محمد الفخراني
المفاتيح مُوَزَّعة داخل السَّرد، من المهمّ مع هذه المجموعة “يجري في ملابسه كالضّليل” قراءتها كاملة، مثلما يُفترَض بالقراءة، للتعرُّف إلى مفاتيحها وأشباحها.
في مجموعته الجديدة “يجري في ملابسه كالضّليل”، الصادرة حديثًا عن “بيت الحكمة” بالقاهرة، يُقدِّم الكاتب “حسين عبد الرحيم” كتابة لها علاقة بالحالة “الشبحيَّة”، وما فيها من صفات: عدم الثبات، التنقُّل المفاجئ في الزمان والمكان، تمويه الصورة، وحتى وجود ما يمكن اعتباره أشباح للشخصيات داخل القصص.
تصنع قصص المجموعة ما يمكن تصويره بأنه شريط فيلم سينيمائي بمشاهد غير مُرَتَّبَة، وعلى القارئ أن يعيد ترتيب هذه المشاهد ليحصل على، ليس الفيلم الأصلي، إنما نسخة موازية له، فلا يوجد ما يمكن تسميته “الفيلم الأصلي”، كلها اقتراحات وأشباح موازية.
هذا الأسلوب الشَّبَحي، نلمحه في حالة القصص نفسها، فأغلبها يبدأ من أيّ نقطة على الطريق، وتنتهي أيضًا في أيّ نقطة على الطريق، لكنها لا تترك القارئ تائهًا، إنما تعطيه حالة فنية وخطًّا سرديًّا داخليًّا، سيكون له صدىً في قصة أخرى، وكأن قصص المجموعة أشباح تشير إلى بعضها بعضًا، دون أن تكون متوالية قصصية، كما أن بعضها يمثّل حكاية بذاتها، وتشارك في تخليق الفضاء العام للمجموعة.
الصورة أيضًا لا تكاد تتشكّل حتى تنتقل إلى صورة أخرى، ربما تكون بعيدة زمانيًّا ومكانيًّا، وهذا ما يستدعيه انتقال في الزمان والمكان، اللذان لا يستقران، فالأماكن، على كثرتها داخل القصص، تظهر فقط بما يليق بالعبور منها لا الإقامة بها، كذلك الحبيببات، كلهن عابرات، شبحيّات، كأنّ السارد يجري مع كتابته وسط أشباحه وصوره وخيالاته.
لكن، في الوقت نفسه، وسط هذه الحالة الشبحيَّة، وشريط الفيلم بمشاهده غير المُرَتَّبة، هناك شخصيات رئيسة تتكرَّر، ومشاهد، وإنْ بإزاحات صغيرة، هذه المشاهد والشخصيات هي محور الفيلم/ المجموعة القصصية، وتصنع هيكلها الأساسي، والحدود التي تتنقّل داخلها الأشباح، هي أيضًا ما يخلق الصور والأحداث والأشباح في سرديَّة الكاتب كلها، وليس فقط هذه المجموعة القصصية.
هناك أيضًا مكان أساسي ضِمْن الأماكن الشبحيّة، وزمان مركزيّ بين الأزمنة، وحبيبة مُقيمة رغم الحبيبات العابرات.
الشخصيات: بوضوح، هناك أربع شخصيات رئيسة تتجوّل في سردية الكاتب.
1-الأب: وله مشهد يتكرر بصياغات مختلفة لكنها الصورة نفسها، وهو يضرب الابن الطفل ببوز الحذاء في رأسه كل يوم قبل ذهابه إلى المدرسة، هذه الضربة هي ما أيقظ الأشباح داخل السارد، وأشعل خوفه وخيالاته، وخلقت هذا الغضب الكامن داخل اللغة، وجعلتها هكذا حادة بجُمَل قصيرة، كأنما بداخلها ما يدفعها للتقافز في الزمان والمكان والمشاعر المضطربة.
في قصة “خمسة وستون عامًا” يحكي السارد عن أبيه: “دعاني إلى الاندفاع لأسابق الأيام، عندما دفعني ببوز حذائه في رأسي ولدت أشباح تخاف ظلي”.
2-الأم: وعلاقة بين الابن وأمه، بها الكثير من اللوم والعتاب وحجب المشاعر، وهي نفسها، الأم، بطلة الرواية السابقة للسارد “شقي وسعيد”، هذه العلاقة التي راكمت بداخله الأسئلة وعلَّمته كَبْتَ مشاعره وتجميدها، وحتى الخوف منها، ثم هو يُحرِّر كل هذه المشاعر في “شقي وسعيد”، وفي واحدة من قصص المجموعة بعنوان “محطة”، يقول فيها: ” ما شغلني ومَلَكَ حواسي.. هو كيف كانت تحتفظ بكل هذه التراكمات من الحنان والمغفرة والرحمة والتي دام حجبها عمرها كله”، الاثنان، الأم والابن، كانا يحتاجان للمكاشفة والغفران، وهو ما تحقَّق لهما في النهاية.
3-“أم هاشم”، وهي الحبيبة المقيمة رغم العابرات، الفتاة التي جاء ذِكْرها في المجموعة ثلاث مرات، مرتان باسمها، ومرة دون اسم، ودون تفصيل الحادث الرئيسي بينها وبين السارد، لكنها ظهرت في رواية “شقي وسعيد” بشكل تفصيلي.
هنا في قصة “الإرث” يعاتب نفسه ويلومها أنه لم يستطع مساعدة الفتاة أو الدفاع عنها، في ذلك الحادث براويته “شقي وسعيد”، تبدو القصة داخل المجمعوة مُعلَّقة في الهواء، لكنها تصنع حالة شعورية شفيفة، وفي الوقت نفسه، تصنع مع الحادث في “شقي وسعيد” حالة كاملة بتفاصيل الحكاية، فقط في قصته وكأنما أراد أن يعتذر للفتاة بشكل شخصي، ويحكي عن ذلك الشقّ في روحه بسب أنه لم يستطع الدفاع عنها، وأنّ كل جروحه الداخلية جاءت من باب جرحها هي.
4-السينما، شخصية اعتبارية، التي يعشقها السارد، هي العالم الذي يهرب إليه وينطلق فيه، عالم الأحلام الملوّن المنفتح على كل الاحتمالات، والذي يمكنه فيه أن يتحرّر من خوفه وغضبه وهزائمه، ويلاعب أشباحه وخيالاته.
أربع شخصيات رئيسية تُشَكِّل كل هذا العالم، هي مفاتيحه التي تخلق أشباحه وحالاته الشعورية والفنية، وداخل الأماكن الشبحيَّة هناك مكان هو “18 حارة سعيد- طلخا”، المكان الذي يتكرّر في سرديّته، وحَفَرَ داخل وعيه وروحه وقلبه، وداخل الأزمنة هناك زمن يُشَكِّل هذه الحالة، هو نهاية كل عقد، بدءًا من وصوله الثلاثين أو الأربعين، أيضًا مرحلة صباه، أو مرحلته العمرية التي قضاها في “18 حارة سعيد”.
تبدو خطة الكتابة في مجموعة “يجري في ملابسه كالضّليل”، أنه لا خطة، وهي بذاتها تصلح أن تكون خطة، هذا التنقّل بين الأماكن والأزمنة مع محاور من شخصيات رئيسة، ولغة ذات جمل قصيرة، مُتَحيِّرة، مشحونة بالمشاعر، ويبقى ضمير المتكلم الذي يروي أغلب القصص دالًّا، أو حتى مموِّهًا أحيانًا.
يوزِّع “حسين عبد الرحيم” قصص المجموعة إلى ثلاثة أقسام، تبدأ القصة الأولى من القسم الأول وعنوانها “واحد بور سعيد” بجملة مشغولة بمُضيّ العمر، يقول: “واضح إن العمر اتسرق”، السارد مشغول دومًا بمرور الزمن، هو يتوقف عند كل عشريّة من عمره لينظر خلفه، كيف انقضت السنوات الماضية، وكيف تركت أثرها في جسمه وروحه، وكيف حاله وحال اللحظة الزمنية الآنية التي يقف فيها.
يظهر الأب في القصة نفسها، ثم بعض أفراد العائلة، وكلهم سنراهم ونرى أشباحهم خلال قصص المجموعة في مشاهد وحكايات كأنها صدىً لبعضها بعضًا.
في قصته “عمر الحمزاوي”، يتماهى السارد مع الشخصية الرئيسة بفيلم “الشحاذ”، ويدخل مع المخرج في تحليل سينيمائي لشريط الفيلم، هذا المخرج الذي يعتبره السارد مثالًا يتطلّع إليه.
من اللافت، واللائق، أن يتماهى السارد مع شخصيتين داخل نصَّيْن أدبيين، أو داخل فيلمَيْن، هما “عمر الحمزاوي” من فيلم “الشحاذ”، وعيسى الدباغ” من فيلم “السمّان والخريف”، كأنما هو مزيج منهما، شخصيتان من عالم السينما، الملوّن بكثير من الخيالات والأشباح.
القصص عن السينما داخل المجموعة كأنها رحلة خاصة داخل رحلة السارد، وفي الوقت نفسه، وبما يليق بطبيعة السينما، هي تكمل الحالة الشبحيَّة، وتُلوّنها، وتنفث فيها من طبيعتها المخيالة.
في القسم الثاني من المجموعة، قصة “الصوت”، ذلك الصوت الذي يلازمه في كل مكان، ربما صوت أفكاره ومشاعره وأشباحه، “يلازمني منذ عقود، مرة في البر ومرة في البراري، وأنا الطفل الضليل المرتجف من البرد”، ثم في قصة “دائرة الرحلة” يظهر إحساسه بالزمن من جديد، “بالأمس كنت أراود الأربعين.. اليوم بتّ أضرب خمسينيتي”، يتوقف عند عَشريّات عمره ليحاسبها ويحاسب نفسه، ثم يمضي في رحلته.
في مجموعة القسم الثالث، قصة “الإرث”، وفيها يعاتب السارد ذاته لأجل “أم هاشم”، حبيبته في رواية “شقي وسعيد”، من دون أن يذكر اسمها في القصة، كأنما لا يجرؤ، هذا “الإرث” هو حزنه والألم العميق داخل روحه أنه لم يستطع إنقاذها، أو الدفاع عنها، ثم في قصة “محطة”، يعود السارد لزيارة أمه وهي في الثمانين من عمرها، على فراش الموت، وهو في الخمسين، بينه وبينها أربعون سنة من كتمان المشاعر والأسئلة المُعلَّقة، لكنّ الأم تشدّه إليها وتحضنه لتنفرط المشاعر كلها دفعة واحدة، حيث المصالحة والغفران.
في الجزء الأخير من المجموعة القصصية تظهر شخصية “حسين الصومالي”، الشاب الذي يبحث عن أبيه منذ سنوات طويلة، يبدو “الصومالي” وكأنه أحد أشباح السارد، ومن جديد تلك العلاقة الإشكالية مع الأب.
نُصادِف داخل القصص نساء عابرات، جميلات بطريقة خاصة، أناقة أنثوية، لا يَصِف السارد وجوههن، إنما تفاصيل صغيرة من أجسادهن، ربما يدٌ أو ساق، ألوان الملابس، اكسسوارات شخصية، تلك التفاصيل، كلهن فيهن أناقة أنثوية.
وتتكرَّر في قصص المجموعة كلمات مثل: أركض، أمشي، أجوب، أجري، أطوف، وكلها لائقة بحالة التنقّل في الزمان والمكان، ومساحات لأشباح يخلقها السارد من داخل نفسه، وأخرى يخلقها له العالم من حوله، فيجري معها، يعطيها من نفسه، وتعطيه من نفسها، فتتلاشى المسافة بينهما.