محمد العنيزي
-1-
تحتويني القاعة الفسيحة ذات الأعمدة الرخامية… وأنا أقلب في التذكارات القديمة، يتلاشى كل شيء من حولي، الموظفون ذوو القمصان الأنيقة وربطات العنق، الكراسي المكسوة بالجلد الأسود، أصص نباتات الظل التي تزين الزوايا، الثريات المتدلية من السقف، كلها تتلاشى، خطواتي تثاقلت عند السلالم الرخامية المفروشة بالسجاد، صرت أنا وحدي أرتقي السلالم المؤدية للطابق العلوي، (أنا العاشق حتى الوهم … تحط حمائم القصائد فوق شباكي المشرع في وجه الليل، وتغفو حتى يصير الأفق بلون الفجر، أحمل بداخلي تفاصيل حكاية لم يخبُ نورها، أزيح السد عن نهر من الحنين فيتدفق، وأنفخ رماد سنين تراكمت فوق جمرات الحكاية).
أتنبه لوجودي أمام الواجهة الزجاجية للممر، أتأمل انعكاس صورتي على الواجهة، (وعلى واجهتي الداخلية انعكاس ملامح امرأة أسكنتها نبض الحروف في القصائد، وكنت أراهنها على الحب والعبث واشتهاء الحضور في عتمة الغياب، كنت أنا البحر في هياجه، وكانت هي الصخرة التي تتكسر فوقها أمواجي).
يبتلعني المدخل، وأنا أدعي الثبات والهدوء، وأتمسك بنبضات قلب كادت أن تنفرط، المكتب الثالث إلى اليمين، طرقت الباب، ودلفت إلى الداخل.
- صباح سعيد.
- صباح الخير، كيف حالك، ما هي أخبارك؟
هكذا ترد (سلوى) وهي تستقبلني من وراء مكتبها، ترتدي ثوب زمن كان طافحاً بالبوح والمحبة، (يا موسم العشق الذي هجر مساءاتنا الجملية، موحشة قلوبنا وهي تفتقدك، تائهة نظراتنا حين تحدق في الفراغ وتبحث عنك).
هي لم تتغير، السنوات انفلتت من بين أيدينا، تغيرت أشياء كثيرة، تغيرت أنا، وهي لم تتغير، عيناها صافيتان، نظراتها آمنة، و قلبها طفل صغير، تنساب الذكريات في هدوء المكتب الصغير، وأنا أجلس قبالتها، تتكثف حواسي وأنا أستمع إليها، تسألني عن أحوالي، تحدثني (وأنا أتخذ من رهافة العينين مدى لانطلاقي فأصير في براح نبع يروي الضمأ المستوحش في داخلي، ثم أرتد ثانية، فتتحول عيناي إلى كاميرا تسجيل تلتقط دقائق قسماتها، تختزنها، حتى أستعيد الصورة بعد أن أخلو لنفسي وأدون اعترافاتي فوق طاولة الليل).
تشتعل الرغبة بداخلي في أن أضمها مثل حورية رائعة، أحتويها فتسكن في روحي، وأسدل فوقها ستارة من دفء العواطف.
أقول لها :
- ليس في العشق خيار
- تلامس كلماتي وجنتيها وهي توافقني الرأي، ويشتعل فيهما وميض خجل أعرفه، نغرق في بحر الحكايا، وتسألني بنبرات صوت أدمنت سماعه :
- – ما هي أخبار كتاباتك الجديدة؟
- لا بأس، ثمة أعمال في طريقها للنشر
أعدها بأن أكتب لأجلها نصاً رائعاً، تفك ربطة شَعرها المثبت في ضفيرة واحدة، فيسترسل واضح النعومة، ثم تعيد لمه وتسألني:
- ومتى ستكتب هذا النص؟
- قريباً، قريباً سأكتبه
(سأكتبه وقت اكتمال قمري، سأكتبه في لحظة انشطاري نصفين، نصف يعشق ونصف فوق ضفاف الشوق يموت، سأكتبه لأجلك، ولأجلي أنا أيضاً، سأهديك نصاً يمتص وحشتك، لتقرئيه على مهل، وتبصريني واقفاً بكامل هيئتي وراء الكلمات، سأكتب أنني سفير الزهور إليك، أحمل شذى وياسمين، وبذرة ألقيها في براح وجدك، لتنبت زهرة وحيدة في العالم تشبه حكايتنا، سأكتب النزف والشوق، سأكتبك أنتِ كما أعشقك).
- وتنشره في أكبر الصحف؟ تسألني.
- أجل بكل تأكيد سأنشره في أكبر الصحف.
-2-
بعد أن غادرت المكتب الصغير، ووعدتها أن نلتقي ثانية، صرتُ مثل صياد يلقي بسنارته، كنت أجمع كلماتي، كلمة، كلمة، وأبحث عن كلمات تحتمل إدمان الجرح، دون أن تعجز عن قول الحكاية.