حاورها: صبري الموجي
زهرةٌ برية، نبتتْ في أرض يباب، ترزح تحت نير العادات والتقاليد والخرافات ، شقتْ طينَ الأرض، وتفتحت وريقاتُها تحتضن دفء الشمس ونورها، فازدادت ألقا وبهاء، رفضت الحبس في (أصيص) زهور أو باقة ورد، وأدمتْ أشواكُها الحادة كلَّ من حاول اللمس أو الاقتراب، تمردتْ علي طقوس القرية وأعرافها البالية، وكسرت أغلال القهر الأنثوي، والعنف الأسري، حاربتْ ذكورية المجتمع عبر روايات : “نقش علي خاصرة الياسمين“، و” جبل التيه“، و” ليالي الهدنة“، وأخيرا مجموعتها القصصية ” وز عراقي” .
تري أن الكتابة ملاذ من الوحدة والألم، وأنَّ المرأة طائرٌ مهيض الجناح، يعيش في مجتمع براجماتي، يُسيس الأعراف لخدمة أغراضه، تدين لسحر الريف بخيالها، ولإذاعة القرآن الكريم وللقراءة بذائقتها الأدبية، ترفض القول بأنَّ الحرية انفلات، وتراها مسئولية والتزاما أخلاقيا، وتعتبر أن الأدب المصري جدير بالوصول للعالمية .
مع الروائية مني العساسي يدور هذا الحوار *.
يري ( كافكا) أن الكتابةَ صلاة فلابد لها من طقوس لوصول المُبدع لحالة (الصفاء الذهني) المُفجِّرة للإبداع .. ففولتير لا يكتب إلا وأمامه ١٢ قلم رصاص يكسرها بعد الكتابة ويضعها تحت الوسادة، وبلزاك يكتب ليلا، وخيري شلبي يكتب وسط صمت المقابر وأصلان يكتب في ضجيج المقهى .. فما هي طقوس مني العساسي ؟
ليست لي طقوسٌ محددة، فأنا لا أُجبر نفسي على الكتابة، لكن بطبيعتي أميل للعزلة، وربما هذه الطبيعة من لطف الله بي، فأنا أكتب دفقة واحدة، تأتي الفكرة كالحمى أشعر بفورة في عقلي، وثقل في صدري، واختناق في روحي يجعلني أتقوقع حول ذاتي، ويصير مزاجي مضطربا تماما، وأحوّل المكان إلى فوضى، ولا أسمح لأحد مطلقا بالاقتراب، أفقد الرغبة في الكلام، وتضل اللغة طريقها لعقلي حتى أجد البداية، أفتح اللاب توب وأبدأ بكتابة كل شيء، ثم ينتابني شعور غريب بالخفة، وكأن حمولة ثقيلة سقطت من فوق كتفيّ، وأستمر على هذه الحال حتى أنتهي من العمل وأتركه، بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى بعد فترة أعيد فيها كتابته حتى أرضى عنه.
في روايتي الأخيرة (لاندمارك ديرة ) التي لم تُنشر بعد، تغير هذا النهج قليلا لأنني لم أكتبها دفقة واحدة، واضطررت لإعادة بنائها أكثر من مرة، واستعنتُ ببعض الجداول والملحوظات حول الشخصيات كي لا أفقدها .
قيل إنك إحدى الروائيات اللائي عانين عبث الزمان .. ماهية هذا العبث هل هو نظرة المجتمع للمرأة أم أعباء الحياة الزوجية أم مقدار سقف الحرية أم ماذا ؟
لا أعلمُ إلى أي حد يمكن أن أكون صريحة وحقيقية في إجابتي عن هذا السؤال، لكن نعم أنا ممن عانين ضيق أفق الجماعة التي أنتمي إليها، والصدام الحاد معها، ومع أفكارها وتصوراتها عن دور المرأة داخل المجتمع، وأفكارها العقيمة والمغلوطة حول حرية المرأة، وحقوقها التي يغلفونها دائما وأبدا بإطار سميك من الدين والأعراف والعادات والتقاليد، والتي في النهاية دفعتني لأقلب الطاولة وأتمرد عليها، وخوض تجربتي وحدي .
وهل وصلت إلي حالة من الرضا بما صنعت ؟
حالي حال عصفور ملون عاش عمره في قفص ذهبي يقدَّم له الطعام بشكل يومي وتتم رعايته على أكمل وجه، لا يعرف شيئا عن وحشية العالم، كلما تعرض لاعتداء أو محاولة للقنص من أحد الطيور الضارية، يبكي ويسأل بسذاجة ماذا فعلت له ليعتدي علي؟
لو سألنا هذا العصفور هل تعود للقفص حيث الأمان والرفاهية سيرفض قطعا بالرغم من معاناته اليومية، وعدم رضاه عما يحدث معه إلا أنه سيبقى متمسكا بحقه في الحرية حتى لو كان الثمن موته في نهاية المطاف .
عملت بالتدريس وانصرفتِ عنه للكتابة فهل وجدت فيها ضالتك المنشودة وكنزك المفقود ؟
عملتُ بالتدريس في المملكة العربية السعودية، وعندما عدتُ إلى مصر حاولتُ البحث عن عمل مناسب ولم أوفق، ومرَّ علي وقت كنت في أمسِّ الحاجة لعمل أي عمل ولم أجد، في هذه الأثناء كانت الكتابة رحمة وملجأ، فكتبت مجموعتي القصصية (وز عراقي)، وروايتي الجديدة التي أشرتُ إليها منذ قليل “لاندمارك ديرة“.
تزخر أعمالك بالخيال والصور إضافة إلي قاموسك اللغوي الثري .. فهل لنشأتك الريفية دورٌ في ذلك ؟
نعم صحيح للقرية سحرُها وقصصها الخاصة ومشاهدها التي أدركت قدر روعتها عندما سافرت إلى الخليج ، فعندما كنتُ أنظر من الشباك ولا أرى سوى صفرة الصحراء البغيضة، ولا أسمع سوى الصوت المرعب لاحتكاك عجلات السيارات بالأسفلت، أدركت لماذا يرتبط مفهوم الجنة بالخضرة والأنهار والصوت العذب لزقزقة العصافير، أدركتُ أن القرى رغم عيوبها الكثيرة هي تجسيدٌ للجمال في بساطته وما يتركه في النفس من راحة، أما عن اللغة فبجانب كونها منةٌ من الله، صقلتها عواملُ عدة منها النشأة القروية، ووجود إذاعة القرآن الكريم باستمرار، كما كان للقراءة ومعايشة أنماط متعددة من المجتمعات والاختلاط بالجماعات والثقافات المختلفة دور كبير في ذلك .
في ” جبل التيه ” أبرزتِ في بنية واقعية الطقوس المُسيطِرة علي مُعتقدات القرية المصرية القديمة من إيمان بالسحر والأشباح، والأعمال السُفلية ثم كان الالتفات الذي انتصرتِ فيه لقيم العلم والقانون والديمقراطية والتسامح .. فهل أنت من مؤيدي توظيف النص لخدمة الفكرة والغاية .. وأليس في هذا تضييق لخناق الإبداع ؟
كيف يكون تضييقا، النص في ذاته فكرة، هاجس يسيطر على الكاتب، يود التحرر منه يحاول ترويض واستغلال كل أدواته للتعبير عنها، يُحمل شخوصه أدورا يقومون بها داخل سرديته، إما الدفاع عنها أو مناقضتها بتبني منطق إثبات الرأي بنقيضه، ففي “جبل التيه” على سبيل المثال؛ كان هناك عالم واقعي يحمل شخوصه مسئولية طرح واقع القرية، بكل ما فيه من أمراض فكرية واجتماعية، والغرق في الخرافات والحلول الميتافيزيقية، وعالم متخيل تبنت شخوصه قيما عليا كالعلم والعمل والديمقراطية والتسامح وقبول الآخر ودعم القدرات الخاصة ونبذ الصراعات الدينية والعرقية والجنسية .
“ليالي الهدنة” صرخة رفض للقهر الأنثوي أمام المجتمع الذكوري .. ما مظاهر هذا القهر وما مقدار الحرية التي ترنو إليها العساسي بناظريها دون الوصول إلى حدِّ الانفلات ؟
أشكالُ القهر الأنثوي معروفة للجميع، تتضح بشكل أكبر في الأقاليم والمجتمعات القروية، كالزواج القهري والحرمان من الميراث، ومشاكل الطلاق، بالإضافة إلى العنف النفسي والجسدي، الذي تتعرض له المرأة، والابتزاز العاطفي والمادي الذي يُمارس عليها طوال الوقت باسم الدين والعرف من قبل الأسرة والمجتمع، أما فيما يخص الحرية وحدودها فهذه أزمة لا تمس المرأة وحدها، هذه أزمة مجتمعية عامة، فالبطريركية الأبوية هي آفة حارتنا، الحرية في علم الاجتماع هي التحرر من القيود التي يفرضها شخص على آخر، توفر المساحة التي تمكنه من الاختيار والتجربة والدفاع عن حقه في العيش بإنسانية وكرامة، دون التعرض لأي شكل من أشكال الأذى، أن يحصل المرء على كامل حقوقه مهما كانت خياراته متفقة أو مختلفة مع رأي الآخرين، فنحن جميعا ذكورا وإناثا نتشارك ميراثا إنسانيا واحدا، وبنية بيولوجية واحدة ونعيش في مجتمع واحد، فمن الطبيعي أن تكون الأفضلية للعمل والكفاءة، أما عن الانفلات ففي المجتمعات الاستهلاكية يوهمون الناس بأن إشباع اللذة هو أقصى تعبير عن الحرية الفردية، وهذا ليس حقيقيا على الإطلاق، من جرب أن يعيش حرا سيكتشف أنها التزام داخلي وميثاق أخلاقي يدفع الإنسان إلى الأفضل .
الكتابات النقدية حاليا .. هل هي إثراءٌ للنص أم هي قص لأجنحة تحليقه من خلال ليِّ عنقه والبعد به عن الموضوعية والحقيقة ؟
جوهر النقد هو التحليق بالنص إلى آفاق جديدة، ليس بالضرورة أن تكون في وعي الكاتب أثناء كتابته لنصه، فالكاتب يكتب بكيانه الكامل، بعقله الواعي واللاواعي، بمنظومته الأخلاقية، بغرائزه وضميره الأعلى، فالنقدُ ضرورة ليكشف عما تحويه النصوص من رؤى وأفكار، وجمال وفلسفة وحقيقة، طبعا هذا إذا كان نقدا موضوعيا، لم تدخل فيه عواملُ أخرى كالمجاملات السخيفة أو الشللية التي تتفق على قتل هذا وإحياء ذلك، أو حتى شعور الناقد ذاته بـ(الأنا) التي تجعله يمارس حالة من التعسف تجاه النصوص الجيدة والحقيقية لإرضاء شيء ما في نفسه .
تطمحين في وصول الأدب المصري للعالمية برغم احتوائه علي كثير من الغث .. برأيك ما خصائص الأدب الجيد ؟
الأدب المصري عظيم وينطوي على قيم عظيمة، ويستحق العالمية بجدارة، المشكلة ليست في الأدب المشكلة أن الكثير من دور النشر الخاصة التي تحظى بجماهيرية تتبنى الأدب الغث، لذلك تجد الكثير من الكتب غير الجديرة بالنشر، تحقق عشرات الطبعات، وهناك دور نشر تتبنى أيدولوجيات وسياسات خاصة بها فترفض الكثير من الجيد لأنه لا يتفق مع أفكارها، ناهيك عن (الشللية) التي تدعم أسماء بعينها لتتصدر المشهد، النص الجيد يُعلن عن نفسه دون خجل، يمكنك تمييزه، وإدراك قيمته كقارئ مهما كانت ذائقتك، اتفقت معه أم اختلفتْ، ولن أخفيك سرا فقد قرأت كتاب “ما الأدب” لسارتر، وعددا من الكتب النقدية لأعرفَ هل ما أكتبه أدب جيد أم لا؟ ولازال هذا السؤال يلازمني مع كل نص جديد، هل كتبت نصا جيدا .
الجوائز هي تتويجٌ لنتاج المبدع لكنها حرصتْ مؤخرا علي شراء ولاءات فحرمتْ المُستحِق، وكافأتْ أنصاف ومعدومي الموهبة .. ما رأيك في مسألة الجوائز ؟
من المفترض أن الجوائز الأدبية هي تحفيزٌ للكاتب ومكافأة له، والجميع يحب أن يكافأ، لكن بصراحة أنا لا أعلم كيف تدار منظومة الجوائز أو كيف يتم التقييم؟! أحيانا أجد نصوصا غاية في الروعة والأهمية لا تحصل على شيء، ونصوصا أقل قيمة تحصل على الجائزة .. المشكلة الحقيقية ليست في حصول فلان أو علان على الجائزة لأن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتم تصديره من قبل الإعلام ودور النشر على أنه من يمثل الأدب المصري، وهذا بالمناسبة من أسباب عدم وجودنا في القائمة العالمية، ناهيك عن أنه يعتبر نفسه أستاذا في الكتابة، ويبدأ في عمل ورش لتعليم الكتابة الروائية، أو تحويل صفحته على الفيس بوك لنافورة من النصائح للكتاب المبتدئين .
اعتبرَ البعض أن نصوصك إسقاطٌ علي حياتك الشخصية وصنفها البعض علي أنها نوعٌ من السيرة الذاتية والبوح الشخصي .. ما مدي تأييدك أو رفضك لهذا التصنيف ؟
قديما كان يزعجني ذلك، وكنتُ أعتبره انتقاصا من موهبتي، أما الآن فأصبحت أكثر إيمانا بأن الكاتب خالق، يخلق شخصياته على صورته، ويحملون شيئا من روحه رغم اختلافهم الجذري عنه واختلافهم فيما بينهم .
عانيتِ فترة من خمول الذكر ثم تفجرتْ قنبلة إبداعك الذي حظي بثقة القراء واحترام النقاد .. قطعا وراء ذلك الإبداع تربة احتضنته ورعاة تعهدوه .. نود إلقاء الضوء حول ذلك ؟
لا أعتبر نفسي ممن عانين خمول الذكر، فقد صدر أول عمل لي عام 2020، وعانى العالم بأثره من الخمول والعزل بسبب جائحة كورونا ، وليس لدي رعاة بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن كل من كتب حرفا عن عمل لي هو راع، كل من ناقشني في ندوة أو تحدث عن عملي بموضوعية هو راع، كلُّ من لفت انتباهي لنقص في نصي هو راع، كل من قرأ لي وآمن بكتاباتي وحاورني كما تفعل أنت الآن هو راع، أود أن أوجه التحية والشكر للجميع .
أنت مُنشغلةٌ في كتاباتك بقضية مُحاربة القمع والتهميش الأنثوي كما في رواية “ليالي الهدنة” و “وز عراقي” مجموعتك القصصية الأخيرة وغيرهما .. فهل تُعبرين من خلالها عن مني العساسي بشكل خاص أم عن المرأة بشكل عام ؟
كما ذكرتُ سابقا جميع شخصياتي – على اختلافها – تمثل منى العساسي بطريقة ما، كما أنها تمثل المرأة بشكل عام، فبطلاتي جميعهن يبحثن عن الحرية والعدالة الاجتماعية، جميعهن طيور بأجنحة متكسرة عشن في مجتمع براجماتي لا يخدم سوى أهدافه، بل يتفنن في خلق فتيات اعتماديات ببناء نفسي هش، وترسيخ قيم باطلة لا تمت لدين ولا أخلاق، ليبقين تحت سلطته .
تقلصت ظاهرة الصالونات الأدبية التي تبنّت سابقا الإبداع والمبدعين .. برأيك ما البديل عنها .. وكيف تُستغل الميديا الحديثة في النهوض بالإبداع ؟
لا أعلم هل تقلصت أم زادت؟ ربما كانت الأحداث المتلاحقة التي يمر بها العالم من حولنا، قد قللت من التفاعلات الثقافية، لكنها لا تزال موجودة وفي تزايد، والحقيقة أن (السوشيال ميديا) أتاحت للجميع الفرصة لتقديم نفسه، سواء كان مبدعا أم لا .
أفهم أنك تعتبرين السوشيال ميديا جناية علي الإبداع ؟
لا لم أعني ذلك، السوشيال مديا سلاح ذو حدين فأنا شخصيا تعرفت من خلالها على الكثير من الكتاب والكاتبات الرائعات ولولاها لربما ما كنت سمعت عنهم ولا سمعوا هم عني، ما أقصده أنها أداة في يد الجميع سواء كان لديك شيء حقيقي تقدمه أو لا، فهي تقيم النجاح بناء على عدد المشاهدات واللايكات والكومنتات بغض النظر عن المحتوى .
……………………….
*نقلاً عن “الأهرام”