حمود سعود
من عتبة العنوان نجد ثيمة الغربة والاغتراب، مقترنة بالقافر، وكأنَّ هذه التغريبة لا تتحقق إلا إذا أضفناها إلى القافر، وامتزجت معه، والقافر هو الذي يبحث عن مجاري الماء في أعماق الأرض والجبال والقرى، حاملا معه هواجس الغربة، كيف تجلّتْ وظهرت هذه الغربة؟ أهي غربة سطحية عابرة أم غربة نفسية عميقة؟ وهل حملت هذه الشخصية بذور الغربة في تكوينها الداخلي؟
الغربة الداخلية نمتْ وتكوّنتْ في داخل سالم بن عبدالله بشكل خفي، تظهر ملامحها أحيانا في النص الروائي، ويتمثل ذلك في حياة العزلة التي عاشها، والصمت الدائم، والعيش على أطراف القرية في مكان منزو.
حياة القافر تبدأ من الماء، في البئر (الطوي)، وتنتهي داخل وقبة الفلج، ما بين الماء والماء، ماء راكد وماء متحرك تشكّلتْ حياة القافر، أو بصورة أخرى من فضاء مغلق إلى فضاء مغلق، وبينهما فضاءات مفتوحة، تكوّنت حياة سالم بن عبدالله. كيف تحركتْ وتشكلت شخصية (القافر) في هذه الفضاءات المفتوحة والمغلقة؟
الموت في الماء/ وبالماء كان مصير شخصية الرواية (سالم بن عبدالله) الذي لم يسلم من النهاية المفتوحة، وكذلك أمه مريم بنت حمد ود غانم، التي لم تغتنم سوى الموت في الطوي في بداية الرواية، رغم موت الأم من أول مشهد في الرواية إلا أن الكاتب أعطاها دورًا محوريًا في الرواية، وظهرت صفاتها، وجزء كبير من حياتها. وكذلك الأب عبدالله بن جميّل كانت نهايته الموت في وقبة الفلج، فمات أسفل الأرض، ومات غريبًا وبعيدًا عن قريته. فنلحظ أن الموتَ والماءَ ثيمتان تُحاصران عائلة بطل الرواية.
«غريقة… غريقة..»
ارتفع صوت الطّارش في بلدة المسفاة وهو يطرق الأبواب ويصيح بالنّاس:
«غريقة.. غريقة.. حدّ غرقان في طوي لخطم..»
من اللحظة الأولى من الرواية، يمسكنا الماء والموت، وهما ثيمتان يحيا فيهما السرد ويتشكل وتنمو الأحداث بهما، فالغرق يحيل على الموت، والغرق يحدث في الماء، وهو المسبب له، وكذلك يظهر في هذا المقطع الافتتاحي للرواية مسرح الأحداث (المكان) بلدة المسفاة، البلدة التي نشأ وعاش فيها سالم بن عبدالله طفولته، وشبابه، لكنه يموت بعيدا عنها.
إذا ما ذهبنا مباشرة إلى موضوع الشخصيات وتكوينها وتفاعلها مع عناصر السرد الأخرى داخل النص الروائي، سنلحظ أولا كثرة الشخصيات الثانوية والهامشية التي تقوم بعضها بمهمة واحدة وتختفي، وكثير من هذه الشخصيات لم يعطها الكاتب أي وصف، لا داخلي ولا خارجي، لدرجة أنه لا يسميها أحيانًا، ويطلق عليها (الشخصيات): «أحدهم، واحد من الجماعة، إحدى النساء، رجل». لعلنا نُعلل هذا الاقتصاد في وصف الشخصيات الثانوية بأن الفضاء العام للقرية لا يسمح بوصف كل شخصية بشكل موسّع، أو ربما هذه الشخصيات الثانوية رُسمت لها مهمة واحدة، ثم تختفي بعد أدائها، وبعض هذه الشخصيات نسبت إلى المهنة التي تمتهنها: حفار القبور، الطارش، بائع الأقمشة، وبعض الشخصيات تنسب إلى صفة أو مكانة اجتماعية: شيخ القرية، مجنون القرية، جميلة الملسونة، عجوز معمرة.
نلحظ في جانب الشخصيات الثانوية، أن الشخصيات الذكورية ضعف الشخصيات النسائية، وهذا يكشف لنا جانبا من الحياة الاجتماعية، وكذلك بعض الشخصيات حضرت في العمل الروائي دون أي وصف خارجي أو داخلي فقط تحمل اسمها، وبعضها دون اسم. وبعض الشخصيات الثانوية حملت صفة معينة (جسدية/ أو مرتبطة بمهنة معينة). ولكن هذا الحضور الخافت لهذه الشخصيات الثانوية كان ضروريًا، لترمم المساحات، والزمن، والأحداث، فحفار القبور أنجز مهمة داخل العمل السردي، وكذلك بائع الأقمشة لديه مهمة ما ليتحرك الحدث السردي، ومهمة الطارش كانت ضرورية في الأحداث الأولى للرواية.
وعند الحديث عن الشخصيات علينا الانتباه إلى أن الشخصيات في رواية «تغريبة القافر» قائمة على خدمة الحدث السرديّ، وليس العكس، فنمو الحدث السردي وتصاعده قائم على الشخصيات، لذا نجد أن الكاتب داخل النص، انصبّ اهتمامه بالحدث القائم على فكرة البحث عن الماء الذي يقوم به سالم بن عبدالله. فانسابت الشخصيات مع حالات الماء، في التدفق والجفاف والقحط؛ فانفعالات وفرح وحزن الشخصيات رُبطت بحالة الماء.
وعند تتبعنا للشخصيات المرجعية نجد أن هذه الشخصيات تحمل بداخلها خللًا نفسيًا واجتماعيًا، ويمكن أن نسميه باضطراب الشخصية، لكنها (الشخصية) لا تسعى إلى إصلاح هذا الخلل بقدر ما تذهب إلى الهامش والعزلة، متجاهلة كل سهام المجتمع (أهل القرية)، ونمثل على ذلك بـ«عبدالله بن جميّل» الذي تعرّض لظلم وجور أهل قريته، عندما رجع من شرق إفريقيا ليرى ميراث أبيه، (من ضواحي النخيل)، وجد أهل القرية ينكرون حقه، وحق أبيه، فعاش عبدالله بن جميّل بيدارًا لأهل القرية، يحمل بداخله إحساسًا بالظلم والجور، وكذلك تعيش مريم بنت حمد ود غانم على شعور اليتم؛ فقد فقدت أمها وأباها وهي طفلة، وكذلك ألم الرأس في آخر عمرها الذي أدّى إلى غرقها في البئر، وعدم مقدرتها في السابق على الإنجاب؛ فنلحظ أن كل هذه الظروف جعلت من مريم شخصية ذات عمق كبير في النص الروائي، ليس لأن مشهد غرقها في بداية الرواية كان صادما، وليس لأنها أم القافر فقط، بل لأنها شخصية تحمل بداخلها بعدًا نفسيًا يميل إلى خلل. عاشت مريم وجع المرض الذي كان له ارتباط بالماء، وألم الفقد.
أما سالم بن عبدالله (القافر)، فحياته قائمة على فكرة الخلل منذ البداية، حيث لحظة مولده كانت مختلفة وصادمة، إذ وُلِدَ لأم ميتة، فاليتم رافقه منذ اللحظة الأولى، ولكن الآخرين لم يكتفوا بذلك، فعاش منبوذا، وكانوا يطلقون عليه «ود الغريقة، والساحر، وولد الجن»، فلم يستطع اللعب مع الأطفال، الكل يتحاشاه، حتى معلم القرآن ضربه ظلما. شخصية سالم أصلحت الخلل بطريقة خاصة، فكان المنقذ لأهل القرية في لحظة الجفاف، والتحامهم مع موت القرية، فكان القافر يسبر مسارات الحياة لهم في جوف الأرض.
شخصية الوعري تمثل بشكل واضح، هذه الفكرة التي نطرحها هنا، فكرة الاضطراب، فقد عاش طفولة معذبة؛ إذ رفضته أمه، لإحساسها بأنه ولد جن، وكذلك قتل أبيه لأمه في لحظة غضب، فعاش متشردا في القرية، فذهب إلى عزلته، وجباله، مكتفيا بالقليل من الحياة، ولم يتزوج، إمعانا في حياة العزلة والانفراد.
كل هذه الشخصيات لم تقاوم، لم تحتج على ما أصابها من ظلم وجور، لذا يمكننا أن نستنتج بأن الشخصيات المرجعية تميل إلى الانهزامية. رغم أن فعل القافر قائم على المقاومة، مقاومة الطبيعة والجفاف. وكذلك ما قام به الوعري في زمن الجفاف الذي أصاب القرية، يعد بطولة وكرمًا، فسمح لأهل القرية بأن يأخذوا الماء من مزرعته. الشخصيات المرجعية في الرواية لم تكن تبحث عن بطولة أو مجد أو مكانة اجتماعية، فعوالمها داخل النص الروائي هو الماء وأضداده، الماء الذي يحيلنا على الحياة والخصب، الماء الذي يُعلمنا معنى الكرم.
وهنا يمكننا أن نطرح سؤالا، عن فعل سالم بن عبدالله في نبش أعماق الأرض باحثا عن الماء، أكان القافر يبحث عن الماء في أعماق الأرض، أم كان يبحث عن ذاته وكينونته، وعن الحب المفقود في أعماق روحه المكلومة القلقة المجروحة والمكسورة من المجتمع؟ وهل صوت الماء داخل شرايين الأرض كان يخفف عنه عذابه الخارجي وشعوره بالنبذ؟
ولكن، هل خدمت كثرة الشخصيات الثانوية وتفرعها النص السردي؟ أم أن الفضاء العام (القرية) كان بحاجة ماسة إلى هذا العدد الكبير من الشخصيات الثانوية ليتماسك المعمار الروائي؟ أي أن رغم الظهور الباهت والسريع لهذه الشخصيات إلا أنها تمثل دعائم مهمة لتماسك العناصر السردية الأخرى.
وهنا نستطيع القول إن رواية القافر قائمة على ثنائية الموت والماء، ومعظم الشخصيات الثانوية والمرجعية دارت في فلك هذه الثنائية، والموت وما يحيل عليه من تنوعات، مثل الجفاف والغياب، والماء وما يحيل عليه، مثل الحياة والخصب والأفراح. وسبر الماء في أعماق الأرض هو سبر بشكل مضمر لمشاعر وجوهر الإنسان والحياة، فالمشقة هي الرحلة، والماء هو الوصول واستمرارية الحياة، وكذلك في المضمر ما نعشقه قد يكون سببا في نهايتنا؛ فالماء الذي عشق القافر صوته وتمثيلاته وبحث عنه في أعماق الأرض والقرى، كان سببا في نهايته المفتوحة على كل الاحتمالات.
………….
*قاص وكاتب عماني