العودة إلى الأمام

ياسمين الغمري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين الغمري

صارت أشباه مدينة؛ البيوت مهجورة، النوافذ سقطت عنها، اللونين الرمادي والترابي هما فقط ألوان هذه المدينة، الشوارع خالية حتى من الدواب، لا شجر ولا عصافير ولا حتى نقطة ماء داخلها.

انتهت الحرب منذ شهر واحد فقط وانتهت فيها الحياة أيضًا، أغلق ’خر جندي خرج من هذه المدينة أبوابها بسلاسل حديدية ووضع لافتة مكتوبًا عليها “المدينة تحت الإصلاحات.. ممنوع الدخول”.

وقفت أمل أمام هذه اللافتة حاملة حقيبة سفرها في يدها اليمنى تريد الدخول لكن القفل الموضوع على الباب حال بينها وبين ذلك، فتراجعت للخلف تنظر لأعلى السور، كان مرتفعًا نوعا ما، مرصوصة عليه بعض الأسلاك الشائكة، فرأت أن الأيسر كسر القفل، بحثت عن حجارة وما أكثرها أسفل قدماها فانحنت والتقطت واحدة وذهبت تكسر القفل، حاولت مرة واثنتين وثلاثة لكن كل المحاولات باءت بالفشل، فتراجعت إلى الخلف ناظرة بإصرار إلى ارتفاع السور واضعة يدها في خصرها في حالة تحد، أخذت حقيبتها وألقت بها فوق السور واندفعت نحوه راكضه لتصل إلى أقصى ارتفاع يمكنها تحقيقه.. كفاها متشبثان بالأسلاك رغم الجروح التي ألمت بها إلا أنها كانت تملك إصرار الكون كله في تلك اللحظة وظلت هكذا حتى تمكنت من الوصول إلى قمة السور وقفزت إلى قبلة جديدة في الحياة.

استدارت أمل تحتضن المدينة التي شهدت طفولتها وصباها بعينيها، راحت تركض بين البيوت المهجورة فاتحة ذراعيها مشدوهة مما خلفته الحرب، أين البشر؟ أين الزرع؟ أين الحيوانات الضالة؟ الشجر المحروق يمنح الأسفلت -المرصوف به الطرق- كآبة إضافية فلا تزال رائحة الدخان منبعثة منه.

تسير أمل في حذر بخطوات بطيئة، تلمس ما تبقى من جدران البيوت وتقبلها، فكل حطام هنا يذكرها بصديقة عزيزة فقدتها أمام عينيها بعدما قصف العدو بيتها، وبحبيب غائب لم تعرف أخباره منذ ثلاث سنوات لا تعلم إن كان حيّ أم شهيد.

تستكمل أمل سيرها بين البيوت فـ يلوح لها بيتها عن بعد، تهرول إليه راكضة، تلمس حطامه وتبكي على أحباب رحلوا ولن تراهم مرة أخرى. أخرجت أمل مفتاح البيت من صدرها فهي لا تزال محتفظة به منذ تهجيرهم من خمس سنوات مضت. وضعت المفتاح في الباب فانفتح على سلالم محطمة بعض أجزائها، لكن يمكن للمرء الصعود عليها والوصول إلى مبتغاه. لملمت بقايا روحها واقتربت من الدرج واستمسكت بالحائط المنُقض وراحت تصعد ببطء شديد خوفًا من سقوط مفاجئ.

دخلت شقتها بسهولة فالباب كُسر أثناء اقتحام العدو لبيتهم، بكت ودموعها انفجرت فوق وجنتيها وربتت بذراعيها على جسدها كله في حالة احتضان ثم جثت على ركبتيها. استجمعت خلجات نفسها ونهضت، دخلت غرفة نومها، الغبار يكسو الفراش والمكتب وما عليه من كتب ودفاتر دراسية، تلمست كل هذا والدموع تملأ روحها المنكسرة، استكملت جولتها بالبيت، وقفت طويلا أمام النافذة المكسورة لترى مشهدا مهيبا؛ كل البيوت أمامها مهجورة ملونة بلون الحرب.

جففت أمل دموعها وأقسمت على محو كل هذا الخراب واستعادة روح هذه المدينة. دلفت إلى المطبخ وأخذت قميصا قديما  نفضت عنه الغبار وراحت تنظف البيت وفي غضون عشر ساعات عاد البيت جميلًا مثل العروس في ليلة زفافها.

 شعرت أمل بالاعياء واستلقت فوق فراشها تحتضنه بشوق المحروم من الذات لعقود منصرمة، ونامت نومة هنية لم تذوق طعمها منذ التهجير. في الصباح أشُرقت الشمس وصبت نورها على المدينة، بدأت أمل تشعر بالجوع والعطش والرغبة في التحمم بعد عناء أمس، فراحت تبحث عن مياة، كل الصنابير لا تعمل فتذكرت بحيرة كانت تلعب أمامها وهي طفلة بضفائر.. نزلت الدرج المحطم ببطء شديد مثل أمس، وذهبت حيث البحيرة. فحمدت الله أن العدو لم يضربها هي الأخرى فلا تزال المياه تجري بها، فألقت بجسدها وروحها المنهمكة في الماء وتخلصت من كل ضيق ووجع، فدفء المياه رد لها روحها المسلوبة التي سرقها التهجير منها، أخيرًا عادت إلى وطنها.

انتهت أمل من التحمم وذهبت إلى بيتها حافية القدمين فقد اشتاقت إلى ملمس رمال مدينتها بعيدًا عن المخيمات وحياة اللجوء والأغتراب. اشتد عطشها وجوعها، لا بد من البحث عن طعام ومياه، فلمحت فأسَا كان والدها يستخدمه في الزراعة إذ أن أبيها كان فلاحا أبا عن جد، أخذته وهبطت الدرج مسرعة إلى أرض أبيها التي مات الأخضر فيها ولم يبق إلا أرض جرداء. بجوار قطعة الأرض توجد ساقية للري، حاولت أمل دفعها لتعمل، بذلت قصارى جهدها دافعة كل جسدها عليها حتى استدارت وعملت، شربت منها حتى ارتوت، مكثت جوارها بضع دقائق لتحظى بقسط من الراحة وتستعد لما هي مقبلة عليه.

ضربت أمل  الأرض بالفأس وروتها، ثم رحلت إلى بيتها تبحث عن بذور القطن التي كانت يزرعها والدها، بسهولة وجدتها أسفل الأريكة، حيث كان أبوها يخبئها من العدو حتى لا يسرقه منه كما فعل مع الفلاحين كافة، اطمأنت أمل عند رؤيتها للبذور وهدأت نفسها، وراحت تنظم خطة إصلاح المدينة.

بدأت بالبيوت، قامت بتنظيف ثلاثة بيوت من آثار الحروب، لكن الجوع كان يجعلها تتضور ألمًا ولم تعد قادرة على المتابعة، إضافة أن الأرض تحتاج إلى شهور ليطرح الزرع ثماره، ففكرت في الذهاب إلى مدخل المدينة ربما تجد شخصا ما تساله طعامًا. ذهبت وانتظرت يومًا كاملًا تنتظر أى إشارة تفيد أن هنا يوجد حياة، وأخيرًا لاح لها جندي يتبع جيش مدينتها، قصت عليه حكايتها وأنها في أشد الحاجة إلى طعام، في البداية صرخ فيها لأنها خالفت القواعد فدخول المدينة ممنوع كما هو مكتوب على اللافته، فادعت أمل أنها تجهل الكتابة والقراءة، وهو ما هدأ الجندي وطالبها بالخروج، لكنها رفضت وأصرت على البقاء لتعمير المدينة، وصرخت في الجندي.

ـ المياه متوفرة والأراضي مازالت حية أي يمكننا الزراعة، أيضًا يمكننا التعايش مع بيوتنا المحترقة، افتحوا الباب للناس تدخل وتعمر المدينة، كيف سيشعرون بالانتماء إليها إن لم يعمروها.

لم يعبأ الجندي لكلامها وتركها تتكلم مهددًا إياها إن لم تخرج من المدينة فهو غير مسئول عن سلامتها، فلمحت ضابط بعيدًا كان يحرس المدينة المجاورة فراحت تنادي بأعلى صوتها،

ـ يا حضرة الضابط يا حضرة الضابط.

فالتفت إليها وجاء غاضبًا..

ـ كيف دخلت هذه المدينة؟!

لم تلق أمل أهمية لغضبه..

ـ لا يهم الآن كيف دخلت المدينة المهم متى نعمرها؟

ـ السلطات هي المسئولة عن تعميرها وليس الشعب.

 فاستشاطت غضبًا.

ـ وكيف يشعر المواطن بالانتماء إلى بلده إن لم يشارك في بنائها وتنميتها؟

تلعثم الضابط وبنبره متقطعة وذهن يحاول تجميع الكلمات..

= أنتِ محقة، من الغد سيأتي أهالي هذه المدينة ليعمروها.

في الغد فُتح الباب فدخل الأهالي مهرولين في صيحة قوية يحملون حقائبهم خلف ظهروهم، الكل يركض نحو بيته مهللا “الله أكبر”، تجمع الأهالى في الساحة الكبرى للبلدة، وخطبت فيهم أمل:

ـ اليوم راحة لكم من عناء السفر، خذوا وقتكم واسعدوا بالعودة إلى الوطن، ومن غد سنعمر هذه المدينة، سنعمر ديارنا أولًا، وأراضينا ومدارسنا ومستشفياتنا، سنعمر كل شيء في هذا البلد حتى الإنسان، سنهزم خوفنا، إذ جاءنا عدوًا سنقهره وندفنه في مدينتنا، لن نترك هذه المدينة أبدًا إلا بالموت.

في غضون ثلاث سنوات عادت الحياة إلى المدينة وعادت العصافير تسكن الشجر تغرد كل يوم حرية وسلاما وسعادة بين أهالي المدينة.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب