حسن غريب
إن هذه الدراسة قائمة على تناول السيميائية الشعرية في ديوان (مكان مشبوه) للشاعر محمد الكفراوي ، بحيث ندرس الرابطة البنيوية والدلالة بين عنوان الديوان ، وعناوين القصائد بداخله ذلك على أساس التشكيل النوعي بين العنوان وماهيته ودوره في تشكيل الدلالة الأسلوبية .بالإضافة الي تأويل المدلول الشعري لأكثر العناوين إثارة لمخيلة القارئ . حيث تتكشف لنا هذه الدلالة من خلال تناول تحليل السيميائية الشعرية للعنوان دلالة وأسلوب .وهو ما نعرضه فيما يأتي :
يمثل هذا الديوان “مكان مشبوه” التجربة الثالثة للشاعر محمد الكفراوي وهي تجربة مبدؤها القصيدة الحرة .
يحمل بين طياته رؤية فلسفة ذاتية بحتة ، التي أستحضر الشاعر فيها ذاته الرافضة لمتغيرات الحياة التي جعلته يتحول من ذاته الفطرية إلي ذات أخرى يجاري بها العصر المتغير للأسوأ دائماً .
أوجد الشاعر سيميائية تأثر الذهن لدى القارئ وتجعل المتلقي يعمد إلي تأويل المقصد وسيميائية > مكان مشبوه >.كما أن الذات الشعورية تبدو ظاهرة في العنوان من خلال وظيفتها الدلالية ، وإذا ما حاولنا أن ننفذ إلى مكنون العنوان كي نستبين طبيعة هذا التحول من ذاته المنقسمة علي نفسها والرابطة السببة المقامة علي الدلائل بين المكان والمتحول منه المشبوه هي في الأصل علاقة طردية تتضح معها المضامين التى أشتمل عليها العنوان ، والتي تستوجب التوسع في المعنى بغية التأويل ، وان كان أصل الثنائية المتقابلة في تمثيل الحياة بين السالبية والإيجابية .وهذا ما نستوضحه وفقا لمَ طوي عليه الديوان من القصائد ذات دلالة ومكنون لا ينفك أن يصوبنا نحو الرؤية الفلسفية التي أراد تصديرها الشاعر الي المتلقي من عنونة ديوانه { مكان مشبوه } ويلاحظ من البنية اللغوية فإن المكان : مبتدأ ، مشبوه : وقعت خبر شبه جملة .وعليه فان دلالة المكان بداية التغير ومشبوه خبر سيخبرنا به الشاعر من خلال عتبات القصائد من الديوان . يحتوي ديوان مكان مشبوه على مسببات التحول وإنقسام الذات .أفتتح الشاعر الديوان بقصيدة
( مولع بالأذى ص 9 ) ويبدو من عنوان القصيدة انه عمد إلى دلالتين ، فأما عن الدلالة البيانية الأولى أن مولع هي الشغف ، أراد الشاعر أن تكون إفتتاحية ديوانه الثالث الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع الأردنية ، هي فاتحة جديدة له وبداية تجربته الشعرية ورؤيته الشعورية .
وأما الدلالة الثانية أنه أراد أن يقبر ذلك الإنسان سليقي الإنسانية . ويبقى ذاك المكان منه ,زعم الشاعر أن تكون المولع هي رثاء على موت أنموذج للإنسان المثلي .ويتضح من عنوان القصيدة ” مولع ” رابطة دلالية بينها وبين عنوان الديوان .كتب الشاعر يقول :
يوم آخر بلا بهجة
هكذا أصحو أسياناً وأفكر
لم أفقأ عين أرملة
لم أسلخ جلد طفل
لم أغرس أسناني في لحمي
ولو بضعة سنتميترات قليلة
على سبيل التسلية أو التغيير
الشياطين التي تتراقص في المرآة
أمام عيني مباشرة
طيبة لدرجة مخجلة
يبدأ الشاعر قصيدته حاملا معاناة إنسانيته داخل هذا الإيلاع الذي أحاط بقلبه الصغير .فأتى الشاعر بلفظين كليهما يعبران عن الرمزية الشعورية وهو الطيبة . أستخدم الشاعر لفظة “الطيبة” الترادف للشراسة للتعبيرعن مدى الحزن الذي أصابه وجعله يرنو للمرآة .
وبالركون للدلالة وإزدواجية المعانى في إستخدام وتوظيف “الطيب ، الوفاء ” فإن الطيب يراد به القلب المحزون بفعل الفقد ويلاحظ أن دلالة السيميائية المشتركة بين العنوان وعتبة النص .وكذلك إستخدم الشاعر الطيب علي حقيقة الإسم المراد به موطن الشعور ومجاز الإحساس معا .إلا أن الطيبة الذي يتأسف الشاعر إنها شياطين لا يقوى علي مجابهة العالم المتغير والذي ضاق عليه وأخرج من المرآة شياطين ذاته لذات أخري ، غير راضٍ عنها . ومن الملاحظ أيضا أن الدلالة الإسمية للعنوان بما توحيه من دلالات ومقاصد جعلت من العنوان الرئيس للديوان” مكان مشبوه” والقصيدة التي إفتتح بها الشاعر ديوانه بات ذات رابطة إستراتيجية بين قصائد الديوان
وبين سيمائة الديوان . ولقد جاءت الكثير من عناوين قصائد الديوان معتمدة على الجملة الطويلة مثل ( الحشرات التي تجري في عروقي لا أستطيع أن أقنعها بمغادرة المكان الذي ألفته
روحي أيضاً لم تعد طيعة
انخلعت من جسدي ..) من الملاحظ على هذه القصيدة أنها رغم طولها الواضح من جهة التراكيب إلا أنها تعتمد بشكل أو بأخر على عنصر محذوف مقدر .يرجي تقديره للقارئ قاصدا إحكام الدلالة والسببية بين العنوان والقصيدة . وبالتحقق من الدلالات المشتركة بين العناوين وسيميائية الديوان تكتمل الرؤية القصدية والمضامين المقدرة على سياق واحد وهو الصراع الذاتي بين النفس والروح ، بين القبح والجمال وبين المتغيرات والثوابت .وأن جل مسميات القصائد تكشف عن ذلك الفاعل المستتر بين طياته ، وأن عموم البنية التى عمد الشاعرمحمد الكفراوي إلى أن تكون القصائد ما بين الإسمية والبنية الفعلية مثل ( روحي أيضاً لم تعد طيعة انخلعت من جسدي ) أراد الشاعر أن يحدث مقارعة للرؤية من خلال الإسم على الحدث والفعل المترتب من الحدث كي يحكم البعد الدلالي بين السيميائية الشعرية وبين النص المنبثق من فلسفة القصد الذي ينبئ عنه المضمون ، كأن المضمون هو رسول الشاعر للقارئ والمعرف به .
– ومن ديوان نلاحظ أن الشاعر يعمل على صناعة الدهشة في مخيلة القارئ ،بما تحمله شعرية عنوان الديوان. ,ويلاحظ السميائية الشعرية في ديوانه كعامل حيوي سرعان ما يستقطب وجدان المتلقي ، ومنها يجذب خيال القارئ الي عالمه الشعري بحرافية تشوقية يأسر بها ذهن القارئ ،علي درب الغواية .إلا أن ما تحويه قصائد الدواوين لا تخلو من ترجمة العنوان الرئيس للديوان .وبما أن قضية الذات والنفس أو الآم الإنسانية في أغلب حالاته تتضح رويدا رويدا من خلال دراسة تجربة الشاعر ، وتحقيق قضيته القائمة علي الذات والعالم ، والعلاقة بين النفس والروح في ثوب شعري قوامه الفلسفة وأحيانا التجريد المتعمد في صناعة عنونة القصائد والإشتراك الضمني بينها، وبين السيميائه الشعرية والرمزية في النص . وأن لكل مدرسة شعرية مرجعية ينتهجها الشاعر تقيم بها تجربته الشعرية وأيدولوجيته ،وكذلك معايير القياس ،حيث يحمل الديوان “مكان مشبوه” مدلولاً على الضجروالتأجج والإحتدام .وتُعرب كلمة مكان : خبر مبتدأ محذوف جوازا تقديره هو ، وهو اسم مفعول . وتُعرب “مشبوه ” نائب فاعل لاسم المفعول مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل الياء منع من ظهورها انشغال المحل بحركة مجانسة للياء ، وهو مضاف ، الياء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف اليه . وقد أناب الشاعر كلمة مشبوه : نائب لاسم المفعول . وإذا أردنا التوسع في المعنى سيتضح لنا أن الشاعر استعار شبهيته إستعاضة عن ضجره، وتأففه من فرط الفراغ والخواء من المعاني ومن التمرد علي هذا الخواء .ولو إن قارئ هذا النص إن لم يحُسن ترجمة وتأويل هذا العنوان يصعب عليه الدخول إلى فلسفة الشاعر .فالعنوان هنا ليس مجرد تركيب لغوي فحسب . بل هو وسيلة يستطيع القارئ أن يلج من خلالها إلى رؤية الشاعر التي أفرغها على صفحات ديوانه ” مكان مشبوه” وإذا أردنا تأويل الدلالة الشعرية . اللافتة في بنية القصائد التي يحتوي عليها الديوان ، سنجد أنها تدور حول المضامين القصدية التي أراد الشاعر أن يرشدنا إليها من خلال طرح عنوان يحمل مدلولا أكثر عمقا تناوله بأكثر من زاوية تستوضح هئية ذلك البعيد من خلال مسميات القصائد مثل ( مولع بالأذى ،دعوة للتخريب ، ضجر ،تنويعات على الموت ،بخفة وغيرها …) إذ قال في قصيدة تنويعات على الموت
وبالبحث عن الرابطة الدلالية بين العنوان والتعريف نستوضح هيئة ذلك البعيد المتواري بين مسببات الإحتدام وبين حقيقة التنويعات المجازية في العلاقات الدالة بين مسمى الديوان ودلالة السميائه في بناء العناوين المترجمة لرؤية الشاعر القاتمة، حين أطل علينا من “دعوة للتخريب ” أصقل من خلالها الشاعر مأساة بني آدم مذ خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض .ونلاحظ أن قصيدة تنويعات على الموت < قائمة علي إظهار الوجه الأسود للخطيئة الإنسانية على مر العصور .وعمد أن يأخذنا لتلك النافذة كي نرى سر الإحتدام من خلال قصيدة عمد الشاعر في دلالته المجازية أن يُصدِّر لنا مأساته نيابة عن الإنسانية . كتب محمد الكفراوي نص ” ضجر ” قائلا
وهذا يعني أن بنية ودلالة العنوان لا تنفصل عن بنية ودلالة العمل الذي يعنونه . فالعنوان لا يوحي إما بجزئية تمثليه للنص أولشمولية ، وهو يختزل النص من حيث البنية والمعني معا .وهذا تماما ما تؤكده بعض الإتجاهات في الشعر المعاصر نحو العناوين الرئيسة وعلاقتها بالمحتوي النصي ،وعلاقتها بالعناوين الفرعية . ويتضح ذلك من خلال الفحص الظاهري للعنوان في هذا الديوان والعناوين الثانوية للنصوص الداخلية .تتأكد الرابطة السببية من حيث الإشتراكية المعنوية للمضامين لدى الشاعر ،كما تكتمل الدلالة البيانية في ثبوت العلاقة الموضوعية للمدلول القصدي في إحكام الرؤية الشعرية والتماس بين دلالة العنوان الرئيس للديوان والعناوين الفرعية ، وحتى عتبات النصوص تتطابق إذا
ما دققنا وتحسسنا المقاصد الشعرية وكيفية المعالجة للقضية لوجدنا الآلم الإنسانية التي حملها الشاعر نيابة عن أوجاع وهموم البشر .
ثالثا : وضعية العنوان
سنتاول في هذا الجزء من دراسة السيميائية الشعرية والبنية الدلالية كيفية صناعة العنوان في شعر محمد الكفراوي .وحقيقة أن للغرب دورا بارزا في تفنيد واضع العنوان وفقا لمعايير دقيقة .إذ يقول د. جمال حمداوي في كتابه ” صورة العنوان في الرواية العربية ” إن كتابة العنوان ما هو إلا فاعلية لها شروطها وملابساتها المستقلة عن كتابة العمل نفسه . وتتطلب من واضع العنوان وقتا من التأمل والتدبر لتوليده . وتحويله إلى بنية دلالية معينة ، لأن العنوان في أغلب الحالات يقدم ملخصا للنص الذي يعنونه بطريقة تقريرية مباشرة أو إيحائية رمزية . لذلك فإن كل عنوان يلصقه الكاتب على ظهرروايته أو يعلق كالثريا في رأس الصفحة أو يموقعه في وسط كل فصل أو قسم ، لا شك أن المؤلف أفرغ فيه جهدا وتطلب منه إختبارا
لأن صياغة أي عمل إبداعي هو جزء من الكتابة الفنية (1) .فإن العنوان عند محمد الكفراوي قد جانبه الإبداع في صناعة الدهشة عند القارئ ، وكذلك إثارة المخيلة بفعل التشويق الذي ينتج عنه التسويق لمنتجه الفني .وأما بشأن البنية الدلالية والرابطة المشتركة بين عناوين الدواوين والعناوين الفرعية للنصوص . هذا بناء علي ما قدمه الشاعر في ديوانه
نخلص مما سبق أن العلاقة بين العنوان والنص عادة ما يصبح مرجعا بداخله العلاقة والرمز وكذلك تكثيف المعنى ،بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته أي أنه النواة المتحركة التي ينسج عليها النص (2)
رابعا : مظاهر الانزياح في العنوان
تعد مظاهر الإنزياح في العنوان ضمن الدراسة الإسلوبية للنص .إذا كان البحث في مسألة الإنزياح هو بحث فيما أسمته البلاغة بالمجاز ،فذلك راجع لخاصية المجاز المتمثلة في وجود “عنصر الاستبدال والإحلال فيه
سواء كان متصلا بكلمة أو جملة وسواء سمح السياق بتجاوز المعاني مع أولوية بعضها على البعض الأخر مثل الكناية ، أم كان يقطع بقصديه أحدهما واستبعاد الآخر كما في الاستعارة (3) مثال الانزياح الاستبدالي الذي يتسم به الشاعر في عنونة ديوانه.
إن عنوان الرئيسي للديوان يحتوي على الإنزياح الاستبدالي ،كونه أزاح حقيقة ” مكان مشبوه ” التي هي اسم حالة من حالات التكوين الخلقي للإنسان بل هي الثالثة من حيث الترتيب ،وبما أن هذا الاستبدال من المادية وهي مرحلة التكوين للمكان ،إلى القصدية المعنوية التي رمز لها بالتشبيه, وعليه فان هذا الاستبدال أو المسمى بالانزياح الاستبدالي عن صحيح خصية اللفظ قد أفاد تأكيد الغرض المعنوي الذي أراده الشاعر هو سمو يرتجيه، حيث أن هذا السمو والرقي لا موطن له سوى المكان .فقد استبدل الشاعر المكان بالمشبوه به جنوحا عن المعنى الحقيقي للكلمة وأخراجها من طبيعتها وأسند لها تكوينا معنويا أكثر بلاغة ورؤية للطهر والخلاص أو الميلاد الجديد . ويلاحظ شكلا آخر للانزياح الاستبدالي من خلال عرض قصيدة من نفس ديوان ” ” عنوانها الشاعر
علي النحو التالي :”نهاية مناسبة قائلا :
فرص النجاة شبه معدومة
وعلى كل منا أن يبحث
عن نهاية مناسبة لحياته
يتضح من خلال المجاز المعنوي في إستبدال “النجاة” وتوظيفها كناية عن ” البحث ” يعد إنزياحا عن طبيعة استخدام اللفظ في غير موضعه للدلالة علي مدى تعظيم حالة الإهتزاز والتذبذب وعدم الإستقرار الذي يعمدالشاعر في تصديره للقارئ ، للدلالة علي ما يعاني من التخبط والترنح .وقد استعار بالنجاة وأسنده للبحث ،مع استبدال المعنى الوظيفي للكلمة ,يلاحظ أن هذا الانزياح عن المعنى الحقيقي ضاعف من قوة المجاز في الصورة الشعرية فأكسبها عمقا وبعدية تستوي مع عتبات النص ومحاكاة عنوان النص.
ما وقد تطرقنا لطبيعة الانزياح الاستبدالي ونوعه في شعر محمد الكفراوي ،والإجتراء على الحقيقة الوظيفية للأسماء والمسميات المستحدثة للأشياء بقصد إحكام المضمون ومحاكاة معنويتها الاثيرية علي منهجية المدرسة الفنية التجريدية ،التي تنشد المجاز على المعنى لا الشكلية الرتيبة على أصالة خصائصها المتعارف عليه .وبحكم أن هذا الانزياح متعلق فيما يخص العنوان وعلاقته بالبنية الدلالية للعنوان .
فقد قسمنا صور الانزياح في هذه الدراسة علي عدة معايير تشمل المجاز الاستبدالي في سيميائية العنوان على النحو الآتي :
1- تراسل الحواس
ويقصد بظاهرة تراسل الحواس علي رأي المدرسة الغربية كمدرسة “بودلير” الذي يرى – أن الإنفعالات التي تعكسها الحواس قد تتشابه من حيث وقوعها النفسي ، فقد يترك الصوت أثرا شبيها بذلك الذي يتركه اللون أو تخلفه الرائحة ، ومن ثم يصبح طبيعيا أن تتبادل المحسوسات ، فتوصف معطيات حاسة بأوصاف حاسة أخرى ، بل يضفي الشاعر خصائص الماديات على المعنويات أو يخلع سمات المعنويات على الماديات وهذا ما عمد إليه الشاعر في صناعة العناوين الرئيسية والعناوين الفرعية ،وفيما يلي نستوضح بعض العناوين تراسل الحواس علي مستوى بنياتها الدلالية
إن التراسل الحاصل بين معطيات الحواس في هذه العناوين جلية الوضح فيما هيمن عليه الانزياح على الدلالة لوظائف الحواس ، ونتيجة ذلك غياب أوتغيب بعض المدلولات الحسية والاستعاضة عنها بمدلولات أخرى بوظائف مغايرة .
فعنوان ” غرباء يتربصون بك” يبنى علي التضاد الإفتراضي بين اللمس والنظر، لان الاغتراب يستوجب حاسة اللمس والبصر ، في حين أن الوجود القابع تحت التربص معنوي خلع عليه الشاعر ثوب المادية واسكنه تحت تربصه وأن الانزياح قام عن طريق خاصية التجسيد والتجسيم موجدا اقتراب الصورة من تراسل الحواس أوبمعنى أدق تبادل المادية بالمعنوية .
وكذلك حاسة الخيانة في العنوان الفرعي ” أصدقائي الخونة ” يأتي الانزياح علي شكلية أخرى بالمجاز بين الصبا وحاسة الخيانة استخدم الشاعر المراسلة بين معنوية المجاز في عنفوان الخيانة محدثا له رائحة ، في حين إن الخونة لا يرى كونه مجاز معنويا ، وبين حاسة الرؤية . دعم بها مدى تأثير هذا الصبا بإضافته للمادية التي تخضع لخاصية الخيانة . ويلاحظ أيضا شكل أخر من الانزياح صنعه الشاعر في هذا العنوان الفرعي وهو ” ارقصوا على قبري ” تبدو الصورة الشعرية من بنيتها مجازية ، فان القبر حين ترد في صورة شعرية فأنها تستجمع الحواس الخمس مجتمعة أي الرقص،اللمس ، النظر ،السمع ، التذوق .وذلك لأن الرقص يرى ويلمس ويتذوق ما به وكذلك يُسمع حين الحركة والتمايل . اشتمل هذا العنوان علي عمق أكثر شمولية في ترسيخ تراسل الحواس ما بين المادية والمعنوية في الانزياح .” وهنا يجد القارئ نفسه أمام حالة نفسية وشعورية على غير العادة .يستقبل من خلالها اللفظ والكلمة إستقبالا خاصا ، هذا الإستقبال يعتمد في الأصل على تجسيد المعنويات وإعطائها شكلا يختلف عن شكلها الطبيعي المتعارف عليه .فإن السكون و الصبا والشفقة ،كلها معطيات مجردة لا يمكن إدراكها بالحواس المادية ,إلا أنه قد أُلحقت بصفات وأفعال معينة تخلت عن طبيعتها المجردة ودخلت في حيز المحسوسات “.
2- التنافر الدلالي
يعتبر التنافر طابقا من بناء يشمل طابقين إثنين
وهو الطابق الذي يحقق وضعية الانزياح لبنائه على خرق منظم لقواعد الكلام ، ويصبح معه التركيب شاذا من الناحية المنطقية ،لكنه يبقى مع ذلك لحنا مبررا على حد تعبير “تودوروف ” وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر هو المسئول عن الطابق الأول الخاص بتشكيل الإنزياح
أما المتلقي فهو موكل بالطابق الثاني الخاص بفك هذا الانزياح وإعادة الترتيب إلى المنطقية لما أراد الشاعر هو من يعمد إلى خلق التنافر داخل تراكيبه ، إنما بفرض على القارئ أن يتحرك داخل التنافر ليكشف المخرج من داخله ، وهو بذلك يلفت نظر القارئ إلى أن التنافر الطريقة الوحيدة التي تؤدي إلى الدلالة المقصودة ، بطريقة شعرية حقا ، إذ لا مجال للتنافر داخل الكتابة النثرية التي تتميز بشفافيتها وقابليتها على أن تسمح بإبراز مكنوناتها بعيدا عن أي إلتواء أو إنحراف عما هو منطقي
ومن خلال البحث عن الدلالة الأقربإلى المنطقية لما أراد الشاعر تصديره لمخيلة القارئ وقد احتوت عناوينه الرئيسة والفرعية للقصائد على صور عديدة للتنافر الدلالي ومنها
قصيدة “يستحقون الضرب بالصرم”
يبدو من خلال عنوان القصيدة ويلاحظ ،أن محمد الكفراوي مفتون بالجمع بين المتناقضات التي ينفي كل منهما الآخر نفيا قاطعا ، بحيث لو وقفنا على حقيقة الدلالة المعجمية لهذه المتناقضات لترتب على ذلك مقارعة اللامعقولية المنطقية لكل تناقض كما عنوان { يستحقون الضرب بالصرم } إذ يبدو التنافر واضحا حين أسند الشاعر الضرب إلى الصرم الذي هو دلالة الصوت الصاخب غير محدد مضمون .فليس من المعقول أن يكون للصرم ضجيجا كي يهدأ ،إنما تعود الدلالة المعقولية المجازية لتعبر عن عظم الصراع الذاتي غير المسموع ، إذ يكون الضجيج داخليا يسمع من الأنا الداخلية للشاعر.
ويلاحظ أن هذا التنافر اللامعقول حينما يشير هذا التركيب اللامنطقي إلى خلق إثبات من النفي ،حيث أن الضرب يتعارض تماما جملة وتفصيلا مع الصرم ،ولا تنتفي حقيقة المدلول الثاني أي لم تتغير معقوليتها بتغير المعنى المتناقض كماحقيقة ” الضرب ” فتأتي الصورة لإثبات الدلالة القائمة على النفي . وكما هو التناقض في العنوان السابق ،جاء عنوان فرعي من قصيدة “فوبيا” نحو التالي:
أخبريني يا عمتي الطيبة
كيف غافلت الموت
وأتيت إلى سريري
لم أحتمل حكاياتك المكرورة
تبدو هنا التناقضات المتنافرة بين ” ” إذ يتضح لنا اللامعقولية أن يكون السقوط في المغافلة شعور جميل لدى الشاعر .لكن هذا أيضا لم
يغير المدلول الأول وهو المغافلة ولم يخرج من معقوليته ، إنما اختلف المنطق التركيبي للمدلول الثاني ،و ذلك للدلالة على الشعور اللا منطقي حين يقع الشاعر في هروب عمته من الموت كفريسة بالخديعة .
أراد الشاعر أن يجعل من هذا التناقض إشباعا من شدة القبح فينصرف القصد ليظهر مدى سخرية الشاعر من المغافلة حين سقط بفعل الخديعة في الموت ،أو بالآحرى السخرية من الهزيمة ، حيث يظهره العنوان الرئيس للنص .
فيلاحظ أن المدلول المتناقض تنافر بين كلا اللفظين ” غافل : الموت ” إن أداة التنافر “لن ” فقد استخدم الشاعر أداة النفي الدالة على نفى وقوع الحدث في المستقبل ،ويستبين التناقض بين النفي للقادم مع ” تاريخي ” حيث أن التاريخ حدث في الزمن الماضي وأداة النفي لن تنفي ما هو قادم ، يحتبك القصد في تنافر زمنى ما بين الماضي من التاريخ والقادم من العمة . أما عن القصيدية المجازية بين دلالة النفي والإثبات ، المستقبل والماضِ تنصرف صيرورتها إلى فقدان الإتجاهات لحقيقة ذات الشاعر النائبة عن رقي الأنسانية ، والدلالة التي حملت التضاد بين الألفاظ والمفرادت فأحتملت التناقضات دلالة شعرية ذات كثافة وقوة أضفت على النص تمييزا بفعل حركة التفاعلات بين طرفي التضاد .
وكذلك العنوان الفرعي لقصيدة{ هوس }
أشتهي أذنيك أنت صديقي
لذا أعدك أنني لن أزعجك
سأقضمهما بهدوء
حين استخدم الشاعر اللامعقولية بالتنافر بين الفعل والإسم ،فقد استخدم الفعل ” أذنيك” مع الإسم ” اقضمهما ” يبدو في هذا النوع من التنافر للدلالة على المعنى المعقول من التوظيف اللامعقول أو بالأحرى اللامنطقي في صورة شعرية يراد بها خلع الحسية المادية على قضم الأذن ،التى جعل الشاعر عدم الازعاج كناية عنها ، ويلاحظ دلالة التناقض من تجسيد غير المادي بمنطقية المدلول الأول وهو فعل الاستجماع . قد أحدث هذا التناقض في تنافر المدلول الأول والمدلول الثاني على القضم لأذن صديقه أملا يرتجى ولكنه غير منسوج لا ملامح له ، كمن يجمع يأكل شئ طبيعي ، من المستحيل أن تجمع , فأتى الشاعر بمن يعيش على أمل كاذب صنعه من الوهم.
……………………….
1-. جمال حمداوي في كتابه “صورة العنوان في الرواية العربية”
2- المصدر السابق
3- صلاح فضل – بلاغة الخطاب وعلم النص .