أيها المارون فوق أحلامنا.. خذوا حصتكم من أحزاننا واتركوا لنا حشائش الأرض وحصاها

ناجي العلي فلسطين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة الله شاهين

أحاول أن اقتبس من الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وأعيد صياغة أشهر قصائده التي كتبها لأمه في حبسه على ورق الألومينوم المُغلف لعلبة السجائر، وقت اعتقاله في سجن الرملة في العام 1965، حينما عبر عن شوقه لطفولته وذكرياته القديمة في حِضن أمه قائلاً: “وتكبر في الطفولة يومًا على صدر أمي”، ولكن اليوم وفي غزة، غابت الأم، رحلت، بقيت تحت الأنقاص حتى تحلل جسدها، اختلطت دمائها برماد المنزل المتفحم، فأصبح لسان حال طفلها الذي لا يعرف سوى طفولته، فلا يأت الوقت بعد ليحنّ إليها، فأصبح لسان حاله :”وتكبر بي الطفولة يومًا على قبر أمي”!

ليس مجازًا لكنه عين الحقيقة، قدميها وكفيها ورأسها، مقطع فيديو لا تتعدى مدته الدقيقة الواحدة، يردد خلاله طفل يُدعى لم يكمل عامه السابع بعد، عبارة واحدة، يحاول انتزاعها من فمه، يشهدها عنوةً من أحباله الصوتية، التي أنهكها وشفها طول البكاء، “مشتاق لأمي كتير والله مشتاق لها”، يتتبع آثارها، يذهب لمنزلهم المتهدم شمالي القطاع، بحثًا عن حافظة النقود الخاصة بها، يضمها إلى صدره ويقبلها، ثم يضعها في جيب بنطاله الممزق، هذا ما تبقى له من أمه، ومن فُتات الطفولة في قلبه، هذا الطفل الذي كُتب له بفعل عوامل الجغرافيا والدم واللغة، ولون العينين والبشرة، أن يدفع هو ثمن صراعات عالمية ودولية، وتبعيات سياسة إمبريالية استيطانية، لا ناقة له بها ولا جمل.

تموت أم محمد لنحزن نحن

يقول الشاعر السوري في إحدى قصائده:

 ” يتركون لنا بقايا الشمس لندفأ

بقايا الموائد لنأكل

بقايا الليل لننام

بقايا الفجر لنستيقظ

بقايا الموسيقى لنسمع

بقايا الأرصفة لنمشي

بقايا الأصابع لنكتب

ثم يتركون لنا الوطن من المحيط إلى الخليج

لنقاتل ونموت من أجله”

ربما تصبح هذه العبارات خير شاهد على ما نعيشه نحن الآن، فمحمد ليس وحده، وأمه ليست الوحيدة، وحزننا ربما ليس الأخير، ولكني لا أعلم، لماذا يموتون هم ونحزن نحن، لماذا لا يموت الآخرون ويحزن عليهم آخرون غيرنا! لماذا يُقدر لنا وحدنا أن نقيم العزاء ونربت على كتف المكلوم؟ نبكي كلما بكى، ويأكل الحزن قلوبنا كلما سمعنا تنهيداته، وصوت أنفاسه المتقطع، لماذا لا ننام في الليل، بينما يُمسك صوت عقلنا بسوطه الغليظ، يهوي على رؤوسنا كلما قررنا أن “نطنش” وننام، رافعين شعار “ملناش دعوة ياكلوا بعض”! مثلما يفعلون هم، أليس من الأولى أن يحملوا عنا ما حملناه طويلاً، فهم من ذاق من شهد الوطن ونهل من لبنه وعسله، أما نحن فلنا خبز الشعير وحشائش الأرض وحصاها؟

النمل أيضًا قد يعلن احتجاجه

منذ شهر أكتوبر الماضي، وفي ظل تصاعد حملات المقاطعة للمنتجات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والألمانية، وكل منتج تنتجه دولة تقدم الدعم المادي أو الثقافي أو الفكري لدولة الاحتلال، قررت أن أشارك في هذه الحملة، لا أعلم لماذا، رغم معرفتي بعدم جدوى ما أفعله، أنا وملايين غيري من قطعان “النمل”، الذي ربما لا يعلم صانعو القرار في هذه الدول بأننا على قيد الحياة! ربما أمل أو إيمان، بأنه حتى قطعان النمل الصغيرة، قد تثور يومًا ما، قد تهز الأرض من تحت أقدامهم، فيحدث التغيير الذي نحيا لأجله، وسنموت قيد انتظاره، فأنا قد أشارف على إنهاء عامي الثلاثين، وقد لا أعيش لثلاثين عامًا قادمين، وقد لا أرى أسراب النمل وهي تعلن احتجاجها، ولكني أقاطع حتى أقول بأنني في يوم كنت هنا وقلت لا، لم يسمعها أحد غيري.

حين أنقسم العالم بين من هم تبعنا ومن علينا

بالتأكيد لم يكن هذا بالضبط ما أردت أن أخبركم به اليوم، ولكن الشيء بالشيء يُذكر! بحكم عملي في مجال الصحافة الإنسانية مدة تجاوزت السبع سنوات، أحب دائمًا أن اقرأ ما تخفيه عيون المارة من حولي، كلماتهم وحتى إيماءاتهم، وقبل عدة أيام كنت اتجول في أحد المحال التجارية الضخمة أو ما يُعرف بـ”الهايبر ماركت”، لشراء بعض الحاجيات، وقفت بالقرب من رف الألبان والعصائر استطلع آخر تحديثات الأسعار، استمعت لحديث جانبي بين رجل وزوجته، تخبره الثانية بألا يشتري هذا النوع من عصير المانجو لأنه “مش تبعنا”، تعني بهذه كلمة المصرية العامية، أن المنتج يتبع إحدى شركات المقاطعة، فقال لها بنبرة ساخرة مُغلفة بقلة الحيلة:”يعني هي جت علينا، هتقنعيني إن الكبار مقاطعين زينا ولا حد مهتم باللي بنعمله (ما نفعله)”

قالها ورحل، لم يسعفني الوقت لأعرف منه ماذا يقصد بالكبار؟ هل يقصد طبقة الأغنياء جدًا، أو من نطلق عليهم نحن سكان “إيجيبت”، أو ربما صناع القرار في مجتمعاتنا العربية، السادة رجال السياسة والاقتصاد، أم يقصد أناس آخرين لا أعرفهم ويعرفهم هو جيدًا! هل بالفعل نحن فقط “قطعان النمل”، من لهم الحق في قول لا، في وقت يقول فيه الجميع نعم؟ هل الناس الكبار جدًا تبعنا  (معنا) أم علينا؟ هل رأوا مقطع الفيديو الذي يرثي فيه محمد أمه، التي ربما شطرها صاروخ أمريكي، أو طلقة ألمانية، إلى نصفين؟  

حقيقة لا جواب لدي على هذا السؤال، حتى هذه اللحظة، مثلما أجهل تمامًا، لماذا نحن في أحزان وطننا أول المدعوين، وفي أفراحه، إن وُجدت، منسييين؟ وهل عزوفي عن شراء منتجات المقاطعة من مقرمشات ومشروبات غازية، وحلوى ومساحيق غسيل وخلافه، سيمنع الدول الشقراء ذات العيون الزرقاء، عن مد عدونا بأقوى وأذكى أنواع الأسلحة في العالم؟ وهل سيأتي يومًا تخرج قطعان النمل عن صمتها، تهب، تحتج تثور، وترفض؟ ومتى سيشاركنا الكبار أحزاننا، مآتمنا ونحيبنا، عل حزنهم  ينتفض، فيهز جسد العالم المُغشى عليه، أظن أن ميزان القوة سيميل ناحيتهم، فمن سد جوعه بشهد الأرض وعسلها، ليس كمن أسكت صفير أمعائه بكسرة خبز وقليل من الحشائش!

مقالات من نفس القسم