نعيمة عبد الجواد
هل تواجدت يومًا في سرادق عزاء وفوجئت بأحد يملأ الضحك والابتسام وجهه بدلًا من الحزن والتجهُّم؟ وهل أصابتك الدهشة من نفسك إذا زلَّت يومًا قدمك أمام جمع أو جُرحْت أو حدث لك موقفًا محرجًا ووجدت نفسك تضحك؟ ولربما كاننت حينها ضحكاتك هستيرية بينما في داخلك تتمنى البكاء لكنك لا تستطيع، فتدهش من ضحكاتك البلهاء. في تلك اللحظة لن تتذكر إلا نموذج شخصية “الجوكر” الذي اعتاد على أن تداهِمه نوبات ضحك هستيري متواصل عندما بلوغه أقسى درجات الحزن والأسى.
وجد الباحثون أن السبب أُسس التنشئة في المراحل الأولى من العمر، عندما يعلِّم الآباء والكبار الأطفال ألَّا يلقوا لسفاسف الأمور بالًا؛ لأن من المفترض الضحك على الأحداث التافهة، وما دون ذلك يُعطي الفرصة للآخرين لاكتشاف نقاط ضعف أو عوار في شخصية المرء، ولربما استغلَّها، وهذا من وجهة نظر المجتمع. ولهذا، لا يجب التعجُّب من تفشِّي الضحك في أحد الأماكن بعد إطلاق شرارته؛ فالضحك كالعدوى، وكثيرًا لا يعلم المرء سبب الاسترسال في الضحك أو حتى استشراؤه.
ويؤكِّد خبراء علم النفس سواء في العصر الحالي أو من قرون عديدة ماضية أن الضحك قبل أي شيء وسيلة للاستشفاء العقلي وإعادة التوازن النفسي؛ فهو كعصا سحرية لديها القدرة على إصلاح أي عطب نفسي من خلال صرف الانتباه عن المشكلة نفسها. والغريب أن العقل الباطن الذي يتحكَّم في الأفكار والتصرفات من السهل خداعه بضحك ومرح مُتصنَّع، فينصرف العقل عن التفكير الزائد، مما قد يُنهي أعتى نوبات الاكتئاب. فالضحك والمرح لهما العديد من الآثار الإيجابية على النفس البشرية، فهما مفتاح مغاليق العقول. ومن الجدير بالذكر أن المعلِّمين في كثير من الأحيان يجنحون لترديد الفكاهات أو يعمدون إلى إثارة ضحك الطلَّاب بالعديد من الوسائل حتى لا تتحوَّل قاعة الدرس إلى مكان قاسي على النفس يُصَب فيه العلم صبَّا في عقول الطلاب. ولهذا، يزداد معدل فهم وتركيز الطلَّاب بعد صرف انتباههم لوهلة بفكاهة أو طُرفة تستفز الابتسام ليتبرعم على الشفاه. فالإرهاق النفسي في حجرة الدرس يجحب العقل من استقبال المزيد من المعلومات، أو حتى يشتته في أفكار لا طائل منها.
والضحك والفكاهة ليسا بالأمر القاصرعلى من هم في موقف محرج أو طلَّاب أو من يعانون من نوبات حزن واكتئاب، فبالتركيز قليلًا على النفس، يلاحظ أن من يشعر بالارهاق أو التعب وخاصة بعد يوم عمل طويل وشاق قد لا يجد وسيلة لتهدئة النفس إلا بقراءة أو مشاهدة مادة كوميدية أو سماع بعض النكات، وكذلك ينطبق الحال على من يعانون من الأرق؛ ففي أي من الأحوال يرغب المرء عن الموضوعات الجادة، ويفضِّل عليها المواد الخفيفة التي تصرف الانتباه وتوقف سيل الأفكار المنهمر الذي يحول دون الاسترخاء والنوم. فالفكاهة تحفِّز العقل على إفراز هرمون الدُوبامين، الذي غالبًا ما يطلق عليه اسم “هرمون الشعور بالسعادة”؛ والذي يمنح المرء الشعور بالمتعة ويكون بمثابة الدَّافع للقيام بعملٍ ما سواء أكان التركيز أو الذهاب للعمل أو الخلود للنوم. والدوبامين هو جزء أصيل من نظام المكافأة في جسم الإنسان. ولهذا السبب لا تستغرب إذا وجدت من يغرقون في الضحك عند سماع النكات الرديئة أو مشاهدة أفلام المقاولات الكوميدية السخيفة؛ فالتفسير الوحيد أن جسدهم المنهك يحاول بشتى الطُّرُق أن يُثير هرمون الدوبامين.
ومن أفضل من استطاع استغلال حاجة الإنسان للحصول على هرمون مكافأة النفس هم كتَّاب الكوميديا وخاصة الساخرين منهم، حيث استطاعوا تمرير أفكار هادفة أثناء لحظات شعور المرء بالسعادة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو الروائي الأيرلندي “جوناثان سويفت” Jonathan Swift (1667-1745)، والكاتب المسرحي الأيرلندي “جورج برنارد شو” George Bernard Show (1856-1950)، وكلاهما قدَّم نقد سياسي واجتماعي بحرفية لا مثيل لها مع تبطينه بغطاء كوميدي ساخر. أمَّا الروائي الأمريكي “مارك توين” Mark Twain (1835-1910)، فبالرغم من إتِّخاذه للفكاهة والسخرية وسيلة لتمرير أفكاره، إلَّا أنه اختلف عن سابقيه وتاليه من الكتَّاب الساخرين. وفخرًا بإنجازاته أُطلق عليه لقب “أعظم كاتب فكاهي في الولايات المتحدة”، أمَّا الكاتب الأمريكي “ويليام فوكنر” William Faulkner وسمه ب”مؤسس الأدب الأمريكي”؛ فلقد أنقذ الأدب الأمريكي من التبعية للآداب الأوروبية بما في ذلك الساخرة منها، ثم أضفى عليها روحًا أمريكية فريدة. وكان “مارك توين” الكاتب الذي استطاع استخدام الألفاظ العامية بكثافة في كتاباته وإثارة فكاهات اعتبرها جمهور زمانه بذيئة، لدرجة أنهم منعوا النساء والأطفال من قراءة أعماله. لكن النجاح السَّاحق لرواياته جعلها تدرَّس في المدارس والجامعات إلى يومنا هذا؛ وذلك لاحتوائها على الحكمة والنصيحة والنقد الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع الكوميديا الهزلية.
وبدأ “مارك توين” فكاهته الحصيفة منذ لم فشله في أن يكون متدربًا أو عامل مناجم ماهر، فلجأ للصحافة وغيَّر اسمه من “صامويل كليمينز” Samuel Clemens إلى “مارك توين” وذلك حرفيًا مقياس لسير المراكب في مجاري المياه بطريقة آمنه، ولقد قصد ذلك اللقب. وكان “توين” مُحبَّا للعلوم والتقدُّم والمغامرة والتجارة، إلى جانب انغماسه في الحياة السياسية. ويُذكر أنه استثمر أمواله الطائلة الذي جناها من الكتابة في مشروعات علمية فاشلة مما اضطره لاشهار إفلاسه، لكنه لم يكف عن حبه للعلوم والتقدُّم وصداقته المقرَّبة للعالم الفذّ “نيكولا تيسلا” Nicola Tesla. وذلك يُضاف إلى مناداته بالمساواة ونبذ التفرقة العنصرية ومناهضة الإمبريالية والحروب الغاشمة، مما جعله صديقًا لكبار الرؤساء والساسة في الولايات المتحدة وأوروبا.
ولمارك توين العديد من الأقوال التي يرددها سكان العالم بشكل تلقائي؛ مثل: “ادخل الجنة لطقسها الرائع، والنار من أجل الصُّحبة الجيدة”؛ ويعني بذلك أن جميع من بيدهم زمام الأمور مصيرهم النَّار. وكذلك “يجب أن نبذل الشُّكر للمغفَّلين؛ فلولاهم ما استطاع الآخرين إحراز النجاح،” وهو بذلك يعمل على وسم الجميع بالبلاهة. وعندما نقد إدمان التدخين والدعوة للإقلاع عنه قال: “من أسهل الأمور على الإطلاق الإقلاع عن التدخين؛ فلقد فعلت ذلك آلاف المرات.” أمَّا عن حياته الشخصية، فلقد كانت تتطابق تمامًا مع ذاك الأسلوب الفكاهي الساخر الحكيم دون تصنُّع، مما ساهم في تعميق مصداقيته.
لقد كافأ “مارك توين” قرَّاؤه بفكاهة عميقة لكنها خفيفة يستطيع جميع الطبقات الاستمتاع بها، فهي تمنح الرَّاحة لمن يشعر بالقلق أو القابع في منطقة الرَّاحة. لا ينقِص الضحك والمرح من قدر الإنسان لطالما كان وسيلة لإعادة التوازن النفسي أو وسيلة للتواصل الهادف مع الآخرين.