عبد الرحمن إبراهيم
منذ اللحظة الأولى، يدرك قارئ “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” لطارق إمام – دار الشروق ٢٠٢٤ – أنه أمام فعل معارضة، وأن النمط الذي تسير فيه أفق كل قصة أو أقصوصة أو قصيدة، ليس إلا سردية مجهولة، أو للأدق مراوحة بين أفق ينتهي عند انطباعه للوهلة الأولى، وبين أفق آخر يبدأ عند انقطاع نظيره، ولا يؤمن بالزمن الذي يرثيه، لكنه رغم ذلك لا ينفك عن إقصائه.
لذلك بقيت المعارضة تُشكل أدواتها على أعتاب كل قصة منذ اللحظة التي تخون فيها الحكاية مسارها، تكون اللغة هنا مجرد موسيقى لا تدرك نوتتها إلا مع انتهاء حكاية ما، ليس لأنها لحن مرتجل لا يعي اللحظة الفارقة بعد أو الخطأ المحتمل، بل لأن الصمت هو ما يشكل إيقاعاته، ويعي أسسه، فيما تتجنب أسئلته تلك الضوضاء التي يحدثها أي تناص مع قضية كبرى، كأن تلك الفردانية التي تؤمم بها قصص الكتاب، كانت فيما مضى ضربًا من النسيان.
لكنه رغم ذلك لا يكتفي بمعادلة أطروحته بداية من لحظة الكتابة الفعلية، فالعنوان كان أكبر شاهد على ذلك، في حين أن الإهداء إلي روح والده المترجم الكبير السيد إمام، قد أسس لحيلة فنية أخرى أكثر من كونه عابرًا، “إلي السيد إمام : أنت فوق التراب .. أنا تحته” كأنه قد عارض موت والده في أن تتبدل الأدوار حتى لا يمنح الإهداء صفة الغائب، ولكن ليثبت حضوره رغم الفقد، وستؤكد على ذلك عناوين الفصول الثلاث: (لأننا نولد عجائز – هايكو المدينة – لأننا نموت أطفالاً) ليدرك القارئ أن الواقع في قصصه مجرد زائر للحياة والموت، للحب والكراهية، وللطفولة والشيخوخة ولكل الثنائيات التي يحتضنها السياق الإنساني، ليعيد تدويرها في قالب لا تقيده أي إجابة مطلقة، أو ينفصل عنه أي حدث مجرد.
الحكاية وليدة المجاز
كان على كل قصة أو أقصوصة أو قصيدة في كتابة القصصي / الشعري، أن تختار مجازها من إحدى استعارتين، ستستمد منها عمليه خلق حتمية تفرضها بأدواتها في هذا السياق، ولأن البطل الأول في أداة كل قصة هي المعارضة، فستكون الاستعارة الأولى ضحية الثانية، بداية من أن تسقط الحكاية من سماء المخيلة على أرض تحد من أفكارها، مرورًا بفرضيةٍ يكون فيها الواقع الفني مجرد استعارة للبنية، لكنه سيترتب عليه بناء يلتزم بمسار محدد على أسس استهلاكية، أقل حلمًا، وأكثر حذرًا في أن تسلك مسارات مجهولة.
أما الاستعارة الثانية فهي أن تتبدل الأدوار لتصبح الأرض سماءً تسقط منها الأفكار في صرح لا نهائي لا يحده واقع، لكنه في الآن نفسه امتداد له، ليخون بذلك وهو على أعتاب مقايضةٍ لكل السياقات التي تُطرح من منظور إنساني؛ الفكرة التي تمنح منذ الوهلة الأولى انطباعًا ضمنيًا في أنها لا تنحاز إلى انحرافاتها، لكن طارق إمام في كتابه القصصي الذي شاء أن يتخذ منذ العنوان مدخلًا لمعارضة أكثر أشكال الكتابة تنميطًا وثباتًا، منذ الإهداء إلي روح والده المترجم السيد إمام مرورًا بعناوين كتابه المنقسم إلى ثلاثة فصول هي المناخ الحاضن لأفكارها، وبمثابة صرح كبير يقف فيه الفرد مواجهًا لأكثر أسئلته تهميشًا، وانحيازًا لذاتيتها الهشة، يتكئ بناؤها على نمط لوحة كولاج ممزقة كأحجية، وما على كل أقصوصة إلا أن تلملم شتاتها، في حين أن الحيلة التي تربط بين أفق الأقاصيص وبين حياكة الخيال من تلك الأطروحة الجمالية، هي تلك الإشكالية التي تجمع بين صوتين – الواقع والخيال -وهي ذاتها التي تنشئ تلك الأصالة المفقودة للصوت الثالث في عملية الكتابة، يبقى الواقع فيها مجرد عابر قد خانته الذاكرة في العثور على هويته المفقودة.
موت الحبكة
إذا كانت كل قصة هي جزءا من سياق شامل، يكون فيها الأسلوب جزءًا من ايقاعاتها، فيجب أن تكون كل حافة تتصل بها حكاية ما، قصيدة تراق دماؤها بين دفتي الحكاية، فأحيانًا تختار كل قصة موتها بين خيارين إما رصاصة طائشة كالقصيدة؛ وإما أن تلتف الحبكة حول عنقها كمشنقة، وإذا كان ديوان الهايكو فاصلا بين حكايتين، فهذا يعني أن كل شيخوخة موت أكثر بطئًا مما يسرقه الزمن في لحظة خاطفة، يصبح فيها موت كل شخص يقاس بمدى قدرته على النسيان.
تولد القصص هنا من أفكار تكتب انعكاساتها عن الوجه الآخر لسرديتها المجهولة، فكل أقصوصة تكون في الواقع مجرد استعارة وليس بناء يُحكم أُسسه على أعتاب تجريد أفكاره من المجازات، ليدرك كل فرد حكايته من اللحظة المفارقة؛ التي كلما ابتعدنا عن وقت حدوثها ثارت في الذاكرة لتدرك معناها الغائب في اللحظة الراهنة، مثل أن تكون الطفولة هي شيخوخة مبكرة قد نسينا نحن أننا إزاءها بدون ذاكرة، في حين أن ألم التقدم في العمر يكمن كلما زادت قدرتنا فيه على التذكر، وأيضًا كلما زادت قدرتنا فيه على الخسارة.
هنا للوهلة الأولى يظن القارئ أنه أمام عقد من الاستعارات قد تمت حياكته بإتقان شديد، في حين أن هشاشته الظاهرة ليست إلا صيغة فقدانها كلما بقيت الإجابة عنها محكومة بأسس جمعية، كأن طارق إمام هنا قد فر بقصصه هاربًا من قطيع يدفعه منطق واحد، لكننا إذا لمسنا هذه الاستعارات عن قرب ستتهدم تلك الطبقة الرقيقة من الدهشة الجمالية للغة، كاشفة عن معنى مغاير يضبط عمليه التلقي داخل مناخ آخر من التفكير، تخلقه تلك الأقاصيص بدون ثرثرة، ليكون المعنى فيها مجردًا بصورة خادعة.