طارق إمام
استناداً إلى واقعة اختفاء، تنطلق إيناس حليم لتدشين أفقٍ مناقض تماماً، هو الحضور.
في روايتها “حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة”، الصادرة عن دار الشروق، تعيد إيناس إحياء أشباحٍ ذابوا في تراب الذاكرة، ترمم أطيافاً لتعيد إليها أجسادها المفقودة. وهي إذ تبتعث، عبر واقعةٍ حقيقية شهدتها الإسكندرية سنة 1973، عروساً ابتلعتها حفرة، إلى سطح الأرض؛ فإنما تبتعث سيرةً كاملةً، سيرة أسرة نجمت سلالتها عن الهرب، بقران مسلمٍ ومسيحية تألبا على التقليد في الجنوب المصري، فظلا هاربين، ومن بعدهما نسلهما، حتى بقي الهرب قائماً بعد انتفاء دوافعه، دون أن يعرف الأبناء ومن بعدهم الأحفاد، مم يهربون.
“الهرب” هو الكلمة المفتاحية لهذه الرواية البديعة، هو المفردة التي تقرر “شادن”، الساردة، مواجهتها، بهربٍ جديد: من رواية كتبتها الأم وتريد لها أن تكملها، من سيرةٍ واقعةٍ بدورها في حفرة، ومن مدينةٍ لم يعد لها وجود خارج صورتها التي تتسلل عبر النوافذ البحرية، إلى مدينةٍ لا تقل شبحية، فيما تعبرها الساردة بحثاً عن امرأة لا تعرفها، اسمها “ميرفت أحمد شحاتة”، لا لتعيد إليها الحياة، لكن لتهديها، بالكاد، مقبرة.
×××
تنهض إيناس بمرويةٍ تتقمص بنية التحري، وتحيك حبكةً قائمةً على التحقيق، فيتشكل النصُ الروائي، بالقوة نفسها، من التخييل والتوثيق معاً، وصولاً لأفقِه الأبعد: إعادة تشييد مدينة / الإسكندرية، هي، للمفارقة، “عروس” أيضاً، وبموازاة عروس النبي دانيال التي ابتلعتها حفرة في الإسفلت، سقطت المدينة في حفرةٍ شقها البحر، غارقةً تحت سطح الواقع والتاريخ، في انتظار يدٍ تنتشلها.
تستند الساردة إلى روايةٍ غير مكتملة، صاغتها يدُ الأم، تفتتح بمقطعٍ منها روايتها، قبل أن تبدأ في تفنيده “نقدياً”، مؤسِّسةً منهج هذا النص الروائي القائم على تعرية الإيهام والتقنية معاً. الساردة إذ تحاول كتابة روايتها الخاصة، إنما تمحو الرواية الأسبق، ليتموضع فعل “الكتابة” نفسه كبؤرة صراع، في نصٍ ميتا روائي بامتياز، لا يكف عن التحدث عن ذاته، وكشف تقنياته، كمرويةٍ ذاتية الانعكاس، من خلال سرديةٍ داخل رحم الأخرى (تماماً كالابنة التي خرجت من رحم الأم).
مدعومةً بسبع هدايا تمنحها إياها الأم في عيد ميلادها، تخوض الساردة تحدي كتابة روايتها ـ أو روايتيهما معاً ـ وكأننا أمام حكاية تستند لجدار حواديت الجنيات. وعلى غرار الحكايات الموروثة نفسها، فالمغامرة تحت الأرض، فيما البطلة التي في مقتبل عمرها، تبحث عن سماء.
بالضمير الأول، تعرض شادن تفكيرها في الرواية المنتظرة، كأن النص الذي نطالعه، هو كله حومُ صياد حول الرواية التي لم تُكتب بعد، لنصبح أمام ثلاث روايات: واحدة مبتسرة، وثانية تنتظر أن تُكتب، وثالثة لاحقة، لم نقرأها بعد. لا وجود لرواية مكتملة إذن في هذا النص، الباحث عن الرواية بنفس قوة بحثه عن الفتاة المختفية. الرواية المأمولة وقعت بدورها في حفرة، وبقدر ما تبحث شادن عن مصير الفتاة في حفرة التاريخ، عبر مقابلات وأرشيف مجلات، فإنها تبحث عن مصير نصها في حفرة التخييل.
بشكلٍ عام، لا أحد في هذه الرواية ينجو من حفرته. بدا لي هذا النص مثل شارعٍ تتوزع الحفر على أقدام عابريه، كلما تقدمت شخصية، ابتلعتها واحدة. ثمة حفرة ابتلعت الام، وأخرى أخفت الأب، ثمة حفرة ابتلعت “كارم” ابن الخالة في الماء، وحفرة في الأريكة ابتلعت العمة “ياقوتة”، التي ترحل “تاركةً حفرة في جلد الأريكة”، وحفرة ابتلعت “حنفي” المنوم المغناطيسي الذي ادعى قدرته على العثور على الفتاة المختفية، ليلحق بها. وتبلغ الرمزية أقصاها حين يسقط أحد أقلام الساردة، المنوط به كتابة الحكاية في حفرة “ظل يتدحرج حتى سقط في فتحة البالوعة ذي الغطاء المنقوش، وتخيلتُ أني سمعتُ صدى ارتطامه بالقاع”. لاحقاً، سيسقط قلمٌ آخر في حفرة الخرس، حين يتبخر حبره، دون سبب: “القلم الذي كنتُ أكتب به الفصل السابق من روايتي، مددته ليلامس سنه خانة الاسم فلم يكتب. ضغطتُ بقوة فتمزقت الورقة التي كان أثرُ الخربشات واضحاً على سطحها بالرغم من أنه بلا لون”.. وكذلك يفرغ حبر القلم الثامن في لحظةٍ حاسمة: “فرغ أثناء وضعي خطوطاً مستقيمة تحت الملاحظات المهمة التي قرأتها في أعداد مجلة صباح الخير”.
الحُفر تنسحب أيضاً على الهوات التاريخية بين الأزمنة الأساسية التي تقاربها الرواية، فهناك قصة الجدين “عبد الحافظ” و”ماري”، في الستينيات، تعقبها حفرة السبعينيات، حتى تظهر حكاية “عمر” و”نور الهدى” انطلاقاً من سنة 1980 فما بعد، لتظهر حفرة جديدة، حتى ظهور “شادن” كساردة سنة 2002. تحاول شادن أن تملأ فراغات هذه الحفر، ومن أجل ذلك لا تنشيء روايةً خطية، قدر ما تتبنى منطق الكولاج، متعاملةً مع مكونات المروية (من شخوصٍ ومحكيات) مثل قطع بازل، توضع كل واحدة في مكانها الفارغ المعد سلفاً فور العثور عليها أو اكتشاف مطابقتها للكتلة الفارغة في انتظارها، وهو ما يمنح رواية إيناس بنيتها المراوحة، القائمة على جماع أزمنة ممزقة، تمتد في زمن الحكاية إلى ما يتجاوز أربعين عاماً، فيما تلتم في زمن الخطاب عبر سنةٍ واحدة من يوليو 2002 إلى يوليو 2003
×××
يمثل “التهجين” آليةً تسدر على طرائق تخليق الفضاء السردي.
ثمة، في المقام الأولى تهجين بين أسلوبين روائيين: أسلوب الأم وأسلوب الابنة، بما يلحقهما من رؤيتين للعالم: واحدة ذاهبة إلى تحويل الواقع إلى أسطورة، (الأم تكتب رواية عن حياة العروس المختفية في قاع الحفرة)، فيما الثانية ذاهبة إلى العكس بالضبط: تحويل ما غدا أسطورياً مع تقادمه التاريخي إلى واقعي يرده إلى قانون الحاضر (بمحاولة رد العروس إلى سطح الأرض). هناك أيضاً تهجين بين منحى تخييلي استعاري ومنحي توثيقي تسجيلي يشمل مقابلات وقصاصات صحفية وأخباراً تليفزيونية وتصريحات لشهود الواقعة في زمنها أو لمحلليها في أزمنةٍ لاحقة. ثمة تهجين لأساليب سردية غير تخييلية كاليوميات، بأساليب تنتمي لفنون أخرى كالسينما، إذ تتجسد بعض المشاهد الروائية كأنها صفحات مقتطعة من سيناريو.
وهناك تهجين واضح جداً بين منحى سردي تداولي ومنحى شعري تجريدي يعلو باللغة في مناطق عديدة إلى ذرى شعرية.
تمسك شادن بهذه الطرائق المتباينة لتمنحها كلها أدواراً وظيفية عميقة، تحافظ للنص على قلقه “المقصود” وتوتره، لتؤسس المفارقة الأعمق لهذه الرواية؛ إذ تبحث الساردة عن الحقيقة من أجل إنشاء نص خيالي، تنقب عما يُفترض أنه “الصدق”، فقط لكي تتقن “الكذبة”.