محمد فيض خالد
العيش والملح
في صَبيحِة َيَومٍ تكاثفَ ضَبابه عَثرَ الأهالي على جُثةٍ لرَجلٍ خمَسيني في كَاملِ أُبّهتِه، مُلقاةٌ بجوارِ أحَد الحقول، وبالتَّحري وجِد أنهَّا تَعوُد لعبد القادر عوض من أعيانِ الناَّحية، استدلَ الطبيب الشَّرعي في تقريرهِ بأنَّ القتيل ماتَ إثر تَعرضه لضَربةٍ بآلةٍ حَادة في الرأسِ،اتّسعت دائرة الاشتباه فالرجل تاجرٌ معروف وله أكثر من غَريم.
عَاشَ القتيل حياته مَدينا للحَظِّ الذي شَكّلَ مسار حياته، وفتحَ أمامه أبوابا مَرَّ من خلالها للثراءِ الفاحش، فحياته الأولى كئيبة لا تُطاق، يَضربُ طوال يومه بمطرقةٍ من حَديدٍ فوقَ أعجازِ النَّخل نظير قُروشٍ قلائل،امتهنَ هذا الشَّقاء بعد أن ضَاقت عليه الأرض بما رحبت،هو عَائلٌ لُأسرةٍ متوسطة من ثلاثِ بناتٍ وزوجة لا ترى من دُنياها إلاَّ حبه،ولا ترضى عنه بكنوزِ الدنيا بديلا، لا تفتأ تحمد الله أن جَمعها تَحتَ سَقفٍ واحد، ما إن يَعودُ من عَملهِ حتى تتَلقاهُ بالترحاب بالبشر، تهش فوق محياها العذب ابتسامة شفافة قانعة بحياتها،تأوي بين يديهِ لركنٍ من الحُبِّ ركين.
تَتحسّس كتفه وهي تَمدّ إليه كوب الشاي، تقول في شَفقةٍ:” غدا يأت الفرج، لا تيأس من رحمة الله”،يُقابل نبرتها بالتفاتةِ رقراقة، قبل أن يُعاجلها بقبلةٍ دافئة يطبعها فوق جبينها،يتَمنَّى لحظتها امتلكَ خزائن الأرض، إذن لجَعلَ من هذه الحبيبة الصابرة ملكة مُتوَّجة،ولصَبَّ عليها من مباهجِ النَّعيم صَبا،اختارته ” نفيسة ” دون غيره من الرجال الذين تهافتوا عليها، هو فقيرٌ مثلها، والفقير يَحنُّ لمثيله،مسكين تَوزَّعت حياته بين أسفارٍ بعيدة، يَضربُ في فِجاجِ الأرض ليعود إليها بعد سنواتٍ، ألِف التِّرحال وأِلفت هي الصَّبر واستهواها الانتظار، تقنع نفسها بأن غدا أجمل، وعلى الزوجة الوفية أن تصبر على متاعب الحياة وتُسانِد زوجها.
تَبدَّلت أحَواله بعَدما ذاقَ من سَعةِ العيَشِ وأطايبه، فابتنى دارا كبيرة على مَشارفِ القَريِة، وتوسَّعت تجارته وراجت، وابتسمَ له الحَظُّ بعدَ طولِ عُبوسٍ،فأغراه لأن يَتنكَّر لوعودِ الماضي وأحلامه، لا يكف عن الشِّكايةِ والتَّبرمِ، يَلعن حَياته التي بََخلت عَليهِ بالَهناءةِ وراحة البال،يلقي على مسامعِ المرأة في كُلِّ يَومٍ ما ينغص عليها عيشتها،ساءت أخلاقه، وانحرف مزاجه، يَتصاعد دُخان غضبه لأتفهِ الأسباب، يَحتدُ عليها في تَوبيخٍ فاحش يحطَّ من قدرها، ينهي حديثه دائما بما يبكيها:” اهتمي بنفسك مثل باقي النساء، أنا لا اصبر على هذا الإهمال، أنت امرأة كئيبة، الحياة معك لا تطاق “،لازمت الصَّبر، وانكفأت على نفسها تجتر آلامها في حَسرةٍ، لا تهتدي لحلٍ مع الزوجِ المتمرّد، جَرَّبت كُلَّ وسيلةٍ عَلّه يرتد لصوابهِ لكن ذهبت هباء، انقطع ما بينهما، وتَحوّل عنها، أصَبحَ شَخصا آخر لا تعرفه، تَمادى في غَيِه، وجَاهرَ بعنادهِ، أدمن السَّهر خَارجَ البيتِ فلا يعود إلّا مع بناتِ الفجر، عَاقرَ الشراب وتَعوَّدَ لعب الورق في شَرهٍ لا يفيق منه، أهملَ أشغاله وتَفرَّغَ للعَبثِ في بيوتِ الهوى عَلَّه ينسى أوجاعه كما يزعم.
بعد مدةٍ تَغيَّرت نبرته، وعلا تهديده،يُلوحُ غيرَ مُكترثٍ بالطلَّاقِ، رأت المرأة في عينيِه إشارات الغدر، فعزمت على البت في أمرهِ،ائتمرت عليه هي واخوتها من غَيرِ تَرددٍ، دبَّروا الخَلاص منه بليلٍ، استدرجوه للُحقولِ في سَاعةٍ مُتأخرة، بعد أن دَسَّوا عليه فتاة ليلٍ أغرته، اجهزوا عليه جميعا، تناوبوا على ضَربهِ حتىّ فَارقَ الحياةَ، تركوه في مكانه حتى عثر عليه.
***
ملف سري
رأيته أول مرة في كامل أبهته،يتألق في هندامه،وابتسامته تنساب تغالب برودة المكيف في صهللة أخاذة، يتقبلها المارة بقبول حسن، بطلنا تجاوز الخمسين بقليل، لكن أجمل ما فيه روحه المتمردة على الزمن واستخفافه بسنواته، في عناد يقاوم جريانها،ويغير وجهتها لو استطاع،يتبدى جليا في شعره الكثيف الغارق في صبغته، حافظ ” حسن النوبي ” على أناقة الماضي بكل تفاصيلها،حتى وإن بدت على غير هوى الحاضر الفوضوي، يكفر صاحبنا بتقاليع الشباب، يستعيض عنها باستسلام تام لألوانه المعقدة، لا يقبل التنازل عنها ولا يساوم،في هِمةٍ ودأب،يَملأ يده بحزمِ الورق،مرات يُطالعِها في انهماكٍ، ويبرمها مرات، يُناور لإخفائها عن الأعين،لكنه رغم هذا لا يستنكف عن التّرددِ على مكتب المدير، هذا يومي الأول في العمل، حياني بابتسامة جنوبية غائمة، اطال النظر في ذهول، قبل أن يعاود التحديق ثانية في حافظة أوراقه الحمراء الحبلى من كل صنف، منذ ساعاتي الأول ومئات الأسئلة تزايل وجهه الأسمر المغضن،لكنه يجفل من الاقتراب، ربما لفارق السن، وربما أنفة مصطنعة، يبديها لمن حوله،لكن تحفظه يخونه في الأخير، فيندفع على عماية وارتباك، يلقي ببصره في تلصص محموم، يتتبع خطواتي خاصة أوان مروري بين الموظفين لمتابعة بعض المهام،عندها فقط يخرج عن وقاره، وينفض عنه تحفظه، يتحرق غيظا، ينهر الفراش البنغالي بغلظة، لقد تأخر الملعون عن احضار كوب حبة البركة المغلي، يطلق عقيرته في نشوة المجرب؛يعدد فوائد هذا المشروب السحري على المفاصل، وكيف أنه يقوي الباه ويعيد الشيخ لصباه،ثم يترك الحبل على الغارب ليستغرق في حديث فاضح، يذكر أنواع النساء ومزاجهن في الفراشِ،ينَخرطُ بعدها في ضحكٍة صارخة، يَستفيقُ سريعا من غَفوتهِ، ليبدأ في تَمجيدٍ ذاته، يُؤشِّر بحافظةِ أوراقه في الهَواءِ، قائلا:” موظفين آخر زمن، الله يرحم أيام زمان!”.
ثم يواصل برطمته في لكَنةٍ نوبيةٍ حَادة، يَفركُ في كرسيِه كالمَحمومِ،لم أكن لأعبئ كثيرا لتَهورهِ واندفاعه،لم تنقطع عنه الهواجس، تزداد وطأتها حين تنهال عبارات الثناء تشهد لي بالكفَاءةِ،تَفورُ فورته يكاد يَتمَّيز من الغيَظِ،يدقُ دقات مُتواصلة على مَكتبِه، يَغيمُ وجهه كالمغشى عليه من الموت، حاولت أكثرَ من مَرةٍ أن أُسرَّي عنه، اتَلطَّف به أحيانا، وأحيانا اُجالِسه مُصحوبا بأكوابِ الشاي، لكنه يُزمجرُ كهرٍ مُتحفز، اعرف يا صديقي ما يَدورُ برأسك، واشعر بما يضيقُ به صدرك،مُؤخرا علا نقره فوق لوحةِ حاسوبه، جعلها سلواه، يقترب من شاشته المكورة، يهز رأسه في انتشاء،يرن هاتفه، يستدير بكرسيه سريعا، وقد اتصلَ بحديثٍ باسم مع من حوله، يجلدني بعينٍ حَمئة، لا افهم من كلامه غير بضع كلماتٍ استجليها بصعوبةٍ،تلتقطها أُذني في شَغفٍ، حَاولتُ كثيرا فكَّ شِفرتها، يقول في ضحكةٍ متهللة:” يا شيخ، قول والله العظيم، يخرب شيطانك “،في الأخيرِ عجزتُ عن مجاراته فاهملته، زادت شهيته، انبرى في حمَاسٍ يَستعرضُ أفكاره على الملأ لتطوير العمل، يُمرِّرُ راحته في ارتياحٍ فوقَ حَافظةِ أوراقه،يُعلنُ عن أفكارهِ التي حَتما ستغّيرُ خَارطة العمل بالوزارة، يُهاتِفُ على الفورِ مكتب وكيل الوزارة يلح على سكرتيره في شجارٍ؛ كي يضربُ له مَوعدا.
انقضى أسبوعا بالتَّمامِ فلم أعد اسمع صوت صاحبي،رأيته مهموما على غير عادته، قابلته بالقرب من دورات المياه يجر رجليه في انهزام، حييته فأجاب التحية بإيماءة لطيفة،انطفأت حماسته، انزوى في زاوية، مكتفيا بروتين يومه الذي يبدأ بشجار مفتعل مع الفراش،وأحاديث الهاتف بتلك اللغة المشؤومة، خلا مكتبه أخيرا من حافظة أوراقه،وتوقف عن نقره فوق لوحة الحاسوب،لكن اللافت أنه انصرف عني في تعمد،بيد أنه بين الفينة والأخرى يرفع عقيرته في استهزاء صريح بسعادة الوكيل، الذي لا يقدر الكفاءات ولا يرعى الخبرة.
***
أرخص حب
اعتدلت في وقفتها تمسك بالفرشاة، تُمررها من فَوقِ خُصلاتِ شعرها الكستنائي المُرسل فوقَ كتفيها المُكتنزين كابنةِ العشرين،في حَسرةٍ ولوع تشخص ببصرها، تمُصمص شفتيها في استعبارٍ وفَقد، تتَحسّس بيدٍ مُرتعشٍة وجهها الغَارقُ في شُحُوبهِ،تُحرِّكُ سَبابتها فوقَ خُطوط ٍسُود مُهتزة، نَحتت طَريقا في قَسوةٍ فوَقَ وجنتيها،ألقت عنها الفُرشاة في ضَجرٍ،لكنَّها عاودت في استسلامٍ تَتفرّس تفاصيل جسدها، تتَحسّس لحمه المتُرهل في انزعاجٍ،تَحرَّكت ناحيةِ النَّافذةِ وهي تتَرنَّح، وكَأنَّها تُطالع كتاب الفضاء المُسَّجى في رَماديتهِ الخانقة.
تزوجت ” سميحة ” من ” حسن مرعي” بعدَ قصِة حُبٍّ بدأت من طرفهِ، وانتهت بزواجهما،صغيرة تَعلَّقت به، انجذبت لعطفه، وذاقت من قَلبهِ شهدَ الأيام،وفي المقابل أكَبرَ فيها عِفتا وطهارة ذيلها، كانت حديث المجالس،وفاكهة الجِنان التي يتحاكى عن حُسنها القُصَّاص، تطوف فتنتها في جُموحٍ بَخيالِ كل فتى يُقِّدرُ الجَمال ويَعرف مقدار الملاحة، حَباها الخالقُ جسدا آيته قد اكتملت، صُبّت في قَالبٍ طري لين،سَمهري خمري تستطيبه الأعين وتشتهيه الأنُفس،وعينان غلفتهما أهدابٌ مُزججَّة بكُحلٍ يُسكر العقول،وضحكة تَتفلّت في ونَسٍ يَصهرُ افئدة أعتى الرجال، مئات تمنوها زوجة وخليلة ولكنها استعصمت.
اسقطها قدرها في عصمِة ” حسن ” موظف الجمعية الزراعية، ارتضته على عيَنٍ، اتصل بأواصرِ صَداقٍة بأخيها،ورغم مرضه المُبكِّر، وشكواه المُزمنة التي نغصت حياتهما، لكنَّها تفَانت في حُبِّه،عَاشت تُمنَّي نفسها بحياةٍ هانئة، زوجة وأمّا وحبيبة يضمها عُشٌ هادئ، انسلخت الأيام لتتفاقم عِلته، وتَنتكسُ صحته، عندها فقط شعرت بالقَلقِ، وحَامت من حولها الهواجس الثِّقال،خَاصةً وهي ترى أحلام الأمس تتبخر من يدها،التهم الموت رجلها،لتغَيم الدنيا في عينيها،تُراقبُ في رَوعٍ شمعةَ جمالها تنَصهرُ عبثا، تُلقي بها في جُزرِ النسيان،كانت كبقيةِ النساء تتنازعها رغبات،ففي كُلِّ يَوم ٍتحس بالحرمانِ يتفجَّرُ ليحرقها،فهذا العنفوان لابُدّ وأن يجد مصَرفا.
في هاتهِ الأثناء ظَهرَ صديقٌ للمرحوم، داوم على زيارتها، تَعلَّل بالصغارِ، لكَّنه في الحقيقة يُقاومُ انجذابا نحوها،استسلم في الأخيرِ لترياق الُحبّ،وجدت فيه صَفيا كتوما، تعاطيا سويا صُنوف الهيام، بعدما ألقت بنفسها في بحارهِ، تعَرض عليه المُتعةَ، وهو في أشدِّ الحَاجة لتلبية نداء الشيطان،داوما على إثمهما لا يفيقان منه حتى يعودا فيه، ورغم استسلامها له لكن رغبته فيها قد ذبلت، أصبحت في نظرهِ رخيصة مبتذلة ما أسهلها،لم يخل لقاءهما من توبيخٍ وربما مدّ يده بالإهانةِ،حَتىّ كانَ يَوما لم يطرق بابها،تعبت في السُّؤال عنه، لم يقطع أحدٌ برأي، مرَّت أيامٌ طويلة مليئة بالكآبةِ،تُؤمّل في رُجوعهِ،لكنَّه هجرها للأبدِ،وهَا هي تنتظر منذ سنواتٍ أمام مرآتها عَلَّه يعود.
***
بنت إبليس
مُذ كانت صغيرةً تتبع خطوات والدها، تَجلسُ فوقَ رُكبتيهِ وسط أصدقائه في المندرة، دون أن تحسب لتوبيخ أمها حساب، وهي تُقدِّر جمالها، تَغترُ بمسحةِ الحُسن التي وهبها الله دون إخوتها، في العاشرةِ عَرفَ الشبابُ ” شروق “فتاة لعوب ناضجة،تتشهاها الأعين، وتتمناها الأنفس، تَعلمُ قدر بضاعتها، وتجيد في سبيلِ ذلك فنون المساومة، لم تستشعر الرهبة يوما، وهي ترى أعين أعينهم الجائعة تلتهم جسدها بلا استئذان،لم يغب عن بالها لحظة أن الفقراء أمثالها سلعة مهملة، يَتسلّى بها الأغنياء رَيثما يلقونها حيث كانت،هي عندهم نزوة، طيش وتهور، وذنب يستغفر، لا تصلح لغير هذا، مشاعرهم المزيفة، وكلامهم المعسول الملقى تحت أقدامها، أكذوبة مُلفّقة، لم تصدقه يوما، من أعماقها تكره هؤلاء أيَّما كُره، تتمَّنى يوما تُذيقهم سوء العذاب.
حتى وإن أبدت تجاوبا في مراتٍ، لكن هاجسا يقمعها، يُحذّرها أن تُسلب أعزّ ما تملك فتاة، رأس مال لا يمكن استرجاعه، منحتها الأيام الفرصة كي تُراوغ، ما أبهجها كلَّما سَالَ لُعاب ضحاياها، تندفعُ في طريقها لا يكبح جمِاح غرورها شيء، لم تأخذ بنصيحةِ أمها وهي تنذرها سوء العاقبة، تردّ عليها في تَبجحٍ:” أليس هذا الجمال رزق من الله، يجب أن نحيا به، أم أن الفقير ليس له من دنياه غير المهانة والشقاء “، مشت مع الأيام وفي كل يوم تسقط أكثر، تنغرسُ قدميها في مُستنقعٍ لا تخرج منه، جَنحت بها الغُواية فأسلمتها لأيدي إبليس، يلقمها ثدي الرذيلة، تَمرَّست الفتاة في فجورها، كَانَ ” مدكور ” كبش فداء، هو شابٌ من فقراءِ القرية، جَرَّته إليها بعد أن أوهمته بالحبِّ، فانحرفَ قلبه، اشترطت عليه الزواج فارتضى دون تفكير، ظنَّها تطلب سترا،لم يهتد لحيلتها، ولا لحبها المزعوم وهي تتخذه حِجابا مستورا، تُمارس من خلفهِ انفلاتها، بعد حينٍ عادت لسيرتها الأولى تُراوغ العشاق، و تُماطل طالبي الهوى،حَاولَ صَدّها عن السَّبيل، مُذكِّرا إياها بحياِة الشرف، لكنَّها صَمَّت وعمت، ووضعت يدها في يد شيطانها، الذي نَفخَ في صدرها نفخة العَربدة، فامتلأت جرأة لتفعل ما تشاء.
هذه المرة كانت أشدَّ قسوة، اغترفت من الإثمِ غرفة طاش لها عقلها،أغراها العشاق بالمال، واغدقوا عليها ما ضاعفَ لذتها، لتشتبك الخيالات في عقلها، وتتلاحق الصور، فظنَّت أنَّها الوحيدة التي بيدها مقاليد الحسن ومراتب الجمال،كان عليها أن تهمل الزوج والبيت، وتتفرغ لدنياها الجديدة التي لا تَفيق من خَمرها ليل نهار،فَجأة ذبلت نَضارتها، دَاهمها الهُزال، باتت بين أنيابِ المرض، تكاد روحها تفُارِق جسمها النَّحيل،انصاع في الأخير لرغبةِ أبنائه فَذهب ليعودها، وما إن رأته حتّى فتحت عَينين انهكهما المرض وكَحلهما الإرهاق، تمشّت على شفتيها بسمة واهنة، حَدَّقت فيه بنظرةٍ مُنكسرة، لتقول بصوتٍ هامس:” سامحني “، زَحزحت كَلمتها بالألمِ نفسه، كَادَ مشهدها أن يستلّ روحه من بيِن أضلُعهِ، ظلَّ في مكانهِ يُغالِبُ ألما، تخنقه العبَرات، يُفكِّر وهو في غَمرةِ الألم أن يعيدها إلى بيته، طالما كان هذا الأمل الوحيد لإنقاذها لتستعيد عافيتها،انحنى دون وعيٍ فوقَ وجهها الشاحب يُقبّله في خُشوعٍ،حَدجته في تَهللٍّ ورضا، ثم أغمضت عيناها، امتدت يد الموت فقطفت الثمرة، كانَ هذا آخر ما جَادت به، تَراجع عَنها وقد اخضّلت عيناها بالدموع، يَطلبُ لها الرحمة والمغفرة.
****
الفرن الملعون
يَتبَاهى ” مسعود الفنجري” في ثقةٍ مُفِرطة،يُمصّمصُ شَفتيِه في الأخيرِ، ليقول:”العبد لله أول من أدخلَ الكنافة لقريتنا المنّحوسة “، تلك حقيقة لا ريبَ فيها،فالقرية لم تَعهد مثل هذا من أصنافِ التَّرفيهِ، وأهلها أبعدَ ما يكونوا عن مَظاهرِ التَّرفِ، التي يعتقدون جهلا وبهتانا، أنَّها تُفسِد عليهم أخلاقهم، بل وتُنافي مظاهر الخُشونة التي تَدوم بها النِّعم.
لكنَّ للأمانةِ استطاعَ ” مسعود ” التَّمرد على تلك التَّقاليد البالية،وكَسرَ عُرفَ الأولين والآخرين، واستجابَ لنوازعَ الغريزة التي تَدفع الضِّعافَ دفعا من بنيّ الإنسان،أن يذوقوا النَّعيم، حَتّى وإن مَسوه مسَّا.
هَبَّ من نَومهِ ذَاتَ صبيحةٍ والعزم يَملأه على غَيرِ العَادةِ،جَهز حماره قاصدا ” كوم الأشراف” وهي قريةٌ كبيرة،مَشت في أهلها رُوح التَّحضر،وفي معايشهم تقاليع المدنية والأُبهةِ، فتعاطوا في مآكلهم ومشربهم ما لم يسبقهم إليه أحدٌ،أُضيئت منازلهم بالكَهرباءِ، وامتلأت بالدَّكاكينِ التي اكتظَّت أرففها بصُنوفِ البضائع المَجلوبة من البَندرِ، وعَرفَ بناتهم طريقا للمدراسِ والجامعات،في هَاتهِ الأثناء لم يَكن ليَخطُر على بَالِ أحدٍ من دُهماءِ القرية، أن يَفزعَ صَاحبنا مثل فزعته هذه،التي تَوقدَّت فيها حَماسته،فمع كُلّ يَومٍ يَتردَّدُ على “مرتضى عبده “،صَاحب فَرن الكُنافة الأشهر في الزِّمام،يُقسِّمُ الرجل برأس جده، أن يكشف له السِّر، ويُطلِعُه على ما خَفيّ من مَخبوءِ المِهنِة، يتَذكَّر جيدا زمالتهما أيام العسكرية، يُديرُ يده بكُوزِ العجين فوقَ الصَّاجةِ،يقول في ابتهاجٍ وقد تَهلَّلَ وجهه:” كان مسعود رجلا بمعنى الكلمة، وعشرة عمر وابن أصول “، وحسب المُقرَّر وبعد أسبوعٍ بالتمام،بُنَّي أولَ أفرانِ القرية،و دارت يد ” مسعود ” بكُوزِ العَجينِ، وامتلأ على إثر ذلك الَّدربَ بدخانِ البُوصِ والَحطب، واختلط مُنذ الصَّباح ضَجيج النساء وثرثرتهن ببُكاءِ الصّغار وتلهيهم من حوله،لا تُطفئ ناره من المشرقِ حتى المغَيبِ، فاضت البيوت بعجينهِ الشَّهي الذي طيّبته النار،وذَاقَ الناس الكنافة المحلاةُ بشرباتِ الورد،ليصبح ومن بعدها له الحظوة والقبول،يتزايد زبائنه في كُلِّ يومٍ،شَدَّوا إليه رِحالهم أسَرابا من كل صَوبٍ، يَحملونَ دقيقهم، تَراكم الحَطب ليَغرق السَّاحة، وتَراقصت ألسنة الدُّخان الأبيض في عَبثٍ، على وقَعِ دندنة صوته النُّحاسيّ الخَشن، بدى المَشهدُ غَريبا عن المكان الذي ظَلَّ دهرا، لا يعرف أهله من شؤون الدنيا غَيرَ فلِاحة الأرض والطّين،فلم يذوقوا من متعها غير ما يُقوّي أبدانهم على حَملِ الفأس.
انتعشت أحوال الرجل وجرى القرش في يدهِ،واُضيئت يد زوجته المتُصابية بأساورَ من ذهبٍ، وبَرقت عيون صغاره بالنِّعمة، بعدما جرت الدماء في وجوههم، وتبدلوا من بعد ضعف قوة.
لكنَّ ما أسرعَ انتكاسة الحَال وتبدلها، لم يتوقع أحدٌ يوما؛ أن تَسوء الأمور لهذهِ الدَرجِة، عندما صَحت القرية مَفزوعة على ألسنِة النَّيران، وقد التهمت أكوامَ الحطب في غَضبٍ، حاصرت المنازلَ القريبة لتاتي عليها في ثَوانٍ،اضَطربَ الناس وزلزلوا زلزالا شديد،وتَطاير الرَّمادُ في فوضى يعابث الوجوه،وانفجرت سُحب الدخان لتُغطّي كلّ شِبرٍ بطبقٍة سوداء كئيبة،ووسط أهوال القيامة تَنادى الناس في اهتياجٍ، وتَحركت ألسنتهم في غضبٍ تلعن ” مسعود ” المشؤوم الذي جرّ الخراب إليهم، وَروّعَ قريتهم المطمئنة،بقي الرجل في ذُهولهِ لا يصدق ما جرى، يُطاِلعُ بعين الأسف الفرنَ الذي اذابت المياه طينه،وجرفت ركامه، فتركته وحَلا تدوسه الأقدام،وكأنّه لم يغن بالأمسِ،بعدَ أيامٍ لملَمت القرية أحزانَ الأمسِ وجراحه، بيد أنَّ لعنة الفُرن لا تزال حاضرةٌ تُحاصِر الرؤوس،تُدور في كُلِّ ناديٍ، وبَقي ” مسعود ” نَذيرُ شرٍّ، وعَادت الحياة لسَابقِ عهدها من القَسوة والجَفاف،وكُلَّما تَشهّى صغيرٌ الكنافة، ذكَّرته أمه بالماضي الأليم، لتذهب بكُلّ لذٍة.
***
طيش
هو سليلُ عائلة عَريضة الَحسب مَوفورة الجَاه، تَمتدُ جذورها في تَاريخٍ حَافلٍ، ليسَ في القريةِ وحدها بل على امتدادِ الزِّمامِ، يتَباهى أفرادها أن جَدهم الأكبر ” الحاج خضر مفتاح ” كان صَديقا مُقرّبا لسكرتير الملك،ووكيلا لأعماله في الوجه القبلي، يشتري باسمِه حَدائق الفاكهة في المنيا والصَّعيد، قيِِل زارهم ذاتَ مَرةٍ الباشا، فكانَ يَوما مَشهودا،من بَعدهِ تسيَّدوا فأصبحوا زعماء الناحية، عَلا نجمهم،وذاقوا حَلاوة الثَّراء، تَرامت أفدنتهم تَحتَ عينِ الشمس بلا حِساب، واختلطت دماء أبنائهم في أنسَابٍ أعرقِ الُأسر من السادةِ والأشراف، فاجتمعَ لهم المال والعزوة، حافظوا على مكانتهم فلم تهتز عقودا
اُغرمَ قلبه بفتاةٍ لأُسرة مُعدمة،كاَنت بارعة الحُسن، مكتملة الإغواء، عَبثت بهِ مُنذ لقائهما الأول، تلاعبت بَعقلهِ فاستطاعت جّره إليها حتى اُسقط في حَبائلها، ليصبح من بعدها أسير جمالها، مُبكِّرا أحسّت الفتاة في العاشقِ ضََعفا فلم تُفوّت الفرصة واجهزت عليه، لم يتردّد في خِطبتها، خَاضَ مقاومة عائلية عنيفة، فأمثالها لا تليقُ بأبناءِ الُأسرِ الكريمة، استمات في طلبه حتى أتم الارتباط،ومن ساعتها أصبحت ” عزيزة ” حَظية الجاه والمال، وتحول أهلها بقدرة قادر أصهارا لأسياد الزمام.
مُذ وطأت أقدامها بيته فرضت سلطانها عليه، كما بسطت من قبل على قلبهِ جناح فتنتها، رويدا روضت رجولته، وكسرت أنفته، فانساقَ لرغباتها تبَعا لا يَلوي على شيٍء، يأتمر بأمرها فلا يعصي لها أمرا، لا يعرف فيها غير اللذة والتشهي،تراه مسلوب الإرادة وهو يُطالِعُ جسدها المُسجّى فوق الفراشِ كقطعةِ المَرمر المصقول،يَتمعّن مفاتنه ويَتحسّس أعضائه،وقد تَحلّبَ ريقه، وارتجفت فرائصه، يََهمسُ في أذنيها بأعذبِ كلماتِ الحبّ والغزل، قبل أن يغيب مأخوذا في قبلٍة طويلة، يُطوّف يجني فيها من بساتين روعتها،تصده حِينا، وحينا تُغرقه في بحارِ شهدها حتى يسكر.
لم يستنكف عن أن يجمع في يدها مقاليد الأشياء، تَتصرّفُ في كل كبيرٍ و صغير من شؤون البيت، أغراها الأمر لأن تجد مكانا بين رجالِ العائلة تبت مثلهم برأي.
استهجن الجميع جرأتها، وكرهوا في ابنهم دعته وخضوعه، لكنَّه لم يعبأ لتوبيخهم ولم يلتفت، فَتذرّع بغيرتهم منها وحسدهم له،لم تُقِّدر تفَانيه في إرضائها،ولم تكافئ العشق الذي سلبه كُلّ ميزة،وتركه شَبحا لا يقدر على شيءٍ،داومت على إهانتِه؛ليَعجز في الأخيرِ ويستسلم للأمرِ الواقع، لم تعد فتاته التي عَرفَ، حتَّى جسدها حرَّمته عليه، اللهُّم إلاّ لمِاما لتبتزه حِين تشاء، اكتفى الرجل بمحبةِ أبنائه يلتفوا من حَولهِ يواسونه،ويعنفون سطوة أمهم واستبدادها، لم تكترث لكل هذا، تُبرِّر تَصرفاتها المنفلتة، بأنَّ زوجها قد غَابت شمس شبابه بعدما داهمه العَجز، واستوطنت جسده العِلل،ومن الآن لن يستطيع أحد مَنعها أن تستمتع بحياتها، بالغت في زينتها،واندفعت كفتاةٍ في العشرين، تسحرها كلمات الغزل صريحة من أفواهِ الشَّباب، وترضيها نظرات عيونهم الجائعة تلتهمها، اعتادت الخروج من البيتِ في أوقاتٍ مَتأخرة،تناثرت الشائعات من حولها، وأذاعَ المُغرضون أنَّهم رأوها بصحبِةِ شابٍ يتسكعان في أحدِ الشوارع.
غَالبَ صاحبنا لوعة مكتومة، ومن حَولهِ أبنائه لا تكف توسلاتهم؛كي ترتد عن عبثها،وتَصون ما تَبقّى من كَرامتهم.
***
ساعة كاسيو
رأيتها أولَ مَرةٍ تُزيّن مِعصمه تَلمع في بَريقٍ أخَّاذ، كَانَ صاحبها حديث القرية وأنديتها، لم يُُعرف مثيله في أناقِة هِندامِه، وِرقة طبعه،لكنَّه اُبتلي بداءِ الحُبّ والظهور، يَتنقّل قلبه كَعصفورٍ رشيق في خِفةٍ من فَتاةٍ لأخرى،يَقولُ في نَغمٍ دافئ وهو يُحكِمُ ” استيك” ساعته “الكاسيو”:” القلب يعشق كل جميل، ألم تستمع للست؟!”،يعلمُ يقينا أنَّ لوازم الوجاهة مُكلِّفةٌ، وأنَّ مثله لابد وأن يبدو في أبهى حُلةٍ ورونق حسن،يمطَّ رقبته النَّحيلة، وهو يُحرِّكُ ساعده في رعشةٍ مُفتعلة، يُطَالِعُ الوجوه التي تَعلّقت بهِ، يَقولُ في زَهوٍ:” صناعة يابانية، لا تفسدها الماء، لا اشتري غير الماركات”.
تَفرَّغ للبَطالةِ بعدَ موت أبيه واستيلائه على ميراثِ أخوته القُصَّر، يَتلاعبُ به كيفما شاء، يَتفنَّنُ في الانفاقٍ على مَلذَّاته،الجلباب “السَّكروته”، النعال الجلدية الفاخرة، زجاجات العطر، عِلب الدِّهان، لكنَّه يَظل مَبهورا بساعتِه على الخُصوص،لا تُفارِق يده، يُمرّر طَرفَ جِلبابه في حِرصٍ مبالغ فوقَ باغتها،ثم يَلقي ببصرِه بعيدا في شُروٍد مُتصل.
في تَحرّره مَظنة الحياة الهانئة، لا يَلقي بالا لتوبيخٍ ولا يكترثُ لتَقريعٍ،يُشاغب في غَزلٍ فاضح فتيات الموردة،يألفن كلامه المعسول، وفي نفسِ كُلِّ واحدةٍ أمنياتٍ بوصلهِ، على غيرِ العادةِ لمَعَ معصم ” نفيسة ” ابنة ” جمعة الحلاق ” توهَّجت يدها تحت خيوط ِالشمس، تُحاصرها عشرات الأسئلة في فُضولٍ مُزعج، لكنَّها اكتفت بإجابٍة واحدة تُردِّدها في ميوعةٍ وهي تنثني:”هي من صديٍق مُقَّرب”،لتنفلت ضحكة مُنحلة،عِشت سنين طِوالٍ اتشهّى واحدة، مُنذ أيامٍ دَخلت مَتجرا لبيعِ الأجهزة الكهربائية، وجدتها تَزهو وسَط َصُندوقٍ زجاجيٍ بينَ مثيلاتها،رجوت البائع أن يخرجها، سَرت بجسدي رِعدة لا اعرف مُؤتاها،تَحسَّستها طويلا لا تزال في جَلالِ الماضي، لكَنَّ معَ الأسف، لم يعد للماضي جَلاله الذي كان..
***