مطبخ تميمة

فئران أليفة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نسمة عودة 

تقف الست تميمة في مطبخها سعيدة للغاية، تزين البسكويت لأحفادها الذين سيصلون بعد قليل، وتدندن أغنية.
في سنوات زواجها الأولى سجلت أغنياتها المفضلة بصوتها، وأصدرت قرارًا حاسمًا أن لا تُسمع أغانٍ في المنزل بصوت مطرب أو مطربة أخرى. بعد أن كبرت ابنتها زينة قليلًا، تعمدت كتم صوت التلفزيون؛ حتى تنتهي أغنية الكرتون أو الفيلم، مبررة لها أن ما يقال لا يناسب الصغار. ظلت زينة لسنوات جمهور تميمة الوحيد، تبتسم إن بدأت الغناء وتشاركها أحيانًا وتصفق لها في النهاية بشدة كما علمتها.. كان الغناء لعبة زينة المحببة التي أوهمتها تميمة أن لا أحد سواها يجيد تأديتها.

في نهاية طابور يومها الدراسي الأول، سمعت زينة مدرسة الموسيقى تغني النشيد الوطني؛ فشعرت بصدمة وخيانة، لم تكن تعلم حتى ذلك العمر، السادسة، ما هو الغناء الحقيقي، لذا كان من الطبيعي والمتوقع لطفلة مثلها أن تهرب من الحصص، وتتوارى خلف الشجرة الضخمة القريبة من نافذة غرفة الموسيقى؛ لترتوي بالصوت العذب، الذي يشبه صوت ليلى مراد، حينها لم تكن تعرف أن ليلى مراد مطربة بالإضافة لكونها ممثلة.. رغم أنها حفظت في الخامسة “قلبي دليلي” و “سلم عليّ”.

يرن جرس الباب، تسرع تميمة، لا.. تطير. تتوقف أمام المرآة المجاورة للباب، تخلع الإيشارب وتفك شعرها القصير المصبوغ حديثًا بالأسود، تنظر لنفسها راضية وتبتسم ابتسامة حقيقية واسعة، تتشجع وتفتح الباب، لكنها لا تجد أحدًا.

تلعن تربية أبناء الجيران الجدد، قديمًا كانت تعرف عن جيرانها كل شيء، الآن تغير الوضع بعد موت أصحاب الشقق وتأجيرها كل ثلاث سنوات لأسر مختلفة لا تعرف عن أصلهم شيئًا، أحيانًا تبكي وكثيرًا تلعنهم كما الآن. تنظر في الساعة، تجاوزت الثالثة بدقائق، ميعاد وصول ابنتها وأحفادها.

تدخل المطبخ ثانية، تماسكت الشوكولاتة، ما جعلها تضطر لإذابتها من جديد. تشعل النار، تضع الشوكولاتة في طبق ستانلس ستيل فوق حلة صغيرة مملوءة بالماء الساخن، تقلب الشوكولاتة بعصبية، يرن جرس الباب مرة أخرى، تلقي الملعقة من يدها، وتركض آملة بابتسامة مترقبة.

يقتل وجه محصل الكهرباء ابتسامتها، ترفض الدفع وتغلق الباب بقوة في وجهه. تنظر إلى الساعة في قلق، الساعة الرابعة، تعقد الإيشارب من جديد وتقرر أن تخرج الكرسي المتحرك القديم وتتحرك به في أثناء وجودهم. تتذكر حديث ابنتها عن إجادتها للابتزاز العاطفي؛ فتبتسم ساخرة. تتنقل بالكرسي بين الغرف كتجربة، تسرح، تدمع عيناها، تغني، تنهض مسرعة حين تشم رائحة الشياط. تبخر الماء واحترقت حواف طبق الشوكولاتة، حتى البسكويت امتلأ بالنمل الفارسي العملاق الذي تكرهه بشدة؛ لدرجة أنها تتخيله الآن. باشمئزاز تضع كل شيء في كيس قمامة كبير، تعقده من الأعلى ثم تلقيه من نافذة المطبخ وهي تتساءل بخوف.. هل ستأتي البنت فعلًا؟

لن تنسى زينة أبدًا صفعها أمام الفصل كله، حين أبلغت المديرة أمها بهروبها من الحصص ومراقبة مدرسة الموسيقى. رسبت في الصف الأول الابتدائي متعمدة؛ لتتخلص من زملائها الذين شهدوا إهانتها، لم تكتب سوى اسمها في ورقة الامتحان بشكل خاطئ “ذينا”. صلح المراقب اسمها مشفقًا، وأوصت الإدارة بعرض الفتاة على طبيب نفسي. لم تعرضها على أحد، صنعت لها طبقًا من البسكويت، وزينته بالشوكولاتة والفستق. ظنت أنها تستطيع مصالحتها للأبد بهذا البسكويت، وستظل تأكله راضية، ناسية كل إهانة وحرمان، وأكد لها عدم رسوبها مجددًا ظنها الخاطئ.

تتأمل عقارب الساعة التي تشير للساعة الخامسة، تتصل بزوج ابنتها، تسأله بلطف مبالغ والكثير من كلمة “حبيبي” عن سبب تأخرهم، يطلب محرجًا أن تجعل الغداء عشاءً. تنهي المكالمة بخيبة أمل وود مصطنع.

لم ترَ ابنتها منذ تزوجت، ترفض حتى التحدث إليها عملًا بمقولة “اعتزل من يؤذيك”. أنجبت ثلاثة أبناء، أكبرهم في التاسعة، ولم تسمح لها برؤيتهم أو معرفة أسمائهم. توقعت تميمة أنها أعطت الطفل الأول اسم والدها الذي رحل قبل مولده بأيام، المشكلة أنها لا تتذكر اسم والد ابنتها الذي ظل زوجها لخمسة وعشرين عامًا. لقد نسيته تمامًا منذ مات، لم تسمح لعقلها بالاحتفاظ بذكريات عن رجل قال لها وهو ينظر في عينيها لحظة الموت لتتوقف عن مواساته: إن صوتها مفزع يليق بامرأة سامة مثلها. لو لم يقل.. لربما شيدت له في قلبها مقامًا، لكنه لم يستحق سوى النسيان الكامل.

يُطرق الباب بمفتاح كبير عدة طرقات، هذه المرة تعلم من الطارق، عامل “الدليفري”. تفتح الباب وهي تقول: “نهارك أسود ومنيل”، تصب غضبها عليه وتحرمه من البقشيش. تقسم أن تتصل بالمطعم لتشتكيه إلى المدير، وتحذره إن أتي مرة أخرى دون ارتداء كمامة طبية. ينظر لها الشاب بغيظ شديد، يبدو لها كمن يتخيل نفسه يخنقها بالكيس البلاستيكي الثقيل، تتوتر، يتنهد، ثم يعتذر، تلقي الأوراق المالية في وجهه، وتغلق الباب مسرعة.

تحاول تشتيت نفسها بالتحدث إلى أي شخص. لا يوجد في هاتفها سوى أرقام المطاعم والسوبر ماركت والصيدلية وعيادات الأطباء. تتصل بالصيدلية..
ــ دكتورة هناء موجودة؟
ــ الدكتورة في إجازة.
تغلق الهاتف، تطلب السوبر ماركت.
ــ ألو يا حسن؟
ــ حسن في المخزن، أنا عبد الله.
تكره عبد الله هذا، سريع الغضب وقليل الكلام والذوق، يشبهها كثيرًا، لذلك لا يتفقان. حسن لطيف، يستمع إليها مُرحبًا، ويقول لها يا هانم، ويتحمل أحاديثها عن أي شيء. هي لا تعرف أنه يقول لكل كبار السن من الزبائن: يا معالي الباشا ويا هانم.

يشتد شعورها بالأسف، فلا يوجد أحد لتسأله سوى نفسها.. لماذا أصبحت ابنتها بكل هذه القسوة؟
لقد ربتها بمفردها، بينما كان والدها مشغولًا في عمله بالكويت ولا يعود سوى زيارات سنوية. ربما كانت قاسية معها بعض الشيء، لكن البنت أيضًا كانت غير مطيعة وأنانية.
حين كانت في المرحلة الإعدادية، حصلت على خمسمئة جنيه وشهادة تقدير من وزارة التربية والتعليم في مسابقة غناء للطلاب على مستوى الجمهورية، وظهرت على القناة الأولى. سألها المذيع الشهير: “من دربك على الغناء؟”. فقالت: “مدرسة الموسيقى”، ناكرة وجود أحد موهوب غيرها في العائلة.
لم تذكر اسم أمها، لم تقل: “لقد نشأت على صوت أمي الجميل صاحبة الذوق الفني العظيم”، لم تطلب بإصرار الأطفال السماح للأم بالغناء ليسمع الجمهور صوتها الاستثنائي. كابنة عاقة ناكرة للجميل لم تذكر فضلها.

بعد عودتهما إلى المنزل، حبستها طوال الصيف في غرفتها، ومنعتها من الغناء. حولت أوراقها من مدرستها إلى أخرى أزهرية، تفاجأت بالمدرسة الجديدة بعد اعتقادها بانتهاء سجنها. لم تكن تفهم علامَ تُعاقب؟ برر والدها في مكالمة هاتفية أن المدرسة الجديدة أفضل وأنظف وأغلى.

مبكرًا، استوعبت زينة اضطراب أمها. كثيرًا ما رأت الغيرة في عينيها كلما أثنى عليها أحد، وتابعت بصدمة متجددة محاولاتها المستمرة لإذلالها وإحراجها، لقد حرمتها من كل شيء حتى الاحتفاء بأنوثتها الصغيرة. لم تستعمل زينة الفوط الصحية كصديقاتها، صممت أمها أن تستعمل الفوط القطنية وتغسلها بنفسها. كان مشهد امتلاء الحوض بالدم الداكن يرعبها، ولا تغادر رائحته يديها. كذلك لم تشترِ لها حمالات صدر جديدة حينما برز نهداها، وجعلتها ترتدي حمالات صدرها القديمة بعد أن ضيقتها بألوان خيوط غير مناسبة.. مقسمة إن الأنواع المنتشرة في الأسواق تبرز الصدر أكثر، وستصبح منفرة بجسدٍ غير متناسق إن ارتدتها. أما الغناء، فحُرم تمامًا، واكتفت الصغيرة بتحريك شفتيها أمام المرآة في أداء صامت.

لكل ذلك، كان من المتوقع أن توافق فورًا على أول شخص يتقدم لخطبتها. رفض والدها الذي عاد في النهاية مريضًا وعاجزًا عن الحركة بعد تعرضه لحادث؛ لأنها لم تكن تجاوزت #الثامنة عشرة بعد. بينما رفضت أمها؛ لأنها لم تتخيل أن تخرج الصغيرة من شرنقتها بهذه السرعة. توسلت لوالدها أن يوافق لتنجو، وبالفعل خرجت تميمة ذات يوم وحين عادت كانت زينة قد غادرتها إلى الأبد.

الساعة الثامنة، تُخرج من الفرن صينية بسكويت جديدة، يتصل زوج ابنتها، ترد متلهفة، يطلب منها أن تفتح التلفزيون حالًا.تدخل زينة مسرحًا مهيبًا مرتدية فستان قصيرًا، فتاة الثامنة عشرة تقترب من الثلاثين، بوجه مشرق وجسدٍ مشدود وشعر مفرود وثقة لا حدود لها. تنتقل الكاميرا إلى زوجها وأولادها الفخورين بها. تغني بحرية، تلتفت لها لجنة التحكيم مرة واحدة. بعد انتهاء الأغنية، يتوسل كل مطرب لها أن تنضم لفريقه، تختار المطرب الذي تحتفظ أمها بصوره وشرائطه في درج سري داخل دولاب المطبخ المحرم فتحه.
تعانقه وتخبره أنها تحفظ كل أغنياته منذ طفولتها، تبكي تميمة أمام الشاشة بحرقة، تقول: “بنت ملعونة وجاحدة”. تبصق على التلفزيون، تغلقه في اللقطة التي تنظر فيها زينة للكاميرا وكأنها تنظر إليها هي.
تعود إلى المطبخ، تضع شريطًا مكتوبًا عليه “تميمة 98 ــ غريبة منسية” في الكاسيت القديم الموضوع على الرخامة، تستمع إلى صوتها بإعجاب وتحسُّر، تتذكر فشلها القديم المتكرر في اختبارات الإذاعة، وتفتت البسكويت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية 
من مجموعة “فئران أليفة” تصدر قريبًا عن دار المحرر 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب