عبد المنعم أديب
من أهم واجبات النقد الذي يحترم رسالته، ويمارسه بنوعٍ من الجديَّة؛ تتبُّعُ العمل الإبداعي الأصيل الجيد -في أيّ قالب كان-، وتسليط الضوء عليه، والكشف عن جوانبه الإيجابية، وتقييم تجربته. بهذا، يكون النقد صحيًّا شابًا مُتعطِشًا للإبداع الحقيقيّ، ومُوازاته بإبداع الرؤية والتفسير، وصناعة النص النقدي. وعليه، فإن تحرُّك الناقد الفاعل في المجتمع من مناطق الاعتياد أو الاهتمام الشعبي (الأفلام والمسلسلات) -خاصةً النوع الذي يخاطب الجماهير بمعايير السوق-، إلى مناطق أخرى تمتاز بخصوبة فنية وبكارة، ورغبة صحيحة في تقديم عمل جيد يخاطب الوجدان العام؛ إن هذا التحرُّك واجب نقدي حتمي.
خاصةً، مع التردِّي الشديد للمُنتَج الفني الاعتيادي الجماهيري؛ الذي يكاد يدخل مرحلة من العقم والانسداد في أفق التعبير؛ تحت وطأة عوامل خانقة للإبداع، أعظمها التقييد الشديد لحرية الفكر والتعبير، وتضخُّم الاحتكار لشركات التوزيع، إلى حد جمعها في يد قضبة واحدة أو قبضتين، وتعاظم سلوك الواسطة والشلليَّة داخل الأوساط الفنية، مما حدَّ وقيد دائرة اختيار عناصر الأعمال الفنية، وسدَّ الباب أمام كل مجتهد وذي موهبة؛ هذه العوامل -وغيرها- هَوَتْ بمستوى الأعمال المقدمة إلى الجمهور إلى درجة تقترب من الحضيض.
وإعمالًا لهذا الواجب، كنت طوال السنوات الفائتة أصرُّ على تقديم الدعم النقدي للأعمال المستقلة، والأفلام القصيرة والوثائقية، وكنت أرى في ممارستي -التي يشاركني فيها نقاد نادرون- كسرًا لسياسة القطيع، ودعوةً للمجتمعين الثقافي والعام للاهتمام بها. وإكمالًا في هذه السُّنة، اهتممت بفن “الاسكتش” مؤخرًا، وتابعت عشرات الاسكتشات المبثوثة على موقع “يوتيوب”، ورأيت أن فيها ما يستحق الاهتمام بدرجتيه العام والنقدي.
فن “الاسكتش”، أو فن الموقف الواحد، أو المشهد الواحد، الذي انتقل من حقل الرسم، إلى المسرح، إلى الصورة المتحركة؛ نشاط فني وليد في بيئتنا العربية. فهو مُخالف للفيلم القصير المُتوطِّن لدينا منذ فترة؛ فهو فن التمركز حول موقف واحد، يتضمن لمحة فكرية أو كوميدية. وعلى عكس ما قد يُظنُّ، فهو فن له صعوباته ورؤيته الخاصة؛ فكلما قصرتَ الاهتمام حول موقف واحد أو لمحة زاد عليك عبء اختيار هذا الموقف وشحنه بما تريد إيصاله. ولست هنا في موقف التنظير لهذا الفن، بل في موقف رفع نظرة الاستهانة به مقارنةً بالفيلم -القصير أو الطويل-. فكل بناء له أركان وأعمدة ولَبِنات وزخارف؛ وإلَّا لَمَا كان بناءً أصلًا.
وقد بقيت في ذهني -بعد المشاهدة المتأنية- ثُلَّةٌ من النماذج هي أفضل ما رأيت -قد أعود لتسليط الضوء على بعضها-. سأكتفي هنا بمثال من أجود ما قُدِّم في هذا الفن، في بيئتنا العربية؛ اسكتش “الكاجو”، الذي بثَّته قناة “Videology” على “يوتيوب”، منتصف عام 2023. الاسكتش من تأليف عبد الرحمن هيبة، ومن إخراج إسلام صلاح. وقد اخترته خاصةً لخصوصية موضوعه وعُمقه، ولكتابته الجيدة، ولعنصر الإخراج الذي مضى بالتجربة خطوات واسعة نحو الكمال والإجادة.
ولمعرفة شيء عن العمل الذي نتناوله معًا؛ فاسكتش “الكاجو” هو موقف يدور في سيارة أجرة، بين السائق والراكب، أثناء توقف سيارة الأجرة بهما لمرور أحد المسئولين. وطابع الاسكتش فكري، وروحه كوميدية. ومدته أقل من سبع دقائق. هذا أقل قدر لا بد من معرفته للمتابعة.
ولعل موضوع الاسكتش خير ما نبدأ به؛ فهو أول العناصر التي تلفت النظر العام، وبه أؤكد على أهمية هذا الفن الوليد لدينا. فموضوعه هو بعض النقاش عن “عُقدة النقص عند العرب” -رغم أن صُنَّاع العمل اختاروا التخصيص بالمصريين، لكن الحال عامة على العرب جميعًا-. وقد حاول الكاتب “عبد الرحمن هيبة” أن يحشد مظاهر لعقدة النقص عند العرب، مثل: تفشِّي السلوك الاستهلاكي، أنماط المعيشة المُقلِّدة لما نشهده وننبهر به من نماذج معيشيَّة، تحاصرنا في الإعلانات التجارية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي على يد المُؤثرين الذين يبهرون الناس بما يقدمونه لهم، وأخيرًا الأنماط اللغوية الهجينة التي تتعمد خلط كلامها العربي باللغات الأوربية -التي في الغالب لا تعرف عنها إلا كلمات قلائل تحاول دسَّها في الحديث-.
وقد ربط الكاتب بين هذه المظاهر، وموضوع آخر أكبر؛ هو الغنا والفقر في هذا العصر؛ الذي يسيطر عليه النظام العالمي الجديد -كما سمَّاه-، بالرأسمالية المتوحِّشة، التي تحتكر الغنا لفئة صِفريَّة من هذا العالم، والكدح ليلَ نهارَ من أجل الفُتات لبقية البشر، ليتطاحنوا في معركة لن ينتصر فيها أحد، فهي محسومة قبل البدء. ويربط -أو بدقة يُعلِّل- الاسكتش هذه المظاهر من عقدة النقص بهذا الغطاء الفكري الكبير. ولنا أن نتخيل هذه الإمكانات الكامنة في فن الاسكتش، التي تسمح له بالتعبير عن معاني يحتاج الفيلم إلى كثير من البنائية للوصول إليها وصولًا ناضجًا.
أما التأليف والكتابة -أيْ فنيَّة التعبير عن هذه المعاني-؛ فنجدها تعتمد على التصاعُد الدرامي، في موقف يبدأ هادئًا جدًا، اعتياديًّا جدًا، بأن يستقل أحد المواطنين سيارة أجرة. لكنه يستغل أول مُبرر درامي (وقوف السيارة لموكب المسئول)، ليطور من الحدث، حين يلحظ السائق (أسامة عبد الله)، أن الراكب (باسم موريس) يحيط نفسه بمظاهر قشريَّة مخالفة لحقيقة حياته ومستواه المادي (علبة السجائر الأجنبية، الكاجو الذي اشتراه منذ قليل)؛ ليبين له أن ضغط المؤثرات -التي سبق أن عرضتها- تدعوه ليحيا حياةً لا تنتمي له، لأنها تُشعره بالعار أو الدنوّ الاجتماعي متى عاش راضيًا عن مُعطيات حياته، مُتَّسقًا مع مستواه المادي. لذا يتطلع دومًا إلى حياة ليست له، بمظاهر قشرية جدًا، مُؤقتة جدًا.
وفي تأليف الاسكتش مباشرة ضخمة في توجيه المعاني، مع رُوح كوميدية لطيفة، وتدرُّج في قصة الموقف وصولًا إلى لحظة الذروة (لحظة إقناع السائق للراكب بوجهة نظره). كما استطاع المؤلف تدوين بعض الجمل المؤثرة، وأفضلها جُملة “العالَم قصر كبير، وأنت عايش في أوضة الكلب” (العالَم قصرٌ فاخر، نصيبُك منه غرفة الكلب). ويا لها من جملة محزنة مشحونة بمعنى الاسكتش العام!
إذا كانت هذه هي أبعاد القصة والمعنى على الورق؛ فقد أتى المخرج الواعد “إسلام صلاح” ليضيف سمات الاحترافية إلى الاسكتش. بل إن مشاهدة العمل تدل على وجود رغبة من الكاتب على صناعة اسكتش جيد في معانيه، ووجود رغبة من المخرج في الاقتراب -قدر الإمكان- بهذا الاسكتش إلى آفاق السينمائية، وتقنيات السينمائية. فالشريط يدل على رغبته في صناعة اسكتش مغاير، مُقارب إلى لغة الفيلم القصير.
بدأ المخرج بلقطة افتتاحية تأسيسيَّة شديدة الاتساع لا تنتمي للاسكتش، قدر انتمائها للسينما. نرى فيها الراكب، يقف عصرًا في أحد الشوارع، يمسك كيسًا بلاستيكيًّا. وعلى الأرض قمامة عميقة الصلة بالمكان، وكأنَّ الشارع رُصف بها. وفي الخلفية عمارات وقصر، وعلى يمين الخلفيَّة شجرة قديمة عقيمة مُجدبة، عارية عن الأوراق، وحده جسد الشجرة يقف حزينًا يتيمًا، وهذا مُوحٍ بالمشكلة العامة التي يناقشها الاسكتش، وعلى اليسار رافعة آليَّة تدل على إمكانية الانتشال من المشكلة. هذه العناصر المُكوِّنة للقطة الافتتاح تنتمي برُمَّتها إلى فن السينما.
ومن مظاهر سينمائية الاسكتش التي أضافها المخرج؛ التعدُّد الواضح في أحجام اللقطات (شديدة الاتساع، والمتوسطة، والقريبة، شديدة القُرب)، وفي زوايا الالتقاط (العُلوية، والمساوية، والسفلية)، وكلها ساعد فيها المخرج المنفذ فادي ممتاز، ونفذها مدير التصوير أحمد زنفل، وحرَّرها لنا متى رشدي.
وقد نجح المخرج في استغلال أسلوب التأليف لمشهد بين شخصيتين: إحدهما مسيطرة من حيث توجيه الحديث (السائق)، والأخرى دورها الأكبر يكمن في نقل الأحداث وتوجيه دفة الحديث (الراكب)؛ فحقَّق هذا الأسلوب صوريًّا، حين حرص على إبراز تحوُّل وجهة النظر للراكب من خلال تصويره بمجموعة منوَّعة من الزوايا، كانت كفيلة بإشراك المُشاهِد تفاصيل الحديث، وتحويل وجهة نظره هو نفسه -متى كان متصفًا بمظاهر النقص الواردة-. وهذه الكميات من الأحجام والزوايا تنتمي إلى فن السينما، لا إلى فن الاسكتش؛ لأنه فن مباشر جدًا، يركز على تأثير “الحوار”، لا “المقابل الصُّوري” للحوار المُصاحب له.
بل إن المُخرج -على القِصَر الشديد في وقت الشريط- استطاع أن يميز استخدام المرآة الأمامية في السيارة للجُمل المركزيَّة، صانعًا نمطًا في التعبير الصوري، والذي -عادةً- يحتاج إلى شريط أطول كي يصير نمطًا.
كذا مما يُقرِّب العمل من ملامح السينما، لقطة النهاية للسيارة، حين يظهر على اللوحة المعدنية كلمة “زنقة – 23”. وهو أسلوب مستخدم في الأفلام القصيرة، مُوحٍ باستمرار الحدث، واستفحاله.
ولا يكمل العمل الناجح إلا عناصر العمل؛ حيث لعب البطلان (أسامة عبد الله، وباسم موريس) دوريهما على الوجه الأكمل؛ فاستطاع الفنان أسامة عبد الله أن يُحكم الجُمل صوتيًّا وتعبيريًّا، واستطاع الفنان باسم موريس أن ينقل كل تأثُّراته المعنوية من خلال نظرات العينين، وارتخاء قسمات وجهه وانبساطها، وتعرُّقه. وتميز الفيلم بتسجيل صوتي نقي، قام به مصطفى متولي، وبمزج صوتي (ميكساج) ممتاز، قام به أحمد جمال بين أصوات البيئة، والحوار، وأغنية في الافتتاح. وباختيار ملابس ساهمت في واقعية الموقف، اعتنت بها رحمة عادل.
ولا يخلو العمل من عيوب، كأي عمل. لكنني سأُعرض عنها، مُكتفيًا بموقف الدعم، الذي أحاول فيه تقديم العمل نقديًّا، وإلقاء الضوء عليه، وعلى غيره من أعمال فن الاسكتش العربية. لعلي أقدم بعض تكريم لهؤلاء المجتهدين الموهوبين الذين يريدون أن يصنعوا أعمالًا أضخم، لكنهم -ويا للأسف- لا يمتلكون “مؤهِّلات العصر” الذي يصر على أن يعطي لغيرهم من العاطلين عن كل موهبة حق الصدارة، ويحاول أن يلقي بالموهوبين الحقيقيين في هوامش النسيان. لكن العمل الجاد الهادف يعرف طريقه، ولو بعد حين.