أكرم محمد
تنحاز رواية “الأشجار ليست عمياء” لشيماء هشام سعد، والصادرة حديثاً عن دار “دون” للهامش، للقضايا الإنسانية وذاكرة العالم الحزينة، لشخصيات تحمل هموما تسكنها ثنائية الخاص/العام.
تفتتح الرواية بنيتها الدرامية بحدث قتل كلب أحد أقارب المحقق المصري المهاجر “إلياس” من شبح زوجة العم، هكذا يبدأ النص بأربعة مستويات لاستقراء الهامش.. العم العجوز الوحيد، المعبر عن همومه الشخصية وتعبيراته عن موقع الإنسان من الوحدة والفقد، يقطن بيت معزول بريف في مهجر، و”إلياس” محقق يقوم بأول أعماله كمحقق، والكلب المُقدم منذ الافتتاحية كبنية دلالية للموت والتهميش، وأخيراً شبح زوجة فلسطينية.. يحقق النص ذاته في دخول أحد السكان الأصليين لأمريكا للمشهد الروائي المتضمن لإلياس وعمه والكلب الميت، قاطفاً البرتقال، كرمز لفلسطين، في تقارب بين قضيتين إنسانيتين، هما القضية الفلسطينية وقضية السكان الأصليين لأمريكا.
تستنطق شخوص النص فعل الترميز، وتجرده من سيمائيته لبنية شخصياته، وفضائهم المكاني، فتتجلى المفاهيم السياسية والفلسفية في كل شخوص النص، بدءاً من الماضي واستقراء الذاكرة والسلطة الأبوية، المنجلية في شخصية زوج “حبهان”، وابنته “أمنية”، التي تعاني من السلطة الأبوية نتيجة لتصور خاص عن ماضي أبيها الذي عاناه مع أمه، فتقع تحت تصورين خاصين للسلطة، بين الرؤية المرتبطة بموقع الإنسان من نشأته متمثلة في السلطة الأبوية، وبين سلطة إسرائيلية لا يعطي لها الصوت السردي لـ”أمينة”، وكاتبه الضمني بالًا، على نقيض باقي الأصوات السردية في مروية التهجير حتى “إلياس” المهاجر من مصر، ربما لا يهتم الكاتب الضمني عند “أمينة” بالقضية لهشاشته، وتضفيره مع سلطة أكثر خصوصية هي سلطة أبوية تتجلى ب”عبود”.
يقدم النص شخصية “يوسف يوسف”، صاحب الفضاء الدلالي العام لعلاقة الإنسان بوطنه، فيرى في أخته وطنًا موازياً، ويؤسس موقعاً إلكترونياً للكتابة عن تاريخ بلده فلسطين، التي لم يزرها يوماً.
يمارس النص فعل التعرية على مستويين في البنية الروائية، فتتضفر البنية الدرامية مع الكتابة السينمائية ممارسة فعل التشويق، المؤثر في البنية الروائية للنص، وتتحقق القدرة الحكائية بتحقق كشف الذاكرة، كقضية إنسانية توازي القضايا التي يتناولها النص، مبتعدة عن التأريخ الموازي المباشر للقضية الفلسطينية المعتاد، باعثة من الفن أساسا له، بحركة سينمائية تبتعث الحكاية كباعث لفعل التعرية.
تقدم شخصيات شيماء هشام سعد ذواتها، من خلال ضمير الأنا، وتعدد الأصوات السردية، تلك التي تنضح بشاعرية، في مروية تطرح نصاً تسجيليًا يهب شخوصه تأريخًا ترميزيًا موازيا للقضية الفلسطينية، والمفاهيم الفلسفية العامة، كالفقر والوطن والسلطة والموت..
تشكل مروية “حبهان” الجانب الأكثر شاعرية، وتعد تأريخا لجيل لم ير بلاده ولم يسمع عنها إلا في المخيمات، كذلك تمثل المفاهيم الفلسفية والإنسانية العامة؛ فبعد فراق الجد تُذبح القطة؛ لتأكلها العائلة، كترميز لحيونة الإنسان والفقر والفقد وثنائية السلطة/ المحكوم ( المظلوم) وموقع الإنسان من الخيانة، كفعل يجرد ليُؤَاخى مع الأحداث السياسية التابعة لذاكرة حزينة تنعيها التغريبة، فيذكر الراوي بضمير الأنا، شخصية حبهان، خيانة لبنان لفلسطين قائلاً: “كان أبي يقول إن الصهاينة وحكومة لبنان تكاتفا ضدنا؛ الحكومة لأن تعداد الفلسطينيين كان يزداد ويشكلون قوة ضاغطة ومؤثرة في القرار السياسي، والصهاينة لأن جيش منظمة التحرير الفلسطينية الذي يقيم في المخيمات كان يشكل تهديدا لهم، لم أفهم ساعتها كيف”.
هنا، وبالطريقة التي يمارسها النص منذ بدايته، تظهر ممارسة شيماء هشام سعد لثنائية الخاص/العام، ممارسة تعرية تأريخية للنكبة الفلسطينية، وتعرية الفضاء الدلالي، طارحة مستويين لاستقراء التأويل، واهبة نصها بعدا آخر من التناص الدرامي بين حادثة خاصة لمقتل قطة؛ لشدة الفقر والاحتلال الصهيوني، وخيانة شعب عربي لشعب شقيق؛ لسيطرة الاحتلال الصهيوني، ويربطهم فعل الخيانة.
تتلاشى المدن، تغادر البلاد بوجودها المجرد ذاكرة العالم، وتقطن ذاكرة شخوص وحكايات النص، فتشكل فضاء مكانيا رمزيا يشترك في ثنائية العام والخاص لاستقراء دلالة فعل الترميز، متحررة من كونها مسرحًا معتادًا للأحداث، بين النص البوليسي الموازي المروية المشحونة من ذكرة أبطالها، كذلك تمثل الأماكن شخوصها.. يبدأ النص بأحداث تقترب من النص البوليسي في أمريكا، مربض الرأسمالية والنمط المعتاد للاغتراب، ثم انتقل لفلسطين والمخيمات، نقيض الأرض الأمريكية، والخالقة عدة ثنائيات معها.. ثنائيات تشترك فيها الذوات مرتبطة بأماكنها، فشخصية «حبهان» يتغير مسار حياتها وإيقاع صوتها السردي وشاعريته مع تركها المخيمات، وشخصية «يوسف» يرتبط وجدانها بالوطن، كتعريف لعلاقة الإنسان بوطنه، كذلك ترتبط بأخته ذات الاعاقة والود، المشابهة الوطن ذاته، «فلسطين»، فيستنطق النص فضاءه المكاني وتضفره مع شخوصه بتحقيق استنطاقه لفعل الحكي، ذلك المرتبط بقدرية تطالع شخوص النص كدلالة، وتطاردهم لتحقق المروية الإنسانية
كرواية “أم سعد”، للفنان الراحل غسان كنفاني، يسعى النص للإفلات من التجنيس والتصنيف الأدبي، لتحضر فيه البنية المسرحية، مرتبطة بالمشهدية والسينمائية، كذلك البنية القصصية، بتكثيفها السردي والترميزي المعهود، واحتفاءها بالحكاية الهامشية، تلك المنبثقة لتوازي فعل الحكي ذاته، والطارحة تعريفه كحياة، كذاكرة ضد الرصاص، والزمن.
تحقق العلاقات الإنسانية مفهوم الحكاية، فتزهر الحكايات بوجود علاقات تتضافر مع مفهوم الوطن والفقد، لا يتكلم أبو «حبهان» إلا بعد لقاء رفيقه «صادق»، فتكون الحكاية، في تجريدها، باعثًا لتشييد علاقات إنسانية تشارك في البنية الروائية