ماجد سنّارة
كنت أشاهد مباراة في الجرن، غالبية اللاعبين حفاة الأقدام، يختلط التراب بالعرق، خاصة مع حرارة الشمس العالية، مباراة عن فلوس، يتناطحون كأنهم في حلبة مصارعة، يزداد اللهيب فأغير مكاني، أجلس في الظل، حتى أتت أم حلمي، نادت عليه ليخيط حذاء زبون مستعجل، ترجاها أن تتركه لدقائق، رفضت، فأصر على موقفه، سكعته كفًا على خده أمام زملائه، دمعت عينا حلمي، وتحرك خلفها مطأطأ الرأس.
طلب “ياسر” قائد فريقه بإلغاء المباراة، رفض الفريق الآخر بحجة أنهم متقدمون بهدف، في حالة الانسحاب يحصلوا على المال، اقترح ياسر عليهم التأجيل لأن فريقه ناقص العدد، أشار أعضاء الفريق الآخر ناحيتي وقالوا: “كمله بالواد ده”.
استجاب على مضض، ونادى علي لكي آتي، قمت من مكاني بخطوات سريعة، كنت في رابعة ابتدائي، وهم في المرحلة الإعدادية، طلب ياسر من حارس مرمى فريقه باللعب كمدافع، ثم أمرني بالوقوف مكانه رغم قصر قامتي، لا عارضة ولا قوائم، فقط قالبا طوب، وتحديد الهدف متروك لتقدير الغالبية، استجبت مدفوعًا بالفضول، رغم أنني ألعب مع رفاقي كمهاجم صريح، يطلقون علي لقب “توريس” مهاجم إسبانيا الشهير.
استكملنا المباراة وعينك لا ترى إلا النور، سجلنا هدف في الثاني فالثالث، وأنا في قمة الفرح، سدد علي أحدهم كرة أرضية زاحفة، ارتميت وتصديت لها رغم أن ملابسي تمرغت في التراب، شجعوني بقوة، فتعمد بعدها المنافس أن يسدد كرات عالية، كل كرة بهدف، وانتهت المباراة بخسارتنا، ركلني ياسر شلوتًا متينًا، أنت له عظامي الخلفية، وقال:
- عيل معوق ابن لبوة.. ضيعتنا.
حزت الكلمة في نفسي، تماسكت حتى عدت للبيت، أغلقت علي غرفتي وبكيت عندما رأيت في المرآة ساقي المقوسين.
…
عدت للجرن بعدها بفترة، كانوا هذه المرة يلعبون بالحب، وقفت في التقسيمة، وجدت نفسي الخيار المتبقي والوحيد لفريق ياسر، أخذني مرغمًا، توقعت هذه المرة أن يشركني في مركز آخر، خاصة وأن الفريق به على أقل تقدير اثنان كل علاقتهم بالكرة أنها مدورة، “نطاط الحيط” المبرمج على التمرير لياسر فقط، “مرزبة” صاحب التدخلات العنيفة، شعاره “اللي يفوت يموت”.. في النهاية وقفت كحارس مرمى مرة أخرى.
افترس فريقي خصمه برباعية في أول خمس دقائق، كأننا نلاعب نفسنا، بدأت أشعر بالملل، الملعب متاح للجميع وأنا حبيس منطقتي، لا أستطيع التقدم أكثر من بضع خطوات، أمني نفسي بالفرصة، الانطلاق في كل أجزاء الملعب، تسجيل الأهداف.. أن أرْكِل لا أُركَل.
طلبت من ياسر قبل نهاية المباراة بقليل واطمئنانه على الفوز أن يمنحني فرصة التحليق في الملعب، نادى على “مرزبة”، فشوح له بيده رافضًا ووصفني بـ “الزبلة”.. زعق ياسر على “نطاط الحيط” فرفض بضحكة سمجة وقال:
- يعني عاوزني أقف جول علشان ابن النتافة يرمح في الملعب براحته؟ حتى عيب عليك.
أكملت المباراة في حراسة المرمى، ولسنوات احتقرت مهنة أمي!
…
في اليوم التالي عدت للجرن، اختارني ياسر هذه المرة من تلقاء نفسه، أراد الراحة من وجع الدماغ والزن على الأذن، فأنا الوحيد الذي يقف كحارس مرمى من بداية المباراة لنهايتها عكس الآخرين، يبدلون المركز مع بعضهم، فرحت بثقة ياسر ونسيت الشلوت، وقفت هذه المرة بحماس، فريقنا يهدر الكثير من الفرص برعونة، خاصة ياسر، أنقذت المرمى في مرات عديدة، لا أعرف من أين أتتني هذه البراعة.. تأتي مع “الهُبل دُبل”.
سجل ياسر هدف المباراة الوحيد قبل النهاية بقليل، فرحنا بشدة، فالمباراة عن فلوس، وفي الثانية الأخيرة، انفرد بي أحد اللاعبين، استعذت بالله وقلت بصوت عالٍ : “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”..
هوب الكرة خبطت في “محاشمي”، صرخت من الألم، خشيت أن تكون الكرة الطائشة قد فرقعت إحدى كُراتي.. ظللت لدقائق في حالة وجع وقد اصفر وجهي، حتى قمت في النهاية واللاعبون يكركرون بشدة، قال أحد أعضاء فريقي رابتًا على كتف ياسر:
- عاش يا نجم.. كسبتنا الماتش.
انفلت لساني وقلت:
- طب ومستقبلي اللي كان هيضيع؟!
…
عشقت “بوفون”، لكنه لم يفز بجائزة أفضل لاعب في العالم، وصلت لنهائي الدورة الرمضانية مع فريقي، الفائز سيحصل على فانلات مضروبة لفريق ريال مدريد، المباراة مغلقة، شحيحة الفرص، أشعر بالغيظ، يضيق صدري وأضرب الأرض بقدمي، زهقت من الوقوف في مستطيل محدد، إن تخطيته ربما يسبني الجميع، للحظة فكرت في ترك المرمى ومغادرة الملعب وتخرب مالطة، لكنني أعود لعقلي سريعًا، أتت هجمة مرتدة للمنافس، أطال اللاعب الكرة، خرجت من المرمى وقطعتها منه، وفي لحظة طيش مفاجئة، تابعت بالكرة، تخطيت الأول، وتجاوزت الثاني، وفتحت بين ساقي الثالث كوبري أكتوبر.. وسط صرخات ولعنات وشتائم من فريقي، خرج حارس الخصم من مرماه، مررت الكرة لياسر والمرمى خالٍ، سجل الهدف وخلع الفانلة ليجري خلفه غالبية الجمهور ويحتفلون معه بسعادة جنونية.
فزنا بالكأس، وحانت لحظة الإعلان عن الفائز بلقب أفضل لاعب في الدورة، تحفزت، وكبر بداخلي الأمل، راقبت حركة الشفاه، أرهفت سمعي.. الفائز مثلما توقع الجميع.. ياسر؛ لأنه مهاجم وقد سجل هدف البطولة!. هنأته بابتسامة، وغادرت الملعب، وقد قررت العودة إليه في المرة القادمة بشكل مغاير، مغاير جدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري
من مجموعته “السمانة التي أضاعت مستقبل حمادة”.. صدرت عن دار المحرر