قصائد من ديوان “يطل على العالم من نافذة زرقاء”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سيد أحمد 

المُفْلِسُ وَالِّلصُّ وَمُزَوِّرُ العُمْلَاتِ

هذا أنا

والنِّصفُ الآخَرُ

قد أدمنَ الغيابَ

إذ مرةً لأنه؛ -وهذا ربما يكونُ محلَّ شكٍ- حزينًا هذه الليلة

أو لأن أعاصيرَ الأرقِ المزمنَ تضربه من ليلةٍ فائتةٍ

جراءَ قلقٍ سرمديٍّ ليس له أهميةً، ويضيع دائمًا، سُدىٰ

أو لعلَّ النومَ قد قصف أثناءَ النهارِ، نصفَ وجهٍ

وبقيَ الآخرُ يقاومُ نوباتِ الغضبِ

قرَّرَ الاختفاءَ، بمنتهىٰ الحبِّ، والضعفِ

ليُحَرِمَ عَلَى العَالَمِ، عينًا لا تزالُ تقاومُ ضعفَ البصرِ

وأذًنا ترهفُ السَّمعَ، كي لا تترددُ عن إنقاذِ الصغيرِ من البكاءِ

أو لديها بقيةٌ من شغفِ الإنصاتِ لحكاياتِ الأصدقاءِ التافهةِ

وكتفٌ لم تتوسدْهَا الحبيبةُ في الليالي الباردةِ

ونصفُ أنفٍ أرهقته أتربةُ هذا الوطنِ، تمامًا، كرائحةِ الرطوبةِ بالزنازينِ المظلمةِ

 

إثرَ صفعةٍ من هذه الضيِّ

بالأحرى، إحدى كتاباتِها المدهشةِ

إذ تقول بلسانِ ليندا باستن، بهذه البساطةِ المشتهاةِ!         

“أتعلمُ التخلِّي عن العالمِ

قبل أن يتخلى عنِّي”.[1]

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

أَنا كأسُ نبيذٍ فارغةٍ

 أُطِلُّ علىٰ العالمِ منْ نافذةٍ

زرقاءَ، حمراءَ، ورديةٍ، وتعيسةٍ

دونَ أملٍ

 

هذا شأنُ النَّهارِ

وفي المساءِ يسألُني زميلٌ

أو صديقةٌ

كيفَ حالُ العملِ؟

أشعرُ بالامتنانِ أثناءِ الإجابةِ

قائلًا بمكرٍ: أقله، لدى عمل أكرهه!

وربَّما أحكي لهم يومًا عنْ صديقٍ هناكَ

لا ينفكُ يخبرني

أنَّ مجيئي كانَ عبئًا لا يُحتملُ

وأنَّ الأصلحَ -لِعِلَّةِ اغترابي عن أحاديثِهم الجانبيَّةِ-

ربَّما أن أمكثَ في البيتِ

أشاهدُ فيلمًا

أو أمضي بعضَ الوقتِ في كتابةِ آراءِ النزلاءِ

عن تجربةِ التحليقِ فوقَ منزلِنا

 

أمَّا عملًا بنصيحةِ “بودلير”

فقد قررتُ الغيابَ عنِ الوعيِ

وعنِ الحُلمِ بعالمٍ أفضلَ

وهي ذاتُ النصيحةُ لطبيبي النفسِي

إذ توقفتُ لشهورٍ طويلةٍ عنِ الحديثِ إلى صديقي المقرَّبِ

ولعلِّي فقدتُ الرغبةَ مجددًا

شيئٌ مؤسفٌ، أليسَ كذلكَ؟

الجِلسةُ؛ بأحدِ المقاهي

تناولتُ عقارًا، لا أعلمُ كيفَ يعملُ

فقط، شعرتُ بهدوءٍ يجتاحُ كلَّ الأراضي المحرَّمةِ

وكلَّ الأفكارِ الانتحاريَّةِ التي سعيتُ لتجريبِها جميعًا الليلةَ الماضيةَ

تغفو على طرفِ سريري كلَّ الأسئلةِ الحادَّةِ

فيعُمُّ سلامٌ نسبيٌّ بعدَ العاصفةِ

 

في العودةِ لاقتْ عينايَ طفلةً

تضحكُ عاليًا

قبلَ أن ينتهيَ العالمُ

وقبلَ أنْ تشيرَ إليَّ بكفِّهَا

أو أنْ أبادلَها ذاتَ الفرحِ

بذاتِ اللحظةِ، راحتْ تخضعُ لإمرتي كلَّ المشكلاتِ السابقةِ

معَ رأسِ الدولةِ الملحدةِ

ومع حبيبتِي بينمَا أغنِّي “غابْ عنِّي المحبوب وبَكِيت”

تذَّكرتُ قولَ صديقٍ في معرِضِ تفسيرِهِ لفشلِه في الحبِّ

إنَّ الحبَّ لعبةٌ

وهو لا يجيدُ اللعبِ، ولا أنا ولا نُريدُ

إذ ينبغِي أن يكونَ الطرفانِ بنفسِ المستوى لكيْ يستمرَّانِ باللعبِ، أو الكذبِ

فما إن كشفَ لمحبوبتِه عن مشاعرِه، انتهتِ اللعبةُ

خسرَ بهذهِ البساطةِ، وزهدت فيهِ!

لينتهيَ وقد وصلَ

-مكذِّبًا ما حدثَ-

لـغاب عني المحبوب وبكيت!”

لم يكنْ عالمُ الطفلةِ أجملَ

فحسب

بلْ كانَ محتملًا!

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

قَصِيدَةٌ خَلَّفَتْهَا الْحَرْبُ!

لِي حكايةٌ لا تشبهُ الحكاياتِ

ولو أتجنَّبُ الحديثَ عنِ الأمرِ

فإن العيونُ تعرفُ كلَّ شيءٍ، وتخبرُ كلَّ شيءٍ

والأنباءَ عنِ القصفِ المدوي لا تكفُّ عنِ التداولِ

نبراتُ الصَّوتِ تعِي جيدًا مطلعَ الحكايةِ

وتعِي المُنتهَى، وتتألمُ

 

ولِي أمٌّ ‏

قد هجرَتْهَا الحربُ

تعودُ جذورَ عائلتِهَا إلى رام الله

وديرِ الزورِ والخليلِ وغزة

تعيشُ بالقاهرةِ

تنجبُ الأولادَ والمؤنساتِ

تُدعى أمل أو تُورثه!‏

 

هكذا يحملُ الأطفالُ سلاحَهُم ‏

هكذا قدْ تُخبر أنَّ القسمةَ على اثنيْنِ غيرَ جائزةٍ

وهكذا فأرضُ اللهِ واسعةٌ وهذهِ أرضِي

هذه ديارُ الشُّجعانِ وديارِي

فلِي في كلِّ ضيعةٍ حُلمٌ

وفي كلِّ مسجدٍ موضعٌ لصلاةٍ

وفي كلِّ بيتٍ شيءٌ من دفءِ أمِّي

وحكايةُ الجدَّاتِ

ولِي في كلِّ حيٍّ مسكنٌ قديمٌ

قِدَم الحياةِ

يعِي لُعبةَ التَّاريخِ جيدًا

ولي مفتاحٌ حديديٌّ لبوابةٍ خشبيَّةٍ

أحفظُهُ جوارَ القلبِ

يُتلَى بقائمَتِهِ: إِنَّا عَائِدُونَ!

فكيفَ إذنْ لا يكونُ وطنِي؟!‏

تُرى هل يَنسى الزمانُ ولو نَسى الخلقُ؟

من ضحَّى بروحِهِ فداءٌ للزيتونِ والَّنخلِ

هل ينسى المفتاح والأهل والوطن؟

هل ينسى التاريخُ من صنعُوا التاريخَ أنفسَهم؟

دونَ نظرٍ لِمَا خطَّهُ القلمُ

هل تنسى الأرضُ

هويةً، عربيةً، وُلدتْ هُنَا

بأخرى مستعارة من شيمِ النقصِ والكذبِ

هل تأخذُها الأرضُ على محملِ الجدِّ وتنسى أو تنْحنِي وطأةً

تحتَ نارِ القصفِ واللهبِ؟

سيحاولُ المجلسُ الأمنيُّ

أن يَدَّعي البراءةَ من دَمِ ابنِ يعقوبَ كإخوتِه

ستقدِّمُ الجامعةُ دليلَ شملِها المتفرقَ ‏

ووطنية، قومية

تُعذر في أيامِ حاجتِنا إلى النومِ باكرًا!‏

لا تكفُّ عن التنديدِ بالقتلَى ‏

ولا تكفُّ أيديهَا عنِ المباركةِ!‏

وعن دولِ الإخوةِ والجوارِ ‏

تلكَ الممسوخةُ الوجهِ والهوى

ستقدِّم دليلًا قاطعًا على جبنهَا العلنِي

ومحاولاتِ دفنِ الرأسِ تحتَ النعلِ والقدمِ

 

 

ولي قولُ شاعرٍ عربيٍّ فصيحٍ

يلقِي علينَا كلَّ يومٍ قصيدةً

بمطلَعِهَا: ‏كلٌّ يزولُ إلَّا الفِدَا

هُوَ باقٍ وإنْ طالَ المَدَا

وإن لمْ يبقَ على العهدِ

غيرَ سيرةِ البطلِ

أو يقولُ:‏ سلْ بنِي صهيون عنْ وجيعةِ الحرمانِ

وجيعة من لا بيتٌ ولا وطنٌ

سلهم كيفَ يكونُ الشتاتُ

همْ أولادُهُ لا محالةَ وإنَّما

سلهُم عن آبائِهِم أو بنِي عمومَتِهِم

هل لهُم أصلٌ يُعْرَفُ كيْ ما يكونُ لهم وطنٌ؟!

 

سلهُم عن آبائِهِم أو بنِي عمومَتِهِم

قد تكونُ الإجابةُ مُخزية

فلا أنساب بينَهُمُ ولا أصل

هُم أبناءُ المشاعِ كلُّهُم

والمشاعُ في لغةِ العربِ

يعنِي أنْ تعجزَ الأرحامُ عن إفادَتِنَا

أيْ مِن نطفِ الرعاعِ قد تلج

فيُخّلقُ منْهَا الرَّحمنُ في عليائِه

مَا يكونُ مثلًا به يُعرفُ

النّجسُ والقذرُ ..

هذهِ ليستْ قصيدةً تريدُ أن تُسمعَ العالمَ

صوتَ أنتنا

ولا لِيكفّ القلمُ عن التثاؤبِ فيرتحِلُ

لنصرةِ القدسِ والحقِّ والفجرِ سواسية ‏

أو لتعلوا هاماتنا بنصرِ البلاغةِ فنبستمُ

وهَبْ فقَطْ ‏

أنَّ هذه قصيدةٌ قد خلفتْهَا الحربُ

يقولُ شاعرٌ من أولادِها الأولِ:‏

“ليظلَّ كلامنا للقدسِ

عنها لا لَهَا

ولَهَا البنادقُ

حين لا تجدِي الكتبُ”!‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الاقتباس بين القوسين لـ ليندا باستن، ترجمة: ضي رحمي.
الديوان صادر عن مؤسسة مزيج للنشر ـ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2024
وصل للقائمة القصيرة في جائزة الشاعر مهاب نصر 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project