محمد الكفراوي
خاض جيل التسعينيات مغامرات شتى في محاولة للتوصل إلى تعريف جديد وتفسير وفهم لماهية الأدب وجوهر الإبداع، بعض تلك المحاولات نجح في فتح آفاق جديدة، عبر بناء قصيدة حداثية بأبعاد شعبوية، وكتابة رواية أو قصة تتحدى الأنماط التقليدية، ترتكن إلى أفكار جريئة وثورية وجماليات مبعثها واقع الحياة اليومية وهموم الجسد، والبعض الآخر أوغل في الخيال والمبالغات اللغوية التي أحيانا ما تفضي بالنصوص إلى العزلة، وتفصلها عن سياقات التلقي الاعتيادية.
أكثر من اتجاه تجسّد في شعرية جيل التسعينيات، وبالمثل تمكن هذا الجيل من خوض مغامرات سردية مدهشة ومؤسِّسة في القصة القصيرة والرواية، لكن تلك المغامرات كانت ضمن معارك أدبية، في محاولة لبث دماء جديدة في الأوساط الثقافية، ومساعي لتجاوز قيود الماضي بكل ما يمثله من زخم حضاري وثقافي (دون التنصل منه)، والبحث عن أفق جديدة يليق والنزعة المتمردة التي لاحت في أفق الإبداع وتبناها أبناء هذا الجيل، وسعوا لبناء أنفسهم إبداعيا وثقافيا وفكريا وفق رؤى جديدة تتفق ومفردات وتحديات العصر الذي يعيشونه.
جيل التسعينيات خاض معارك في الشعر حول جدارة قصيدة النثر وميراث القصيدة العمودية وسحر شعر التفعيلة، ونجح في النهاية في التكريس لاتجاهات شعرية تعبر عنه وفق القصيدة الجديدة التي كانت غريبة حينها وجديدة على المتلقي وتقابل بسخرية واستهزاء وتهكم من قبل الأوساط النقدية والمؤسسات الرسمية.
هذا الجيل واجه تحديات مخيفة لتكريس سردية جديدة في القصة والرواية تتوغل في عمق المجتمع وتكشف عواره وتسعى لكسر التابوهات والتحرر من القيود التقليدية في الكتابة، وهو الأمر الذي قوبل بالنفي والتهميش وربما الاضطهاد والتحريض ضدهم.
هذا الجيل شق طريقه عبر قنوات غير رسمية، ربما عاش في البداية على الهامش، وتحدى المتن الثقافي، لكنه في النهاية استطاع أن يحوّل هامشه هذا إلى متن راسخ، وأن يفرض حضوره، بتقديم كتابة وأدب وفكر جديد يتطلب ذائقة جديدة صنعت نفسها بنفسها، ومع هذا الجيل انتهت فكرة البطولة والنجومية والكاتب الأوحد لتتحول الكتابة إلى مجال مفتوح وأفق ممتد أمام محاولات تجريب لا نهائية.
حروب ومعارك ومغامرات خاضها هذا الجيل على كل المستويات، في الإبداع، في النشر، في النقد، صبت جميعها في صالح الذائقة الجديدة التي فرضت وتفرض نفسها حتى اليوم، وتستفيد منها الأجيال التالية وتبني عليها، دون التورط في الأنماط الاعتيادية بين الأجيال، إذ كانت القديمة تفرض وصايتها على الأحدث.
واجه جيل التسعينيات عنفا نقديا وازدراء وتهميشا مؤسسيا، ففي هذه الحقبة كانت المعارك شرسة لإثبات أحقية وجدارة الكتابة الجديدة المختلفة والمغايرة للمألوف، البعض اتهمها بـ”قتل الأب” أي التنصل من التراث الأدبي وهي تهمة تمس الوجدان بالأساس وتسعى للتشكيك في أصالة المنتج الإبداعي، وآخرون اتهموها بالتغريب، وكأن المبدع يجب أن ينغلق على ذاته ومجتمعه ولا يأبه بالتيارات الجديدة في الأدب، ووصل الأمر إلى اتهامات مضحكة، فلم نعدم أن نجد شاعراً كبيراً راسخاً يطلق على قصيدة النثر مسمى “القصيدة الخنثى”، وأطلق نقاد على الكتابة الجديدة “أدب المراحيض”.
تلك نماذج بسيطة من المعارك التي خاضها هذا الجيل حتى استطاع أن يرسخ لنمط في الكتابة والإبداع يعبر عن لحظته الراهنة، لا ينفصل عن الواقع وإن كان يتمرد عليه ويتحداه، ولا ينحو تجاه الغرب، وإن كان ينفتح عليه ويستفيد منه، ولا يقاطع تراثه الأدبي، بل يحفظه في وجدانه ويسعى لتجاوزه، هو في النهاية يبني من كل ذلك خلطة سرية للكتابة والإبداع مازالت حية ومتجددة وماثلة للأعين في شخوص ومبادرات ومشاريع انطلقت في تلك الفترة، تلتقط الأجيال التالية أصداءها، وتعيد بلورتها في سياقات جديدة متجددة، لتصنع مجالها الإبداعي الخاص، الذي لا ينفصل بحالٍ عما أرساه أبناء جيل التسعينيات.