زكريا صبح
لم أتمالك نفسى بعد انتهائى من قراءة قصة عمار علي حسن المعنونة بـ “رأيتها تمضي” وقلت: وجدتها، وجدتها، لاننى دائم الانشغال بالوطن وبما كان علية وبما أل اليه فقد كنت متربصا بأى نص يحمل في طياته تجريدا فلسفيا و موقفا سياسيا يلخص المرحلة الحرجة التى نمر بها، لذا أقر وأعترف أن هذه القراءة، وهذا التأويل يخصنى شخصيا، وكاتب النص ليس مسئولًا أدنى مسئولية عن هذا النص الذى سينتج عن هذه القراءة، معتمدًا على منهج التحليل والتفكيك معا في تناول النص.
وربما أكون مبالغا بعض الشيئ اذا قلت أن هذا النص يشبه المعادلات الرياضية أو التجارب المعملية الدقيقة فنحن أمام نص بمثابة المعطيات ولا بد لنا من استخراج نتيجة ما. واذا أردنا الوصول لهذه النتيجة علينا فك شفرته ووضع معادلات موضوعية لما جاء فى المعطيات، فمثلا لو بدأنا من العنوان باعتباره عتبة للنص، نلاحظ أنه مكون من كلمتين تشكلان جملة خبرية مفيدة جدا، ولكنها تحتاج إلى وصف حال هذه التى تمضى.
وهنا لا بد للعقل أن يضع بعض الاقتراحات ومن هذه الاقتراحات التى توصلت اليها بعد الانتهاء من النص ( رأيتها تمضى حزينة،، أو رأيتها تمضى إلى أفول،،، أو رأيتها تمضى الى نهاية بائسة) ولن أقول الاقتراح الذى ألح علىَّ كثيرا وهو (رأيتها تمضى إلى الهاوية) لن اقترح هذا لأن الأمل لم يزل معقودا في إنقاذها.
ثم إذا ولجنا الى النص فإن الكاتب يذكر الميدان الفسيح ! ولم يحدد لنا قدر هذه الفسحة لكنى رفعت الميدان الفسيح ووضعت بدلا منه ميدان الكرة الأرضية فى منتصف العالم حيث موقعها الجغرافى يتوسط العالم. وهى كما وصفها مثقلة بأيامها،، ما رأيكم لو جعلناها مثقلة بتاريخها !؟
وحسنا فعل أن جعل زمن المرور هو وقت الظهيرة حيث الشمس تكون فى منتصف السماء ولا سبيل _ لمن يدعون ضعف النظر _ القول بأنهم لا يرونها تلك التى تحاول العبور مثقلة بأيامها أقصد بتاريخها.
وليس عبثا أن تأتى هنا مفردة “الابتلاع”. هذا الفعل الذى يقوم به أسفلت الطريق، فهل ذات التاريخ المثقلة بهمومها تنزلق الى هاوية الابتلاع؟؟ وقد صارت الى السمنة والضخامة بما يوحى بالبطء وضعف الحركة وربما بالتوقف.
هل اقتربت المعادلة من الحل؟
وليكن السؤال هل اقتربنا من إماطة اللثام عن وجه النص الرمزى؟
هل هذه السيدة التى ذكرها الكاتب هى الوطن؟ وهل الميدان هو العالم؟ وهل الذى رأها هو الذى يهتم بأمرها؟ ويعرف كيف كانت رشيقة وخفيفة الحركة وممشوقة القوام يتغنى عشاقها بها؟
وهل حركته المضادة تشير إلى حركته نحو المستقبل باحثا لها عن مكان بينما هى تسير نحو الأفول والذبول؟
هل الذين يجلسون على المقاهى يلوكون بألسنتهم تاريخها الضارب فى الأعماق ويتغنون بجمالها الآفل، يحبونها حقا؟
لماذا يصر بعضهم على التغنى بجمال غابر ولا يريد أن يعترف أن محبوبته أصابها الكبر وأصبحت عجوزا شمطاء، لا تستطيع الحركة ولا تعرف لها وجهة؟
ويمضى الكاتب مشخصا حالتها المزرية التى آلت إليها ويذكر لنا من طرف خفى كيف أنها لم تستثمر شبابها وجمالها ورشاقتها فى الكسب من كد يديها، وكيف أنها عاشت وهم الارتباط بالأثرياء الذين سينفقون عليها!
أصابنى الحزن لما أصابها فقد تواكلت (هى ) حتى انسلخ الزمن من بين يديها لتصبح تلك العجوز غير القادرة على الحركة المنكسرة التى تحاول الهرب من واقعها بالمساحيق المبالغ فيها ! فهل تستعيد المساحيق لها شبابها الغابر؟
وحده الذى يعرف قيمتها وقف يتأملها وهى تمضى إلى نهايتها، وحده الذى يعرف أنها ضلت الطريق لذا رأيناه يسير عكس اتجاهها، وحده الذى يحلم لها بمستقبل مشرق لا يقوى أن يواجه أولئك الجالسين على المقاهى بالحقيقة!
يعرف أن مصيره التخوين إذا صدح أمامهم بحقيقة محبوبتهم، ولذا يؤثر أن يظل صامتا مستمعا لهؤلاء الباكين على أطلال جمالها.
لن يستطيع مواجهتم بأنها أصبحت متسولة أو تكاد وإلا كيف نفسر هذه اللقطة التى تقول إنها تحمل كيسين بهما خضروات رخيصة الثمن من سوق قريب !! هل نستطيع أن نرفع هذه الصورة غير المباشرة بجمالها الفنى لنضع الفعل الاقتصادى البشع ( الاقتراض ) أو نضع بديلا لها السلوك الانسانى الفاحش ( التسول )؟
هل نستطيع أن نستعيض عن هذه الشمطاء بحالها الرثة التى تتصنع جمالا زائفا وتستجدى رشاقة ماضية وتتصنع خطوات راقصة على أمل أن تعاود جذب الانظار وجمع المحبين حولها. أقول هل نستعيض عن تلك العجوز ( بمصر) التى نحن عليها مشفقون ولأجلها منكسرون ولها حالمون وعنها كاتبون ولمنكرى حقيقتها الذين يدسون رؤسهم فى رمال احلامهم كاشفون !!؟؟
إلى هنا أكون قد انتهيت من تأويل النص بما تركه فى نفسى من غصة، وربما كان من اللائق أن أقول سببا أو بعض سبب جعلنى أسير فى هذا الطريق:
١ – أن كاتب النص تؤرقه حال بلاده أيما أرق.
٢- إن كاتب النص ليس لديه رفاهية الحديث عن امرأة ذهب عنها جمالها ويسوق لنا قصتها من أجل الشماتة فيها لأنها استعلت فى شبابها على محبيها.
٣- ستكون دلالة النص ضعيفة إذا ما عرفنا قدر كاتبه، كونه روائيا كبيرا، وشاعرا كبيرا، و سياسيا كبيرا.
٤ ـ ربما كان ذلك التأويل وهما هيأته لى نفسى وليس له ما يؤيده وتظل قراءتى لهذا النص على هذا النحو مجرد اجتهادا فان أصبت فلى أجران وإن اخفقت فعسى أن أكون قد اشبعت رغبتى فى المحاولة.