عبدالنبي عبادي
الإيقاع خارج الشّعر، هذا هو الأصلُ في الأمر، وتبدأ محنة الشّاعر عندَما يُصغي لذلك الإيقاع أو يستلّهُ بعينيهِ وقلبهِ وأُذنيْه من المنظور أو المحسوس أو المُتخيّل ويسعى لسجنِهِ في الورقةِ، ثُمّ يفتح له في الورقة كوى للنّور مُستخدما الصور الفنيّة. والإيقاعُ إيقاعات؛ فلا غير الإيقاع المُنضبِط في مشيةٍ أم تُمسكُ بيد طفلتها إلى الحضانة في الصّباح الباكر، إن اليد التي تُمسكُ اليد واليد التي تُمسكُ الحقيبة والقدمين اللتين تسعيان بقدمين أخرتين بين السيّارات وبقايا النّعاس لابد لهم من إيقاعٍ ما يضمنُ الوصول!
الإيقاع هو الذي يجعلُك تُحبّ تمثيل يحي الفخراني ونور الشّريف وأحمد ذكي دون أن تعرف السّبب، والإيقاعُ هو الذي يجذبُك إلى فريد شوقي في “البخيل وأنا” ويُبكيك مع “محمود مرسي” أبو العلا 90″!
وما حُزنُنا وخيبتُنا في محنة غـ.ـــــــزّة إلا أنّنا غير قادرين على التقاط الإيقاع الحقيقي للحدث، ونحاول أن نتجاوب مع إيقاعات فرعيّة أقلّ طلاوة!
الإيقاع ليس اختيارًا للشّاعر، إنّما الشّاعر هو طريدة ذلك الإيقاع! ومأساة الشّاعر (الطريدة) أنه لا يستطيع أن يتوقّف عن الهرب أمام ذلك الإيقاع ولكن عليه أن يُبقي المسافة مُناسبة بحيث لا يغيب تماما عن ناظريّ الإيقاع، ولا يقع بين يديه!
يبدو لي ذلك من زاوية رؤيتي في المجموعــة الشعريّة “افتحي الباب يا فاطمة” للشّاعر المصري محمد المتيّم، وهي سيرةُ العائدِ المُنهك من زمنٍ منهوك، وقتَها يصيرُ الباب المُغلق كارثة ويصيرُ النّداء أن افتحوا الباب لي فضيحة، لأن الصوت باكٍ والعيونُ جمرات!
ورُغم انتماء الكِتاب لقصيدة النّثر إلا أنّه يفتحُ باب السؤالات حول القصديّة في الكِتابة الشعريّة في العموم وفي قصيدة النّثر بشكل خاصّ إذ يبدو أن إيقاع “الخليل بن أحمد” طارد الشّاعر والشّاعرُ يهربُ منه حينا ويُضيّفه حينًا في نسجٍ شعريّ صادق.
أقول: هل على شاعر قصيدة النّثر أن يخرج بمطرقته لكي يلحق الرضوض والكسور بُكلّ جُملةٍ موزونة تدخُل قصيدته؟
تختلفُ الأجوبة باختلاف وجهات النّظر وباختلاف التطبيقات التي تتجلّى في النّماذج الشعريّة، أما رأيي أنا فأرى أن العمد إلى تكسير الجُمل الموزونة أو الاستغناء عنها لمُجرّد أنها موزونة هو ضعف في مواجهة “الآخر الشعري” وهو خيانة لقصيدة النّثر التي جاءات لتتصالح مع أسئلة الواقع عن طريق طرحها بلا رتوش خارج الفني والجَمالي، والحساسية تجاه الجُملة الموزونة في قصيدة النّثر قد تكشف لنا أن قصيدة النّثر كجنس إبداعي تنقلبُ وقتها إلى “أيديولجيا” لجوج لا هم لها إلا مُناكفة الآخر الشعري والتعارك معه ومُناكدة تجليّاته بسبب وبدون سبب.
إذن، أستطيعُ أن أطرح السؤال بصيغةٍ أخرى؛ هل يكونُ الشّاعر واعيا بالجُمل الشعريّة الموزونة أم أنّها تقتحم نصّه وهو على جهالة بها أصلا؟
في مسألة الشّاعر محمد المتيّم أستبعدُ فكرة عدم الوعي بالجُمل الشعريّة الموزونة لأنّ كثيرا من نتاجه المنشور ومنه تجربته الأولى “دمعة تفكُّ حصارين” يقول إنه آتٍ من مملكة التّفاعيل. لذلك أسعى في السطور القادمة إلى مُحاولة رصد الأسباب التي قد تكون دفعت بالإيقاع “الخليلي” لمزاحمة إيقاعات قصيدة النّثر في “افتحي الباب يا فاطمة”.
في العنوان “افتحي الباب يا فاطمة” لا تُخطئ الأذن تفعيلة “الخفيف” مع زيادة “بَ” الأخيرة في كلمة الباب، وفي قصيدة “رباعيّة فاطمة” -وهي قصيدة “مركزية” في الكتاب-يبدو المُتيّم وكأنّه يتّفق معي فيما ذهبتُ إليه مُصرّحا بعلاقته القديمة التي أنفق فيها عمره مع بحور الشّعر (وزحافاته وعِلله)، يقول ص 44:
يا فاطِمَة… يا فَاطِمة
أهلكني الجمالُ يا فاطمة
افتحي الباب يا فاطمة
أخوكِ المنبوذُ
يعوي على قارعات الطّرق!
أنفقتُ عمري
على الزّحافات والعِلل
على الأعتاب والأضرحة
على الكِناياتِ وتأويلها
على الأصدقاء، أين الأصدقاء؟
تقاضيتُ من الريح الغبار
تقاضيتُ من القطارات الدّخان
لم أتقاض اطمئنان ليلةٍ واحدة
وأنّى للغريب الطمأنينة!
هل تخطئ الأذن الإيقاع العروضي في:
– يا فاطمة.. يا فاطمة
(مستفعلُن.. مستفعلُن- \○\○\\○ \○\○\\○)
-أهلكني الجمالُ يا فاطمة
(مُستعلن.. مُتفعلن.. فاعلن- \○\\\○ \\○\\○ \○\\○)
-يعوي على قارعات الطّريق! (المُتقارب: (فـ)عولن فعولن فعولن فعول)
– لم أتقاض زاد ليلةٍ واحدة
(\○\\\○ \\○\\○)
– لو فتحتِ الباب يا فاطمة
(\○\\○\○ \○\\○\○ \\○) (فاعلاتن.. فاعلاتن.. فَعِلْ)
– وافرشي لي سجّادتك
(\○\\○\○ \○\○\\○)
يقول الشّاعر في قصيدة “ورطــة” ص80:
لو تخفّفَ النّشيدُ من رتابة الإيقاع
ربّما اتّحَدَت ضفّتان
ربّما انحرف القطارُ عن قضيب الملل
ربّما نبتت في صدري
ذراعٌ ثالثةٌ
وسمّيتها ربابة
لكنها الورطة؛
ورطةُ أنك جئتِ في الزّمان المتأخر،
أنا أحزم حقائبي،
وفاتني
أن أضعف أمام جمالِك..
كأنّنا أمام محاولة إرهاق الإيقاع الخارجي من ناحية وإنهاك الإيقاع الدّاخلي من ناحيةٍ أُخرى بفعل “إرهاق” تحدّث عنه الشّاعر لا حقا في نص من أجمل النّصوص وهو نصّ “لا جذوة تحته.. لا دخان يدلُّ عليه”، وهُنا لستُ أبتعدُ عن ملمحٍ عام في هذه المجموعة وهو “شعريّة الضّعف” أو الإنهاك” أو “الإرهاق” كما ذهب الشاعر الدكتور محمّد السيّد إسماعيل إذ يقول : ( وإذا كان صلاح عبدالصبور قد جعل من “الحزن” تيمة كثيرة التردد في شعره، فأعتقد أن محمد المتيم قد جعل من “الإرهاق” تيمة موازية خاصة في قصيدته “لا جذوة تحته… لا دخان يدل عليه”. يقول، “الإهانة أن إرهاقي/ ليس من النوع المشفوع/ بالفخر أو الرهبة أو الجلال”. إن إرهاقه إرهاق البسطاء، لا إرهاق المفكرين الذين تكاد صدورهم تنفلق من زخم المعرفة، أو الملوك الذين يتوجسون خيانة قادمة، أو المتصوفة وهم في ملكوتهم ينتظرون ليلى وإشراقاتها.)
كما أنني يُمكنُ أن أعتبرَ الأفق “الصّوفي” الذي لاح في النّصوص أحد أسباب تسلل الإيقاع الخليلي مُنهكا ومُرهقا إلى النّصوص، ولا أعني بالتصوّف هُنا، التصوّف بطابعه الديني المحض، بل إن المُتيّم الذ يكتب عن “إرهاق ليس من النوع المشفوع بالفخر أو الرهبة أو الجلال” قد أمسك بأحد خيوط التصوّف في عمومه والتصوّف “الإبداعي” بشكل خاص، إذ يمثّل ذلك الإرهاقُ المُفضي إلى النّحول إرهاقَ (تصوّف) الشّعراء الذين يسهرون ليلهم في مُنادمة الحروف ويحتشدون في خلواتهم برعشة عن تنزّل “المعنى” وتجلّي “الشّكل” على هيئة النص. يقول الشّاعر في “هامش ثالث” ضمن قصيدة “نحن.. وهُم”:
(يسألني: بم تكتب؟
قلتُ: بكذا، وكذا، وبكدحٍ طويلٍ بين أخلاطٍ من أولاد حواء، لا يربطهم رابطٌ، لكن سرّ النفخة الأولى برّأَنا من الرايات، وجنّبَنا مزالق الوهم، وألّف بيننا.)
أحد أسباب تسلل إيقاع الخليل في مجموعة محمّد المُتيّم هو اشغاله بآباء الوعي الشعري الكِبار ومحاولة الموازنة بين نصيبهم من المُعاناة ونصيب الشّاعر المُعاصر، فيتحدّث عن أبي العلاء في قصيدة “أسرى” ص 95 قائلا:
ما رأيكِ أن أحكي لكِ
حكايةَ رجلٍ عاشَ في الزّمن الأوّل
اسمه أبو العلاء؟
أبو العلاء هذا
رأى أضعاف ما رأيتُ
لكنني – وبالمصادفة-
لما وقفتُ عاريا أمام المرآة بالأمس
أحطتُ بكل ما رأى في دقيقتين !
رجُلٌ طيّبٌ
كان يعرفُ في قرارة نفسه
شرَف الجنون،
لكنّه أصرّ
_بكل عنجهيّة-
أن يعبد عقله!
فالشّاعر بين “شرف الجنون” و “عبادة العقل” لا محالة ستصيبه نوباتُ الإيقاع تارة ونوباتُ الحُلم تارةً، وهو بين الحُلم والإيقاع ترياقه القصيدةُ في أي شكلٍ تجلّت وفي أي ثوبٍ تدلّت. في رأيي الشخصي هذه مجموعة شعريّة تعكسُ “سيرة ذاتيّة” محطّاتها كمائنُ نصبتها التّجارب للشّاعر، وهو في كلّ محطّةٍ لا يتنكّر للضعف الإنساني فيه، فلا هو نبيّ ولا هو مُبشّر ولا هو مُخلّص، إنّما هو “العائد” من زحام المفاهيم والأيديولجيا إلى خضرة الشّعر وعذوبة المُعاناة.