقة”.

قبل تسعة أعوام كتب سعود هذا المقطع ضمن مقاله “وارث لغة البحر”، الذي نشرته مجلة الأهرام العربي، ضمن ملف عن الكويت في فبراير 2015.

تذكرت هذا المقال وأنا أُعيد قراءة أسفار مدينة الطين، في مشاهدٍ بعينها ذكرها سعود في مقاله، وصاغها بإبداع في أسفاره: الجدة التي غطسته في البحر طفلاً في شهره الأول تُبرأ بماء البحر المالح جرح ختانه، والعم سند يُعمِد سليمان الطفل في البحر، وفي الحادثتين الأم الملهوفة تقف على الشاطئ لا تملك سوى الدعاء بالسلامة والنجاة لولدها.  حادث غرقه الأول في عامه السادس وحكايات سليمان عن العم سند الذي عمد إلى إغراقه مرارًا، يخيره بين الموت كطفل أو النجاة كرجلٍ معتمدًا على نفسه. لسعات قنديل البحر التي لم يُشفِها الخل الأبيض.

سعود يُتقِن لغة البحر تمام الإتقان، ويُجيد ترجمتها حروفًا ملونة تفيض حياةً بين ثنايا رواياته. هو الشاب الذي يمتلك ذاكرة “معطوبة” فيما يتعلق بزمنٍ حاضر لا يجد فيه الكثير الذي يُشبهه ويألفه، ولكنه في الوقت نفسه حافظ ذاكرة أجيالٍ تمتد لمئات السنين في تاريخ الكويت، تكاد تُجزِم أنه عاش مع رجال السَنبوك في مغاصات الخليج، وغاص في تبَّاتٍ عديدة يجمع المحار في سلته، رغم أنه يقول في مقاله السابق الإشارة إليه: ” لم أُمسك مِفلقة المحَّار يومًا أبحثُ عن لؤلؤةٍ يفوق ثمنها حياتي وحياة الغاصةِ على ظهر السفينة“!

كان حاضرًا بين النسوة المنتظرات على السِّيف، يحمل دُفًا ويردد أهزوجة الصاجَّة، ثم ينسل عائدًا لبيتٍ طيني يدق الهريس مع شايعة، قبل أن يمر على عاموس يصحبه وبلبله إلى المَنسَى ليسهر مستمعًا لحكايات سعدون ونَهمَّات عبد الله، وربما رأيته متواريًا خلف أحد أعمدة المسجد منتظرًا انخراط الهذَّار في صلاته ليتسحب خارجًا هربًا من ثرثارٍ يسرق وقته، وربما تجده في قارب صغير يجلس مع خليفوه وقططه يعبرون إلى مقام الخضر أملاً في الحصول على بركة صاحب المقام، وفي صباحٍ أخر ربما يجلس مختبئًا خلف باب ساطور العَرد يختلس بعض أنفاسٍ من سيجارة في معسكرٍ يُحرِم الدخان ويُنَكِل بشاربه!

سعود حارسٌ أمين لتراث جدته، نهل منه طفلاً سَئُولاً، نهِمًا للمعرفة، واستقر في ذاكرته يُخرجه لنا إبداعًا متجددًا يقطر صدقًا وعذوبة.

قبل النهاية:

مشاهد كثيرة تستحق التوقف والتأمل فيها في أسفار مدينة الطين، ولكن تبقى مشاهد عالقة بذهني لا تفارقه، تتنازعني فيها الضحكات والدموع وصرخات الإعجاب والوجع!

حديث الصخرة الملعونة بالنسيان، وهو كما سبق القول مونودراما شعرية، يستوقفني فيه جملة تُلخِص كل ما حدث: “مَنحَت روحًا ومُنِحّت روحًا“.

مزامير سعدون.. سعدون الواصل إلى الله دون حاجة لوساطة المُلاَّ..

سعدون المنبوذ والملعون بنسبته للحُوطة، لأنه لم يُرِد أن يكون مثل أهل بيته.. “ساكت” وما وجد إلا الله يكلمه، فهو وحده من سيسمعه دون أن ينهره على كثير أسئلته مهما بلغ شططها!

سعدون الذي لم يجد في الصَاجَّة و المُلاَّ إلا مترادفين لا يفرقهما سوى الزِّي، لم ينله منهما إلا الإيذاء الجسدي والمعنوي؛ وصمته الأولى بكيٍّ رأسه خلف أذنه اليسرى، وأشبعه الثاني ضربًا بخيزرانته بحجة تخليصه من الجنية التي تلبسته وأصابته بالصرع، فما برأ من الجنية ولا زال عنه الصرع!

سعدون الذي عرف الله بنفسه، وأحبه على طريقته، ويعلم أن الله يحبه.. يعاتبه معاتبة الحبيب لحبيبه، يرجو منه إشارة تدل على قبول توبته.. “لماذا يا رب لا يثمر زرعي؟!”

سعدون ما كان يتوق إلا لغفران أبيه ورؤية وجه أمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بشرط أبيه التعجيزي.. عندما يثمر الصوف!

سعدون صاحب الدفاتر، ضارب العود، أسير المَنسى، زارع الصوف..

سعدون الذي يترقب الموت ويَجبُن عن لقاءه إلى حين..

سعدون الشَقِي بعقلٍ مُتقِّد لا يُطفئه شيء، حتى الكتب تزيده اتقادًا، فتنتهي به السُبل ممضيًا أيامه بين شُرب خمرٍ وخمر نومٍ، منتظرًا لحظة مناسبة للموت، تأتيه “قاب يأسين.. أو أدنى“!

خمس صفحاتٍ أنشدها سعدون، مناجاة صوفية وصل فيها إلى خلاصة الحكمة.. أنه مهما كبر فلن يفهم!

وبالطبع مشهد غابة الصوف، الذي ما كان لحكاية سعدون أن تكتمل دون مشهدٍ بهذه العذوبة الموجِعة، فتنساب من العين دمعة لا أدري أهي فرحة بتحقيق حلم سعدون أم حزنًا على الثمن الذي بذله في سبيل تحقيقه!

سليمان على باب فضة ومناجاته الصامتة للسماء، التي تُبكيني في كل مرة اقرأها!

وصف ليلة زفاف سليمان وفضة، نصٌ شعري بالغ العذوبة والجمال:

 “بَتولان وظلالٌ مرتعشة على الجدران، همسٌ وأنينٌ ولهاثٌ وصرير خشب، وجسدان يسفحان العرق والدَّم والماء”.

 استعيد قراءته مراتٍ ومرات كقصيدة مكتملة لشاعرٍ مُعجِز!

نصيحة أم حَدَب لأمينة لتحمي الرضيع من سوء فأله: “اِحذري أن يُقارب النَّار. وخَضِّبي راحَتَي كفَّيه بالحِنَّاء، كَحِّلي عينيه وطوِّقي معصميه بالأساور مثل البُنيَّات.. كي لا يشهق الحُسَّاد إذا ما رأوه وفزَّت قلوبهم: كيف لهذا الطفلِ الحُلوِ أن يكون ولدًا؟!”. والذي أُنهيه بضحكة من القلب، ودعاء لصاحبة التميمة الحقيقية ووليدها الجميل؛ حيث حكى سعود في شهادته الروائية “ابن الزرزور”، التي ألقاها في الذكرى السنوية الأولى لمكتبة تكوين بتاريخ 21 إبريل 2017، عن الصورة الأولى التي تم التقاطها له في شهره العاشر، وكيف أصرت جدته على أن يظهر بفستانٍ أبيض وأساور ذهبية وكفين مصبوغ باطنيهما بالحناء، لئلا تصيبه عينٌ حاسدة، فالجدة تخاف الحسد وتحب وليدها الجميل.

وأخيرًا جملتين هما وجع قلب مصفى، ينفطر قلبي كلما قرأتهما:

رد شايعة الساهمة على أم حَدَب وهي تعزيها وتسلمها ما تتدعي أنه بقايا سيف، فتؤَمِن شايعة على دعائها ثم تقول: “وين ولدنا؟”.

وسعدون وهو يحكي ما ينتابه أثناء نوبات الصرع، حتى لواذِه بحِجر بهيجة. أتابع المشهد والدمع يحتشد بعيني ثم ينهمر دفعةً واحدةً مع جملة سعدون: “أريد أُمِّي”.

أي وجعٍ هذا وأي صدقٍ تكتبه؟!

أمنيتان وحقيقة!

يقول سعود السنعوسي:

“أتمنى في يوم من الأيام أن اكتب رواية عظيمة”. منتدى شومان، الأردن، يوليو 2018.

“أتمنى لأعمالي كلها أن تبقى، ولكن إن كان عليَّ أن اختار عملاً واحدًا أتمنى أن يبقى، سيكون أسفار مدينة الطين”. برنامج الليوان، الرياض، مارس 2024.

والحقيقة أن كاتب دؤوب مثل سعود لا أشك للحظة أن أمنياته ستتحقق وأكثر منها بكثير.

ما بعد الختام:

دائمًا ما تحمل “الملاحق” مفاتيح العمل بين سطورها، في سفر العباءة كان ملحق كائنات مدينة الطين به بعض هذه المفاتيح، والباقي كان منثورًا بين أسطر السِفرين، ربما في حركة يد أحد الشخصيات، أو كلمة تفلت من شخصية تُحدِث نفسها، أو وصفٍ جاء في معرض الحديث، وربما في شخصية ظهرت في لمحتين دون أي إيغالٍ في الحديث عنها.

“هيلة”.. “خليفوه”..

اسمان سيكون لهما حكايات في سِفر العَنفُوز، وربما تكون المفاجأة بزيارة أحد شخصيات “زمن الخرف” لمدينة الطين، أو أن يكون صادق بو حَدَب نفسه واحدًا من سكان المدينة!

أخيرًا:

سعود السنعوسي صاحب قلم متفرد، نسج عالمه على مهلٍ عبر رواياتٍ تبدو مختلفة عن بعضها البعض، ولكنها في الحقيقة لَبِناتٍ متجانسة تتراص متناغمة في بناءٍ مُحكَم، يصنع لصاحبه مكانة مُفردة في الأدب العربي وليس الأدب الكويتي فحسب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مصرية 

مقالات من نفس القسم