د. رضا صالح
من السهل أن يتعرف القارئ الحصيف على أن هذا السرد الجميل ينسب إلى الروائى القدير محمد جبريل حتى لو لم يكن اسمه مكتوبا على الغلاف! ذلك أن معظم أعماله السابقة تتسم بلغتها الرائقة المميزة والتي تنبعث من معظمها روائح مياه البحر المشبعة باليود وأجواء الإسكندرية المارية وأحوال أبنائها وما يعتمل في نفوسهم من أمال وأحلام؛ وخصوصا أبناء حى بحرى بما فيه وحوله؛ الأنفوشى وسيدى أبو العباس المرسى والأئمة الأربعة عشر وسوق السمك والميناء الشرقى وكذا شوارع اسكندرية واحيائها وميادينها وطرقاتها المميزة
هذه الرواية “سفينة الجزيري” توقفت بعد أن قرأتها؛ وقد خطر في ذهنى أن أسميها رواية الحلم البشرى أو رواية البحث عن المدينة الفاضلة
من خلال النص يمدنا الكاتب العليم بكميات وافرة من المعلومات التي إن دلت على شىء فإنما تدل على ثقافة الكاتب الواسعة ودرايته بعالم البحر والبر أيضا؛ عالم الصيد والسفن وثمار البحر من الأسماك وأنواعها المختلفة؛ وعالم البر وشمولية درايته بجغرافيا المدينة وخصوصا حى بحرى الذى نشأ وتربى فيه الكاتب بل وعشقه أيضا؛ كما أعجبنى جدا ذلك الزخم الصوفى الذى تتسم به أجواء الرواية وأماكنها وشخوصها
في الحقيقة ليس هذا هو المراد الرئيسى من الرواية؛ فالعمل الأدبى بالطبع لابد أن يندرج تحت مفهوم الترفيه والفائدة أيضا؛ والرواية كما قلنا عامرة بالمعلومات عن الجزر القريبة والبعيدة واكتشافها وأسماء المكتشفين وظروف اكتشافهم لها في قارات العالم بأسره؛ والكاتب يشير لنا بطريقة غير مباشرة إلى أن التطلع إلى اكتشاف تلك الجزيرة الجديدة ما هو إلا نوع من الاشتياق أو البحث عن المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا للخروج من مأزق الحياة الدنيا بما تحويه من آلام ومشاكل وأوجاع وكراهية ومطامع وحروب لا نهاية لها؛ يتطلع البطل وقد شرع في بناء سفينة تحمله ومن معه للهروب من هذا العالم الكئيب الى عالم آخر يتخيل أنه عالم أفضل من جمبع المناحى؛ نسبت السفينة إلى اسمه كما نسبت سفينة نوح اليه؛ دلالة على الرغبة في الخلاص والنجاة والتماس عالم الفضيلة والحياة الهانئة؛ وهو بذلك يشير إلى عشقه وتطلعه الدائم ودعوته إلي الالتحاق بالسفينة وركوبها؛ وقد ذهب ليدعو اليها كل من يصادفه؛ كما ذهب مع صاحبه إلى مسجد سيدى أبو العباس المرسى ليدعو الناس إلى الخروج معه إلى تلك الدنيا الجديدة ؛ وذلك العالم الملىء بالخير والحب والفضيلة.
ومن خلال القراءة يتضح للقارئ التمكن من الوصف؛ كما تتضح ثقافة الكاتب وتدفق المعلومات عن الجزر واكتشافها؟ الأبطال عديدون؛ وبالرغم من تعددهم؛ إلا أنها شخصيات مميزة؛ يقول على لسان أحدهم عن البحر واحواله إنه أقوى من اليابسة
ويقول أيضا ان ما يطلبه هو جزيرة تحقق مجاوزة الواقع إلى ما هو افضل!
يشغلني الفرار من الجحيم وليس دخول الجنة!
يقول الجزيري للأهالي ردا علي تساؤلاتهم المستنكرة: ليس حلما ولكنه محاولة للخلاص
ويقول :هذه سفينة الوصول الي الملاذ! نحن نرحل بدافع الرغبة في سلامة النفس
وبعد أن تبدأ السفينة في الإبحار للبحث عن تلك الجزيرة المجهولة؛ يفاجأ الجزيرى بأحوال الدنيا كما هي تتكرر فوق السفينة؛ يُفاجأ –وبقية من معه في السفينة- يفاجئون بأن الناس هم الناس بكل عاداتهم وطيبتهم وشراستهم وتطلعاتهم وأطماعهم وأحقادهم ومخاوفهم أيضا؛ الناس هم الناس في كل مكان، يتعاركون فوق السفينة؛ فيحاول ان يهددهم ويسكتهم
يقول الجزيرى: ان تكرر العراك فمصير السفينة الغرق
ويقول رفيقه متولى قطة: عدنا الي ما قامت الرحلة للخلاص منه.
***
هذه رواية شيقة تأخذنا إلى عالم آخر؛ أو انها تدعونا لأن نبحث داخلنا عن عالم أفضل وأرقى؛ عالم ينضح بالحب والجمال والخير؛ أنها دعوة إلى البحث عن القيم الجميلة التي يدعو إليها الجزيرى كما دعا إليها الأنبياء والأولياء؛ دعوة للخلاص من الخطيئة والكراهية والحقد والآلام!