تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون
نشر روبير فالزير آلاف النصوص النثرية القصيرة التي تضم أربعة عشر مجلدا على مدى السنين التي استطاع فيها هذا المؤلف أو أراد تكريسها للكتابة. منذ عام 1913، تاريخ نشر أول كتاب ” مقالات فريتز كوشير”، وظل على هذا المنوال و لم يتباطأ حتى عام 1925 تاريخ نشر مجموعته “الوردة”، وكانت آخر ما نشره في حياته قبل أن يخلد إلى الصمت في مشفى الأمراض النفسية حتى مماته. وهي نصوص تعكس بشكل أو بآخر الحياة التي عاشها الكاتب في هذه الأوقات المختلفة والدوائر التي كان يتردد عليها: أولا في برلين (من 1906 إلى 1912)، حيث اختلط بالأوساط الفنية، ثم في بيال، في مسقط رأسه بيرنيز جورا (من 1913 إلى 1920).
بالإضافة إلى المجموعات التي نشرها المؤلف، هناك كم هائل من النصوص المرسلة إلى مختلف الصحف والمجلات، ومن بينها يذكر فالزير في مراسلاته ما لا يقل عن ثماني مجموعات قام بتجميعها ورفضها العديد من الناشرين. تشير هذه المجموعة، التي تحمل اسم: “Sur quelques-uns et sur lui-même ” بترجمتها الفرنسية، إلى تشيكل اختيارها، كما هو واضح، حول مجموعة أساسية من النصوص التي تستحضر ممثلين بارزين للثقافة الألمانية والأوروبية: فنانين وكتابا. جوته، وكلايست، و هولدرلين و بوشنر، وجان بول، و واتو، فان جوخ، سيزان، أو شخصيات أسطورية (دون خوان أو هاملت)، تظهر شخصيات أخرى أقل شهرة لنا كشاعر ما بعد الرومانسية ليناو. كل هذه الشخصيات الملغزة أو المعقدة، يستحضرها روبير فالزير في نصوص نثرية قصيرة وشعرية، خفيفة وحادة بطريقته العصية عن التقليد، متنقلًا تباعا بين الفحص العميق والتلميح.
من الممكن قول شيء واحد عن كل أولئك الذين قرر فالزير تقديمهم لنا: إنهم، من خلال بعض مظاهر شخصيتهم، كائنات قريبة منه، تحاور معهم الكاتب الكامن فيه، وبطريقة معينة لا يمكنه من خلالهم إلا التعرف على أقنعته الخاصة. لكنهم أيضا قريبون من تلك الشخصيات الموجودة في رواياته. وإذا كان فالزير قادرا على التماهي مع الآخرين، يمكنه أيضا، من خلال حركة معكوسة، وبسخربة، أن ينأى بنفسه عن الشخص المسمى فالزير!، وأن يصير نسخةً مضاعفةً لذاته. كما هو الحال في النص الذي سنقدم ترجمته للقارئ : “فالزير يتحدث عن فالزير”. يطلب منا عدم خلط فالزير الذي يعيش مع الشخص الذي يكتب، ويتركنا مندهشين إلى أن نعثر عليه هناك بجوار الآخرين حقيقيين أو أبطال روايات متخييلين. ما الذي يدفعه إلى الكتابة، ويدفعه نحو لعبة المرايا هذه حيث، في النهاية، عندما يتحدث إلينا عن الآخرين، فإنه يتحدث حقا فقط عن نفسه، عن أولئك الذين يسكن رفاتهم على التوالي، والذين ربما يكون هو نفسه مثالا واحدا فقط من بين آخرين؟
فالزير يتحدث عن فالزير
سوف تتمكنون من سماع الكاتب فالزير يتحدث.
إلى السيّد الكاتب فالزير!
هكذا تبدأ الرسائل التي وُجهت إليّ، كما لو كان بعضُ الأشخاصِ الذين يهتمُّون بي يرغبون في تذكيري بوظيفتي ككاتب.
هل ستنام في داخلي هذه الكتابة المتهورة؟
هل يرغب طيِّبُو القصد في إيقاظي ؟
على سبيل المثال، عندما عشت في يوم ما حياة «الناسخ»، كان الكاتب فالزير نائمًا بالفعل في داخلي. وإلا لكنت كاتبًا غير طبيعي.
من أجل كتابة “الإخوة طانير”، كان علي الانتظار لفترة طويلة، وهو بطبيعة الحال ما حدث بشكل عفوي ولا شعوري. من الأحرى أن أُذكِّر كاتبا ما بأنه كائن بشري. ومع ذلك، فإن الكتابة المتهورة تستمد مصدرها من دائرة الوجود الإنساني. أعرف الناس الذين يعتقدون أننا نكتب كثيرا. كما نرسم أيضا، على سبيل المثال، أكثر من اللازم.
أشارك هذا الرأي، ولهذا السبب لا يقلقني على الإطلاق من أن يبدو الكاتب فالزير في حالة سبات. بدلا من ذلك، فإن تحفظه هو الذي يبهجني.
في اللحظة التي كنت فيها “ناسخا” حقا، هل استشعرت بأنه من شظية التجربة هذه ستنبثق “رواية الواقع”، أي أنَّ فعلًا واقعيًا سيُوَلِّد فعلا أدبيا؟ لا، أبدا على الإطلاق!
كان فالزير يعيش بالفعل في ذلك الوقت، وينام أيضًا، ويكتب كذلك بجلاء قليل. ولكن لأنه كرس نفسه للحياة دون أن يكترث لها، أي دون التفكير في الكتابة المتهورة، وبهذا دون أن يكتب أي شيء، كتب روايته “الناسخ” لاحقا، أي بعد سنوات. ولهذا السبب لم يستسلم لرغبة غير مقتنعة في النشر.
كل ما كتبه الكاتب فالزير “لاحقا”، كان ينبغي عليه في النهاية أن يحياه “من قبل”.
هل يمكن للرجل الذي لا يقضي وقته في الكتابة المتهورة أن يكتفي فقط بشرب قهوته في الصباح؟
مثل هذا الرجل بالكاد يجرؤ على التنفس!
ولكن فالزير، على الرغم من ذلك، يتجول ماشيا بانتظام لمدة ساعة كل يوم، بدلا من الاستسلام لفرح كتابته. يستخدم ذلك ذريعة لمساعدة الخادمات الشابات في ترتيب المائدة. لماذا، في يومٍ من الأيام، عاشَ فالزير جميع أنواع المغامرات؟
لأن الكاتب فيه كان ينام غير مبال، والحالة هذه لم يمنعه من العيش. هكذا كان يفكر في أنه سيكون من الجيد تركه في هذه الحالة من اللاوعي العام، وتوسل إلى أولئك الذين كانوا قلقين أن ينتظروا حوالي عشر سنوات، بينما تمنى لزملائه كل النجاح الممكن. لماذا يجعل مجد فالزير أي فرد آخر أقل فتورا منه؟
عندما كنت أكتب، على سبيل المثال، “الإخوة طانير”، كم كان اهتمامي بالشهرة قليلًا! لو كنت مشهورًا بالفعل، لما رأى الكتاب النور.
لذلك آمل ألا يهتم بي أحد. إذا أراد بعض الناس، على الرغم من ذلك، أن يقلقوا بشأن شخصي، فلن أهتم بهؤلاء الأشخاص القلقين. حتى الآن ألّفْتُ كتبي بعيدًا عن كلِّ إكراه. أعني أن فعل الكتابة بكثرة لا يضمن أن تكون هذه الكتابات غنية. فلا يأتيني أحد ليكلمني عن «كتبي السابقة»! دعونا لا نبالغ في تقديرها، ودعونا نحاول أن نتعامل مع فالزير طالما هو على قيد الحياة، ومن أجل ما يبذله من نفسه.
نشر سنة 1932