خبيب صيام
بالأرض البعيدة عن أي مكان وعن كل أرض، القناصون يصطادون ببنادقهم الفيلة الطائرة المُهاجرة، ومن يصيب أكبر فيل، يحظى بقلب أجمل فتاة من فتيات الأحياء اللاتي لا يصطدن، هن على حالتهن تلك طوال اليوم متكئات على سُرر من عظام الفيلة، يُسرّحن شعورهن بأمشاط العاج، وينعمنها بالزيوت المستخلصة من دهون الفيلة، ويتعطرن بروائح مستخلصة أيضًا من الفيلة، الفيلة هي كل شيء هنا، هي سبب الوجود والبقاء.. هي السر.
الصبايا الحيارى فريسة للصياد الذي يوقعهن في شباكه بصيده الثمين، هن لا ينهضن إلا لضرورة موسمي الزراعة والحصاد.
الفيل الكبير يصحب السحاب يتخيره بزلومه، ثم يحمله على ظهره.. ويسير في كبِد السماء، أذنيه الضخمة يطير بهما والذيل يوازن الطيران، يمد زلومه بين الفينة والأخرى نحو ظهره ليسحب الماء من السحابة، ويمطرنا بخرطومه المُدلى..
يصدر نهيمه الصاخب، وهو يحلق وسط سربه بالأعلى، ويسبح مجدفًا في فضاء الهواء المتسع بأقدامه الضخمة.. لا يُبالي بمن بالأسفل.. يرش الماء من علٍ حين يشاء، فتهطل أمطار الخير..
الفيل الطائر حسد البشر الذين هم على الأرض لأنهم ثابتون لا يتحركون وهو يشعر بالتعب بالأعلى.
تعوي قراميد البيوت، ونحن نختبئ بالداخل بلحظتها، وبعدها نخرج لنزرع.. نغرس البذور وننتظر.. مسألة وقت فقط حتى نقطف النماء من الأرض.
نحن لم نولد من طين الأرض بل من الماء، الماء هطل فنما الطين ونمونا.. المجد للأفيال المحلقة بالأعالي.
ربما إذا استمر الأمر على هذا النحو بصيد فيلة المكان، فلن يكون هناك مطر، ولا زراعة.. حتى لحومها لن تكفي لمعيشتنا.
وحين تنقرض على أيادي الصيادين، فأهل الأرض البعيدة سينتهون من الزراعة في مرحلة ما، لكن بإمكانهم مقايضة كل الثمين المُخزن والناتج منهم عبر العصور، مقابل زرع من مكان آخر، يُزرع بماء الفيلة، ولا يصطادهم أحد هناك.
والآن ، ها قد هطل المطر.. الشكر للفيلة التي تقوم بدورها على أكمل وجه.. لكن ماذا ستصنع الفتيات الكسولات ؟!
بأي حال هن لا يصنعن شيئًا سوى حصاد الزرع الذي غرسه المزارعون بالأرض.. حينها تتحرك الفتيات.. يرتدين ملابسهن، ويتركن تسريح شعورهن لآن آخر.
“هرقل” لا يهتم.. هو سيد شباب الصيد والقنص، بندقيته عادية تمامًا مثل أي بندقية لأي شاب في المكان، لكن ذراعه وعقله هما فلتة عصره، هو يصيب الصيد العالي المرتفع بغمضة عين وانتباهة الأخرى..
ــ سرب هائل مُحلِق الآن، يا زعيم أين أنت؟!
ــ هأنذا.
رصاصة تخترق الهواء.. تصيب الفيلة المحلقة، فتهوي على الأرض.. صادها “هرقل”، فصارت ممددة أمامه.. عدد هائل من الفيلة سقطت بقنصة واحدة.
وهاك الفيل الذي ظل محلقا بعض الوقت، يتمدد الآن على الأرض، بالقرب من قدم هرقل، راضخًا تمامًا له، أصدره نهيمه الأخير ثم ما لبث أن فارق الحياة.
الأفق بالغروب كسا الفيل حُمرة على رماديته وهو ممدد هكذا؛ صار رمادي لونًا وحالة، على هيئته تلك، وكأنه على الأرض أخيرًا يستريح من عناء تحليقه وسفره الطويل.. ضخامته قد تحجب الأفق وتبتلع الضياء.
والناس أصلًا لا يهتمون بالأُفق المعزول من هول ضخامته؛ لأنهم ينظرون أسفل أقدامهم، ويُعملون بالفيل المسكين خناجرهم حتى يحسنوا استغلاله، ولا يهتمون أبدًا بالنظر للأعلى ومشاهدة الغروب الجميل.
من يريد صنع سرير وثير يسحب عظمة، ومن يريد مشطًا لعروسه يقطع من الناب.
فما حاجتهم للأفق، وقد أمَّن الفيل احتياجهم من كل شيء وأشبع غاياتهم؟!
الفيل ممدد كأنه يحلم بالنزول إلى الأرض بعد عناء التحليق والسفر.. هو الآن حي أكثر وأكثر من ذي قبل، وحين يستيقظ سيكون روح طوافة عالقة بجسد فراشة.
كُسر قلب زِينة الممددة على سريرها الوثير المحاط بحقل القرنفل.
راعها نهيم الفيل، وهو يهوى.. صاحت في تأوه:
ــ أووه.. الفيل صديقي!
قطفت زهرة قرنفل.. ظلت ترعاها مدة طويلة.. قطفتها حين رأت الفيل ممددا هكذا، بلا حولٍ ولا قوة، بعد أن كان يحلق ويلوح لها بخرطومه وذيله.
ربما كان هذا الفيل نفسه هو من سقى القرنفل من علِ، وحين هوى أرضًا، قُدر للزهرة أن تُنزع من الأرض.. أعطتها للفيل، ففيها شيءٌ من روحه، حين كان بالأعلى يطير، ويُنزل المطر الذي سقاها، كانت تأمل لو أنه يشمها، فيتحسس أنفه ويعطس ليطير، وتنزرع الوردة من جديد بالحقل.. هكذا كانت ظنون زينة.
حينها “هرقل” تقدم نحوها بقطعة كبيرة من العاج.. جاء يخطبها.. نزل على ركبتيه، وقال: ظلي سيظلك وستظللين الأرض سينمو زرعي في تربتك وأرضك..
رغم أن هذه كانت أمنية لكل فتيات القرية، لأن هرقل كان فتى أحلام لفتيات القرية، إلا أن زينة أجابته:
ــ لو أنك تركت الفيل صديقي يطير، وأهديتني وردة لقلت: نعم.. لكن الآن فلا.
لم يفهم.. هو صنع كل ما تمنه دومًا فتيات الأحياء، ما قام به هو عمل يجعل الفتاة تقع في هوى قناص: القنص برمية واحدة.
هز كتفيه وأنصرف.. راح يبحث عن فتاة أخرى تتناول منه العاج.
راحت الفتاة تردد في نحيب: وردة واحدة كانت تكفي..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، المجموعة الفائزة بجائزة معرض القاهرة للكتاب 2024