عبد الله إبراهيم
اختُلف حول التجربة السرديّة لنجيب محفوظ ، وتضاربت الآراء النقديّة حولها، ففيما رآه كثيرون المانح الحقيقيّ لشرعيّة الرواية فى الأدب العربي الحديث، وجد فيه آخرون السدّ الذى حال طويلاً دون تجديدها، ودون شيوع الأبنية السرديّة والأسلوبيّة الجديدة فيها، وطالما نُظر إلى الرواية بابتذال ودونيّة قبله، فيما تبوّأت بعده مكانة كبيرة إلى درجة ذهب فيها معظم النقاد إلى أنّها ديوان العرب فى العصر الحديث، باعتبارها سجلاًّ مجازيًّا كبيرًا للأحداث والآمال والإخفاقات والتطلعات، ولكل الأصول الثقافيّة والقيميّة الفاعلة فى المجتمع العربيّ. ولا مراء فقد كان له الدور الأوّل فى انتزاع شرعيّة السرد، وتعميم قيمته التمثيليّة فى الأدب العربيّ خلال القرن العشرين.
لم تقطع التجربة السرديّة لمحفوظ علاقتها بالموروث السرديّ، لا من ناحية الموضوعات ولا من ناحية الأساليب، ولا من ناحية الأبنية السرديّة، ولكنّها، بالقطع، ليست محاكاة لها فى كلّ ذلك، إنّما ابتكار لم يُشح بوجهه عن التركة السرديّة القديمة، ولم يتنكّر لها؛ فقد تسرّبت إليها القيم الأبويّة التى كانت مركزًا جاذبًا للحبكات فى المرويّات السرديّة، لكنّها قُيّدت بالأحياء الشعبيّة فى مدينة القاهرة، فلم تُتح للشخصيّات الحركة الواسعة فى المرويّات القديمة، إنّما ارتبطت ببيئة مشبعة بالتقاليد الاجتماعيّة، وفيها تتعرّض الشخصيّة لاختبار أخلاقيّ قبل أن تكلّف بحمل رسالة جماعيّة، وهو أمر شائع فى المرويّات السيريّة والشعبيّة.
وجاء الأسلوب فى رتبة تتوسّط لغة المرويّات الشفويّة ولغة المدوّنات الكتابيّة الفصيحة، فقد هذّب محفوظ أساليب الأولى، وخلّصها من الصيغ الجاهزة والاستطراد والتكرار والإسهاب، وقضى على التجريد والتعالى والتأنّق المفرط، والتعقيد فى أساليب الثانية، فيكون قد طوّر أساليب المرويّات، ووضع سدًّا أمام أساليب المدوّنات الكتابيّة؛ فانتهى الأمر إلى ظهور أسلوب ثالث طوّرته الرواية العربيّة خلال القرن العشرين، فرسم حدود النهاية للأساليب القديمة من خلال الاستئثار بما يناسب الرواية فى التعبير عن المواقف الفرديّة وتمثيل المواقف الجماعيّة، واستبعاد ما لا يوافق وظيفتها التمثيليّة والجماليّة؛ فالمدوّنة السرديّة لمحفوظ قد تشكّلت فى التخوم الفاصلة بين الأسلوبين، وسرعان ما ردمتها، وجعلت منها ذكرى فى تاريخ الأدب، فتحقّق لها أسلوب جديد مناسب لأداء الوظيفة التمثيليّة للسرد الحديث.
على أنّ التعمّق فى البنيات السرديّة لمدوّنة محفوظ يظهر عدم انقطاعها عن بنية المرويّات السرديّة، فالحبكات تدور حول البطولة الفرديّة، والشخصيّات تشقّ طريقها فى عالم تتنازعه قيم الخير والشرّ، ولا تلبث أن ترتسم الحكايات الثانويّة داخل الإطار السرديّ العامّ، كما يلاحظ ذلك فى رواياته الكبرى كالثلاثيّة، وأولاد حارتنا، وملحمة الحرافيش. ثمّ يتوالى ظهور حبكات صغيرة حول شخصيّات معيّنة، فتتفكك حينما تتوارى تلك الشخصيّات، ويعرض بسرد تفسيريّ يكشف مزايا البطولة الفرديّة، ويحتفى بها، لكنّه لا ينكر الانهيارات القيميّة، إنّما يعزوها إلى الخروج على القيم الأبويّة.
وعلى غرار المرويّات القديمة يقدم السرد تفسيرًا خارجيًّا للأفعال، فيصفها ويقوّمها، لكنّه يفسح المجال أمام الشخصيّات للإفضاء بأحاسيسها ومشاعرها، لأنّه مدفوع لصوغ عبرة اجتماعيّة أو أخلاقيّة، فالعالم المتخيّل هو امتداد للعالم الواقعيّ، ويراد من التناظر بينهما أن يتحقّق الإرسال السرديّ من الأوّل إلى الثاني، فالسرد يحمل رسالة قيميّة، وتفكّك الأواصر التقليديّة فى السلالات السرديّة يقابله تفكك فى الطبقات الاجتماعيّة، والحراك فى السرد مدعوم بحراك فى المرجع، والعلاقات الرابطة بين مستوى السرد ومستوى الواقع، أضفت على تجربة محفوظ مسؤوليّة تمثيل شاملة لكافة التحوّلات الاجتماعيّة فى مصر التاريخيّة والحديثة.
ومن وسط هذا النسيج المتشابك من الأحداث تنبثق الأمثولة الرمزيّة حاملة المغزى الأخلاقيّ العامّ؛ فالكتابة السرديّة عنده ليست إنشاء لغويًّا مجافيًا لوظيفته، إنّما هى صوغ لموقف ثقافيّ اعتباريّ من التاريخ والواقع، ولا تلبث الشخصيّة أن تمرّ بمأزق فرديّ يعدّل مسارها قبل أن تندمج فى الجماعة، فتكافح من أجل ذلك قبل أن يُعترف بها، وهو نسق شبه ثابت فى المرويّات السرديّة القديمة. وعلى هامش تلك المدوّنة الكبيرة لا نعدم وجود شخصيّات منكفئة على ذاتها، تعيش وضعًا إشكاليًّا بين قيمها الفرديّة والقيم الجماعيّة، فتتآكل بالتدريج حينما تخفق فى قبول قيم الجماعة، وحينما تعزف الجماعة عن قيمها الفرديّة، فالوعى الحديث بالذات وبالعالم تسرّب إلى بعض شخصيّات محفوظ، وقد اهتزت قناعاتها بالمسلمات الدينيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، فتمرّدها على الأنساق العامّة مستعار من وعى لصيق بشخصيّات الأزمنة الحديثة، وغالبًا ما تكافأ بالموت أو النبذ، فالنسق شبه الثابت للفكر الأبويّ يبعد عن نفسه خدوش الأفراد، فيجهز عليهم باعتبارهم خارجين عليه، وبخاصّة النساء والشخصيّات المثقّفة، وينتظم مسار العالم مرّة ثانية، وكأن تلك الشخصيّات علامات كدّرت الركود العامّ فيه.
تطور الوعى الفردى
ظهرت التجربة السرديّة لنجيب محفوظ مترافقة مع حركة عارمة فى السرد العربيّ الحديث، هدفت إلى بلورة صيغة أسلوبيّة ودلاليّة جديدة فى الرواية العربيّة، فحققت مكاسب كبيرة بتغيير فى طرائق التعبير اللغويّ، وفى إعادة النظر إلى العالم، وفى التشكيك بصحّة الثنائيّات الضدّيّة بين عالمى الخير والشرّ، وفى محاولة نزع الثقة عن القيم التقليديّة، وترك الشخصيّات تصحح مسار حياتها فى ضوء تجاربها ووعيها، بدل أن تدفع إلى عالم السرد وهى مجهّزة بكلّ شيء.
لم تنشأ تجربة محفوظ بمعزل عن سياق اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ متحوّل سبقها أو عاصرها، إنّما تبلورت ملامحها فى ذلك السياق الذى مثّله تفكك الإمبراطوريّة العثمانيّة، وحلول الإدارات الاستعماريّة محلّها، وبدايات نشوء الدولة الوطنيّة، وظهور الأفكار الليبراليّة، وتطوّر الوعى الفرديّ، وتفكيك القيم المحافظة، والامتثال للقوانين الوضعيّة بدل الشرائع الدينيّة، والرغبة فى تحديث الأنساق الثقافيّة القديمة. وقد مرّت تجربته بمراحل متنوّعة من ناحية الموضوعات وطرائق التمثيل السرديّ: تاريخيّة، وواقعيّة، ورمزيّة، وملحميّة. وهى مراحل تداخلت فيما بينها، وفى كثير من الأحيان تفاعلت موضوعاتها، وأبنيتها السرديّة والدلاليّة والأسلوبيّة. ولعلّ أهمّ الظواهر المهيمنة فى تجربته الروائيّة: تمثيل قيم الأبوّة والذكورة وتلازمهما، وهو موضوع ظلّ يطوّره، ويوظّفه فى رواياته، فبلغ به درجة لافتة للنظر فى رواية «الثلاثيّة»، ثمّ هيمن فى رواية «أولاد حارتنا»، وكُرّست الأبوّة بصورة نهائيّة فى رواية «ملحمة الحرافيش».
احتفاء محفوظ بموضوع الأبوّة القائمة على مفهوم الذكورة، وتثبيت قيمها الصارمة يعتبر أحد المرتكزات الأساسيّة لتجربته السرديّة، وترافق التعبير عن هذا المفهوم مع تماسك البناء السرديّ العامّ للروايات التى قامت بتمثيل هذا المفهوم، فثَمّة تضافر لا يخفى بين سيادة مفهوم الأبوّة والبناء السرديّ التقليديّ فى رواياته. شيّد محفوظ عالمًا سرديًّا يتفاقم الانهيار فيه بسبب النوازع الفرديّة للشخصيّات الباحثة عن أدوار خارج منظومة القيم الأبويّة السائدة، وتتخبّط الشخصيّات فى اختياراتها كلّما نأت بنفسها عن هيمنة النظام الأبويّ، ويغلب أن تنتهى نهايات مأساويّة، فالتمثيل السرديّ يقوم على تنميط قيميّ شبه جاهز، والشخصيّات تنفلت حينما تسعى لاختراق سلسلة من الأنظمة المهيمنة، كالأسرة، والطبقة، والعقيدة، والعادات السائدة، فتقع ضحيّة أخطاء أخلاقية، ولا يتردّد محفوظ فى دفعها إلى مصائر تعادل تلك الأخطاء، فتصبح موضوعًا لعقاب عامّ يتجسّد فى فرد. وكلّ تطلّع فرديّ، يُكافأ بعقاب صارم، والعالم السرديّ فى روايات محفوظ محكوم بجاهزيّة أخلاقيّة خاضعة لهيمنة السيطرة الأبويّة بشكلها المباشر أو غير المباشر، والشخصيّات تكتسب استقامتها، ليس من مزاياها الخاصّة، إنّما من مقدار امتثالها للقيم الأبويّة،
وقد أشار محفوظ إلى المرجعيّات الأساسيّة التى قامت عليها رواياته، فقال إنّها «الاهتمام بالتاريخ أو المجتمع، مع مواصلة الاهتمام أيضًا بما وراء التاريخ والمجتمع». وفصّل ذلك بقوله: «أحبّ أن أجمع بين الاثنين على قدر المستطاع، فلا أنا كاتب اجتماعيّ مستغرق فى قضايا المجتمع، ولا أنا كاتب ميتافيزيقيّ مستغرق فى الميتافيزيقيا بكليّتها، كلّما شدّتنى الميتافيزيقيا شدّنى المجتمع أيضًا؛ فاللحن الأساسيّ عندى ينبع من التاريخ وما وراء التاريخ، أو من المجتمع وما فوق المجتمع». يرسم ذلك الوصف المكثّف ملامح العالم التخيّليّ التقليديّ الذى يمثّل مرجعيّة أساسيّة فى تجربته السرديّة، فهو يمزج بين مكوّنى العالم الواقعيّ والمتخيّل جاعلاً من نفسه المركز الذى يلتقى فيه هذان المؤثّران. وليس خافيًا أنّ الأبويّة لا تجد نفسها إلاّ بوصفها مركزًا للعالم، بما فيه من قيم وأفكار وأحداث وبشر، وتلك المرجعيّات التى صرّح بها محفوظ عن عالمه السرديّ، توافق الآراء التى تراه موثِّقًا لأنساق اجتماعيّة وتاريخيّة بوساطة السرد، فالمؤلّفون، كما ذهب «إدوارد سعيد» كائنون فى تاريخ مجتمعاتهم، وهم يشكّلون ذلك التاريخ، وتتشكّل تجاربهم بوساطته. ومحفوظ، طبقًا لرأى «سعيد» كتب سردًا تمثيليًّا أعاد فيه صوغ المجتمع المصريّ، وقدّم رؤية تخيّليّة لمجتمع فريد فى تنوّعه».
تكريس الأبوية
هدفت تجربة محفوظ، بطريقة ما، إلى تكريس الأبويّة التى لا تظهر إلاّ فى عالم النماذج الثابتة، والأنساق المغلقة، وغياب الخصوصيّات الفرديّة المميّزة، والتعلّق بالنماذج الرمزيّة التى تضخّ إلى العالم سلسلة متواصلة من العلاقات النمطيّة التراتبيّة بين الأفراد، فأهميّة الأفراد لا تأتى من أفعالهم، إنّما من محاكاتهم لقيم كبرى تقليديّة موروثة، وكلّما حاول أحد انتزاع خصوصيّة وتميّز، رُمى بالشذوذ عن القاعدة المعياريّة العامّة التى تتحكّم بها القيم الأبويّة، وكلّما انفصمت الصلة بين الأفراد ونماذجهم الأبويّة العليا انزلقوا إلى الخطأ، وعوقبوا على الآثام التى اقترفوها، فالأبويّة نظام جُهِّز عبر التاريخ، بسلسلة متكاملة ومترابطة من الشروط والإجراءات التى تحول دون الخروج عليه، ولكلّ خروج متعمّد ثمن باهظ يدفعه الفرد الذى لا يجد كفاءة فى هذا النظام.
وتعدّ الأبوّة الغطاء المانح لشرعيّة الأفعال السرديّة فى روايات محفوظ، ولكنّها ليست أبوّة مبهمة، إنّما هى مقيّدة بسمة من أهمّ سماتها، ألا وهى الذكوريّة، أى التنميط الثقافيّ الذى يرتفع بالرجل – الأب من مرتبة الجنس الطبيعيّ إلى مرتبة الجنس الثقافيّ الذى يقسم العالم إلى قسمين: الأب الحائز على شرعيّة مسبّقة لكلّ الأفعال التى يقوم بها دونما مساءلة، والعالم المحيط به الذى تتحدّد قيمته بمقدار موافقته لمنظور ذلك الأب، وامتثاله لرؤيته العامّة فى العلاقات والأفكار والمواقف والوظائف.
وتشكّل الفحولة ركيزة النظام الأبويّ حيث تندمج الأبوّة بالذكورة كصفة مميّزة لها، وتتلازمان وتتعاضدان وتتواطآن، فتظهر الشخصيّة الأبويّة الحاملة لقيم المجتمع التقليديّ المتمركزة حول الذكورة، ومنها ينبثق النظام الأبويّ، ويمكن الانتهاء إلى أنّ النظام الأبويّ نسق ثقافيّ – تربويّ – اجتماعيّ محكوم برؤية الرجل للعالم طبقًا لعلاقاته ومصالحه بوصفه مالكًا للنساء والأشياء والأفكار، وهو مركز العالم، ووجوده يضفى قيمة على الأشياء، وكلّ شيء يكون مهمًّا بمقدار اندراجه فى مداره الخاصّ. وكلما نأت الأشياء عنه تضاءلت قيمتها وأهمّيّتها، فكلّ شيء يندرج فى علاقة تبعيّة، وبخاصّة المرأة التى تتكرّس وجودًا فى عالمه باعتبارها كائنًا تابعًا تكميليًّا وموضوعًا للمتعة.
تتحرك العوالم السرديّة لتجربة محفوظ فى هذا الأفق الشامل المتمركز حول الأبوّة الذكوريّة؛ فالسرد يتجاوب فى تمثيله للمرجعيّات المهيمنة فى بنية المجتمع، وهى تجربة دعمت البنية التقليديّة لتلك المرجعيّات. وحتى الروايات التى أظهرت تمرّدا على بعض القيم، وبخاصّة فى مرحلة الستينيّات من القرن العشرين وما بعدها، فإنّ الأبطال فيها ظهروا ضائعين لا هدف لهم، وقد انتهوا نهايات معتمة عبّرت عن تمزقهم الإشكاليّ بين تمرّدات فرديّة وسياق عامّ من العلاقات الامتثاليّة لمجتمع شبه مغلق فى علاقاته العامّة. مارست الأبوّة الذكوريّة سطوة هائلة فى تحديد طرز العلاقات والاختيارات والسلوك العامّ والانتماء، وصاغت العالم السرديّ عند محفوظ، وتدرّج نسغها المتصاعد من بُعده الواقعيّ إلى الميتافيزيقيّ إلى الملحميّ، فتطوّرت الأبوّة الذكوريّة من مستواها المباشر إلى سلسلة متواصلة من الإيحاءات الأكثر شمولاً، فأصبحت الحارة كونًا، والأبناء رسلاً، والآباء أربابًا، والأحداث تاريخًا مستعادًا.
تصلح رواية «بداية ونهاية» التى صدرت فى عام1949 أن تكون نموذجًا ابتدائيًّا لتمثيل تلك الفكرة فى بُعدها الأوّليّ، فبوساطة السرد الرتيب المتدرّج بنى محفوظ عالمًا هدف منه إلى استخلاص عبرة، مفادها أنّ أيّ تطلّع غير أخلاقيّ خارج النظام الأبويّ ينتظر عقابًا صارمًا، فالشخصيّة أسيرة رهانات أخلاقيّة، وطبائع جاهزة، وينبغى عليها أن تكون موضوعًا لطبائعها الأوّليّة، وتكافأ فى نهاية المطاف طبقًا لشروط خارجة عن إرادتها. أدّى انبثاق الهموم الفرديّة للشخصيّات إثر وفاة الأب إلى غياب الاهتمام بالأحداث العامّة. ظهر انطواء على النفس، فحضور الأب أتاح للآخرين مجالاً للانخراط فى الهموم العامّة، والتفتّح الطبيعيّ على العالم، وبفقدانه انكفأ الجميع إلى ذواتهم، فتآكلوا حينما وُضعت تطلعاتهم الفرديّة بمواجهة عالم ثابت من القيم الاجتماعيّة السائدة. مثّلت تلك الرواية ثبات العالم المرجعيّ، واقترحت الثمن الذى ينبغى أن يدفعه كلّ من يريد تغيير ثباته، فتكون قد دشّنت لبداية التأزّم الواقع فى صلب ذلك العالم الذى راح يكفّ، بمرور الزمن، عن الوفاء بحاجات الفاعلين الاجتماعيّين فيه.
أخذت تلك العلاقات التى انفرط عقدها حال اختفاء الأب فى رواية «بداية ونهاية» مستوًى كبيرًا من الاهتمام والتفصيل فى «الثلاثيّة»، ففيها رسم محفوظ، منذ البداية، إطارًا عامًّا للعالم السرديّ الذى سوف تدور فيه أحداث الرواية، فقدّم حكاية أسرة من الطبقة الوسطى، على خلفيّة الاحتلال الاستعماريّ الإنجليزيّ لمصر، يتنازعها مفهوم وتاريخ، المفهوم المهيمن هو الأبويّة، والتاريخ هو تفكّك الطبقة الوسطى بفعل النزعات الفرديّة. ويمكن تأويل «الثلاثيّة» على أنّها مدوّنة من التمثيل السرديّ، صوّرت مستويين كبيرين من التجارب: مستوى أفول الأبويّة ودعامتها الاستعماريّة، ومستوى بزوغ الهُويّات الفرديّة وتحقيق الاستقلال الوطنيّ، فكلما حقّق الأفراد خروجًا على نظام القيم الأبويّة، وانخرطوا فى التعبير عن ذواتهم كفاعلين اجتماعيّين، تحقّق انهيار فى مفهوم الأبويّة بدلالته القيميّة والاستعماريّة.
انتهت الثلاثيّة بتفكك النظامين الأبويّ والاستعماريّ، ولكنّ خلف ذلك الانهيار العامّ قبعت الدلالة الأكثر أهميّة فيما نرى للثلاثيّة، فتحرّر الأفراد من هيمنة الأبويّة أفضى بهم إلى السقوط فى هوّة الفوضى: الغرائز، والنزوات، والحيرة، وتضارب الآراء والمواقف، والانتهازيّة، والتنازع على الأدوار؛ فالمجال العامّ ينفتح أمام الأفراد كلّما انحسرت الأبويّة، وتوارى نفوذها. تهمين فى بداية الرواية صورة الأب، أحمد عبد الجواد، فيما كافّة الشخصيّات الأخرى شاحبة الحضور، وتنتهى الرواية وقد امتلأ المجال العامّ بالأحفاد المتعدّدى المشارب والمنازع، من دون آباء.
بدأت الثلاثيّة بتمثيل عالم متماسك ومتجانس فى رؤاه العامّة، وانتهت بتمثيل عالم ممزّق ومتناحر بسب انهيار نسق القيم الأبويّة، الأمر الذى شوّش ذلك العالم، وفضح نزوات أفراده بعد أن وفّرت القيم الأبويّة غطاء لكلّ سلوك وتصرّف. فى النهاية تمزّق العقد الرمزيّ الذى كان يحمى العائلة الأبويّة، ذلك العقد القائم على الخوف والتراتب والاستئثار بالدور الأول. أصبح مسار الأبويّة فى صعوده وهبوطه أحد الرهانات الكبرى للشخصيّات الفاعلة فى النصّ، من الطاعة العمياء للأب، إلى التمرّد عليه، ثمّ محاكاته بسخرية، وصولاً إلى التحرر من سطوته الرمزيّة والفعليّة. أخفى المسار الصاعد للأحداث دلالة قيميّة متراجعة إلى الوراء، فكلما نمت الهُويّات الفرديّة للشخصيّات جرى نزع المشروعيّة عن قيمها الذاتيّة، فيغيب التوازن، ويهتزّ العالم المتخيّل؛ فالشخصيّات التى كانت مأسورة داخل بيت الأب، وخاضعة لمفهومه، تتفكّك روابطها، وتقع ضحيّة المنازعات، والاختيارات، والتجارب. وتنتهى الثلاثيّة وقد عجّ عالمها السرديّ باضطراب كامل يستحيل إعادة التوازن إليه.
انطلقت الأحداث من لحظة توازن وانتهت بفوضى شاملة، وانتقلت من البعد الفرديّ الأبويّ للعلاقات الاجتماعيّة إلى البعد الشامل والمتعدد والجماعيّ، الذى لا يمكن السيطرة عليه، وإذا راقبنا نبرة السرد، ومسار الأحداث، وعلاقات الشخصيّات فيما بينها، وتوسّع المكان، وظهور الأجيال الجديدة، وانبثاق الأيديولوجيات المتناقضة، ارتسمت أمامنا صورة انهيار عامّ لمنظومة القيم القديمة، أكثر ممّا ترتسم صورة لنظام قيميّ جديد، فالسرد مشدود إلى التعبير عن مركز، تمثّله الأبويّة الذكوريّة، وبالخروج المتنامى عليها من قبل جيل الأبناء والأحفاد يتنامى إحساس بالعدميّة، والضلال، والحيرة، والفوضى، حتى إن كثيرًا من الشخصيّات ظلّت عالقة فى وسط معتم، لا هى قادرة على المضيّ فى إنتاج قيم بديلة، ولا هى قادرة على الأخذ بالقيم التقليديّة.
حافة الهاوية
انفراط عقد الأبوّة لم يدفع بعقد بديل، على العكس أوحى بانفراط خطير لا مرجعيّة له، وكأن الشخصيّات بلغت حافة الهاوية. فلا تقترح التناقضات التى ما انفكت تتناسل فى نهاية الرواية أيّ بديل يحتويها، ولا توحى بأنها سوف تفرز نسقًا مغايرًا من القيم البديلة، فقد تصدّع التماسك الابتدائيّ الذى مثّله أحمد عبد الجواد، وباتساع المكان وظهور الأجيال الجديدة، تفاقم حسّ عارم بالبهيميّة، ليس البهيميّة الحسّيّة فقط، إنّما حتى الأيدلوجيّة والدينيّة، فكأنّ الخروج على الأبويّة المهيمن هو مروق عن أبويّة مقدّسة حافظة للسلالة، وهو أمر سيظهر له تطوير بالغ الدلالة فى «أولاد حارتنا»، ثمّ فى «ملحمة الحرافيش».
بدأت «الثلاثيّة» بأسرة تنتمى فى علاقاتها إلى بقايا القرون الوسطى، حيث الطاعة العمياء للأب، والسيادة المطلقة له، والخضوع الكامل للقيم التى يحملها، فيظهر مجتمع الحريم، والجوارى اللواتى يلحقن بسيّداتهنّ عند زواجهنّ، والشخصيّات النسويّة مبرقعات وليس لهنّ أيّ تطلع سوى الزواج، والجوارى تابعات لهنّ، والغوانى يسعين فى إشباع لذّات الرجال، والآباء يبحثون عن ترابطات للارتقاء بالمستوى الاجتماعيّ عبر مصاهرات من الطبقات العليا، أو ما تبقّى منها، كما ظهر فى ربط الأسرة ببقايا الأرستقراطيّة العثمانية. حينما وافق الأب على زواج الابنتين خديجة وعائشة من عائلة «آل شوكت»، وزواج ياسين من عائلة «آل عفت».
لاحت بدايات التمرّد على النظام الأبويّ حينما فُضح السلوك المزدوج للأب. اكتشف ذلك ياسين أوّلاً، ثمّ كمال بعد ذلك، لكنّ النساء: أمينة وخديجة وعائشة، توهّمن استقامة الأب إلى النهاية، فلا يجوز تخيّل بقعة معتمة فى الصفحة البيضاء للأبوّة، تلك الأبوّة التى تتقن زرع القهر فى قلوب النساء عبر تكريس العبوديّة المطلقة. بدأ التهديد من الداخل، وسّع زواج البنات والأبناء البعد المكانيّ لحركة الشخصيّات، فلم يبق «بين القصرين» مكانًا يفى بالحركة المطلوبة، أصرّ الأب على أن يكون ضيق المكان جزءًا من فلسفة الحجب التى آمن بها. حتى البيت رتّبت أدواره ليكون هو فى الأعلى.
أحدث الزواج خلخلة واضحة فى مفهوم الحجر المفروض على الأسرة، وعمّقت كلّ ذلك المروقات المتهتّكة التى مارسها ياسين وزوجته، فيوسّع الخرق فى الجزء الثانى من الثلاثيّة، حينما بادر كمال إلى إقامة علاقات خاصّة بالوسط الأرستقراطيّ المتعلم تعليمًا غربيًّا، وهو غير بقايا الأرستقراطيّة التركيّة التى حرص الأب على مصاهرتها، وبان مظهر من مظاهر الخروج على الأبويّة حينما فكّر كمال فى إجراء قطيعة مع ارتباطاته الاجتماعيّة والدينيّة، عبر إيمانه المطلق بالعلم والفلسفة، فانتهى إلى ضرب جديد من الاعتقاد «إنى ضقت بالأساطير ذرعًا، غير أنّى فى خضمّ الموج العاتى عثرت على صخرة مثلّثة الأضلاع، سأدعوها من الآن صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى، لا تقل إنّ الفلسفة كالدين أسطوريّة المزاج، فالحقّ أنّها تقوم على دعائم ثابتة من العلوم وتتّجه إلى غايتها. أمّا الفنّ فمتعة سامية وامتداد للحياة، غير أنّ مطمعى أبعد من الفنّ منالاً، لأنّه لا يرتوى إلاّ بالحقيقة».
تلاشت الهيبة الأبويّة حينما أصبحت موضوعًا لسخرية الأبناء السكارى «ياسين» و«كمال» فى إحدى الحانات، فالتدمير الذاتيّ للأبويّة ينبثق من الداخل. يُظهر كمال جزعًا عميقًا بمفهوم الأبوّة، وقد استمرّ فى مناجاته السرديّة المحبوسة، فانتهى برفض مفهوم الأسرة، واقترح أن يتحرر الإنسان من سيطرة الأسرة: «هذه الحفرة التى يتجمّع فيها الماء الآسن». بل اقترح أن «تزول الأبوّة والأمومة»، وختم بالقول «هبنى وطنًا بلا تاريخ، وحياة بلا ماض». تطلّع كمال إلى «يوتوبيا» معقّمة لا تعرف معنى للإيقاع الأرضيّ الرتيب حيث الأبوّة سلطة قاهرة، والأمومة تضحية منقوصة، وحبّذا لو طهّر المستنقع الدنيويّ من الوحل الكثيف الذى يغمره، فيعيش الإنسان فى وطن بلا ذاكرة.
كما عجّل الدنس فى تخريب هيبة الأبويّة، فالعلاقة الجسديّة المزدوجة التى أقامها الأب أحمد عبد الجواد والابن ياسين مع زنّوبة، وضعت مفهوم الأبوّة فى منطقة الخطر، وعرّت قداسته الزائفة، إذ أنّها جردّته من الشرعيّة الأخلاقيّة، واستبطن إفراط ياسين فى اشتهاء تلك الغانية انتقامًا مبهمًا من أبيه. لوحظ أنّ العالم التخيّليّ انفتح على مسارين: مسار أوّل انعقد حول مفهوم المتعة، ومثّله أحمد عبد الجواد وجليلة وزبيدة وزنّوبة ومحمد عفّت وعلى عبد الرحيم. ومسار ثان انعقد حول مفهوم الأبوّة، ومثّلته أسرة أحمد عبد الجواد. تعرّض هذان المساران المتوازيان إلى هزّة عنيفة حينما ظهر طيف زنّوبة فى الأفق، وهى تريد الانتقال من المسار الأوّل إلى الثاني، تريد التحوّل من رتبة عشيقة إلى رتبة زوجة، كان أحمد عبد الجواد صارمًا فى الفصل بين المسارين، فالقيم التى امتثل لها وتبنّاها، وتحرّك ضمن أسوارها لا تسمح له بخلط المسارين. خلخل ظهور زنّوبة النظام الأبويّ بكامله، فقد تجرّأت امرأة متعة بالتفكير فى الانتقال من عالم إلى عالم آخر. لا يمكن أن يتحوّل موضوع المتعة الحرّة المكشوفة إلى جزء صميميّ من الأسرة الأبويّة، فالنساء ينبغى أن يكنّ إمّا طائعات خانعات تابعات، أو غانيات مهيّجات للذات والرغبات من أجل إشباع الفحولة. وبدل أن يتوقف المساران، ويبقيا متوازيين، دفع السرد بمحاولة زنّوبة إلى نهاية أخرى، الزواج من الابن، لكى تُضرَب القيم الأبويّة فى الصميم، تلك هى فكرة الدنس، والمشاركة فى امتلاك جسد المرأة.
عمّق ياسين فكرة الدنس حينما أقام علاقة جسديّة بزنّوبة مع معرفته المسبقة بأنّها خليلة أبيه، وإحدى الفاعلات فى مجالس الأنس الليليّ. أراد ياسين الانتقام من أبيه عبر علاقة آثمة مع عشيقته. وضعت الأبوّة فى ميزان المتعة، فالتقى الأب والابن على جسد أنثويّ واحد، أحدهما مسكون بالرغبة والآخر مسكون بالمشاركة. ومع هذا فإنّ الاختلاف بين الاثنين ما زال كبيرًا. اقترف الابن الرذائل عارفًا بها، ومتهالكًا من أجلها، فيما اقترفها الأب متعفّفًا، ومتخيّلاً أنّها تكمل دوره الذكوريّ، ومع أنّ الابن هو الذى سيفوز بزنّوبة فى نهاية الأمر، لكنّ السرد التفسيريّ، الذى قدّم الأب متذللاً تحت سياط الشهوة، لم يسمح للأبوّة باقتراف خطأ أخلاقيّ فادح كالزواج من عشيقة الابن، فالأبويّة تقى من السقوط المريع، فيما البنوّة لا تأبه بالقيم الرمزيّة، وتتطلّع إلى تخريبها.
لم تتوقف فكرة الدنس التى هزّت قواعد القيم الأبويّة عند حدود التنازع بين الأب والابن على جسد زنّوبة، بل أخذت مسارًا آخر بعد أن حاز ياسين عليها، وأصبحت زوجة له. وقع الدنس هذه المرّة فى المشاركة الجسديّة التى أقامها ياسين وكمال مع الغانية «وردة». فى الحالة الأولى تشارك الأب والابن بجسد زنّوبة، وفى الحالة الثانية تشارك الأخوان بجسد وردة، فظهر ياسين وسيطًا فى الدنس، فمن خلاله انتقل من الأب إلى الابن، فهو المشارك لهما فى المرأتين. ومع أنّ الأخ الأصغر بدا مهووسًا بالثقافة، وبالتهويمات الخيالية، لكنّ صورته ارتسمت كفتى من الجيل الضائع، الذى صدمته الأرستقراطيّة الجديدة فى علاقاتها المتحررة، وسلوكها الغامض، فخيّل إليه أنّه سيكون جزءًا منها، لكنّ تربيته التقليديّة ارتطمت بالتحرر العامّ لتلك الأرستقراطيّة، فانكفأ على نفسه محبطًا بين الغوانى والحانات والأفكار، وتآكل إيمانه بالتدريج حينما تبين له أن بعض الرموز المقدسة فى حيّ الحسين لا وجود لها، وأن التاريخ يزوّر كثيرا من الوقائع ويعرضها على مجتمع جاهل باعتبارها حقائق مطلقة، وأن رغباته تكبح بقسوة فى وسط اجتماعى مبهم فى علاقاته الإنسانية. وجد كمال نفسه أكثر تحرّرًا من عائلته الأبويّة، لكنّه كان أكثر تحفّظًا من الأرستقراطيّة الجديدة التى اندرج فى هامشها، فشرع يبحث عمّن يواسيه بشخص البغيّ «عطية» فى ماخور.
تمّ التعارف الذكوريّ بين الأب وابنه، وبين الأبناء، على أجساد نسويّة مشتركة، فخيّم عليهم زهو الاكتشاف والفحولة والمشاركة، وفيما تفاعل الذكور حول وليمة الجسد الأنثويّ، ترنّحت الأبويّة، لأنّ الدنس أضاء عتمتها، ووضعها تحت مجهر البهيميّة المباشرة التى لا تعترف بالحدود القيميّة، ففضحت النزوات البشريّة المشتركة لدى الذكور، فكان أن توارت صورة الأب فى الجزء الأخير من الثلاثيّة، واستأثر الأحفاد بالفضاء السرديّ، وحلّ الجدل حول المفاهيم الكبرى، والتشكيك بها، كالإيمان والإلحاد، والعلاقة بين المسلمين والأقباط، والأحزاب الدينيّة والعَلمانيّة، محلّ العلاقات التقليديّة التى رسمها السرد فى مطلع الرواية. وفيما بدأت الثلاثية بالحرص على الانتساب العائليّ والانتماء الطبقيّ، انتهت إلى أنّ الأهميّة تكمن فى المركز الوظيفيّ والشهادة الدراسيّة. وتحوّل السرد إثر موت الأب مباشرة من الصيغة الموضوعيّة إلى الصيغة الذاتيّة، وهى المرّة الوحيد التى يكون السرد الذاتيّ فيها على لسان «أمينة»، وهى تستعيد عبر المناجاة الذاتيّة تاريخ الأسرة بصورة تداعيات حرّة متناثرة.
طقوس اللذة
كلّما مضت الأحداث أدّى انهيار القيم الأبويّة إلى نمو موقع الأنوثة، واستئثاره بالمكانة الأساسيّة فى العالم التخيّليّ، فاستمراريّة النسب أتت من النساء وليس من الرجال، والأحفاد الفاعلون فى الأقسام الأخيرة من الرواية هم أولاد خديجة من نسل «آل شوكت»، وليس من أولاد أحمد عبد الجواد الذكور باستثناء رضوان الذى انتهى شاذًّا. توقّف النسب الذكوريّ للأب من أبنائه، وهو من شروط الأبويّة، واستمر ببناته، فالنسب أنثويّ فى الثلاثيّة وليس ذكوريًّا. ولكنّ هذه ليست ميزة بذاتها فى النظام الثقافيّ الأبويّ، لأنّ النساء فيه يلعبن دور الوسائط الحافظة للنوع والقيم والعلاقات التقليديّة، ويبدون منفعلات ولسن فاعلات. وعلى الرغم من ذلك وقع حراك لا يمكن إغفاله فى بنية العلاقات العامّة للشخصيّات، فاختلفت جذريًّا عن نمط العلاقات الذى بدأت به الرواية.
فى بداية أحداث الراوية، كان الشذوذ والإلحاد ونقد الدين والزواج من الغوانى والانهيارات الطبقيّة والصراعات الدينيّة والأيدلوجيّة، من الأمور التى يستحيل التفكير بحدوثها، فيما أصبحت واقعًا مكرّسًا ومألوفًا فى نهايتها. وبلغت المفارقة أقصاها حينما عرض محفوظ تماثلاً ساخرًا بين طقوس اللذّة وطقوس العبادة. ومع أنّ كلّ شيء بدا ثابتًا فى مطلع الرواية، فإنّ التحوّلات اكتسحت العالم السرديّ، فاختفى المصباح القديم وظهر الكهربائيّ مكانه، وظهرت الأسطوانات الممغنطة، ودور السينما، وسيارات الأجرة، واختفت الجواري، وانكشفت وجوه النساء، واختفت البراقع، وتكاثرت الحوارات والتداعيات والمناجاة الذاتيّة، بدل السرد التفسيريّ الموضوعيّ الذى هيمن على الجزء الأوّل من الرواية. وبدل الزواجات القسريّة القائمة على المصالح الطبقيّة والأسريّة، طافت بالرواية علاقات حبّ رومانسيّة، كالعلاقة بين كمال وعايدة شدّاد، وجرى تعاطى الخمرة، وأكل لحم الخنزير أسفل الهرم، وتحلّل التزمّت التقليديّ، وبه استبدل خليط من الممارسات الاجتماعيّة شبه الحرّة، وبالأحاديث المقتضبة الوقورة فى مطلع الرواية استبدلت السجالات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المسهبة. ووقع انشقاق فى صميم الأسرة بين الانتماءين الماركسيّ والإسلاميّ.
كرّست الثلاثيّة احتفاء كاملاً برغبات الذكور وتطلعاتهم ومشاعرهم وهواجسهم، وكادت تهمل الإناث من كلّ ذلك، ودفعت بهنّ إلى منطقة معتمة، فباستثناء الغوانى لا نكاد نعثر، طَوال أكثر من ألف صفحة، على إشارات دالّة تسمو بالرغبات الأنثويّة، فقد جعلت الثلاثيّة من قيم الذكورة معيارًا للانسجام الاجتماعيّ، وإلاّ فالشقاق والخصام وتبادل المواقع، وجاءت النزوات الأنثويّة المتناثرة فى سياق استثارة الفحولة تجاه الأنثى الشهيّة التى بعربدتها تشحذ رغبات الذكر، ولم نجد حبًّا أنثويًّا سويًّا فى عالم الثلاثيّة؛ فقد توزّعت المرأة بين خنوع كامل لرجل يطفئ فى جسدها أيّ رغبة سويّة تقوم على المشاركة، وبين غانية وظيفتها تنشيط الفحولة عبر متع العربدة والإثارة السخيّة والتهتّك.
انحصر اهتمام الأجيال الجديدة فى نهاية الثلاثيّة بالمراكز الوظيفيّة، والانتماءات الأيدلوجيّة والدينيّة، أكثر من الامتثال للقيم الأبويّة، ولم يمنحهم السرد موقعًا اعتباريًّا كالذى ظهر فى حالة أحمد عبد الجواد وأمينة، فجيل الآباء مثّل نماذج قيميّة فى أفعالها، فيما جاء جيل الأحفاد خليطًا إنسانيًّا مشغولاً بالطموح الفرديّ، فخلاصه لا يكمن فى الانتماء إلى قيم الأبويّة، إنّما فى التيّارات الأيدلوجيّة والدينيّة المتضاربة. وقع انفصام بين القيم التى حملها جيل الآباء، وبين قيم جيل الأحفاد، وكلّ انكفأ على نفسه فى نوع من المنافحة الخاصّة به، وانحسر السرد التفسيريّ بأفول القيم الأبويّة، وانبثق السرد الذاتيّ الذى عبّر عن القيم الفرديّة، فاستكشف دواخل الشخصيّات دون وسيط، قلّت تدخّلات الراوى العليم، وتوارت شروحات المؤلّف الضمنيّ، واختفت المشاهد البارعة فى تصويرها لجلسات الأنس الليليّة- وهى الأكثر حيويّة فى الثلاثيّة- وحلّت محلها المشاهد الحواريّة والتأمليّة.
انتهت الأبوّة فى مستواها الاجتماعيّ إلى التلاشى فى «الثلاثيّة» بعد أن استقامت عقودًا عدّة، وأخضعت الجميع لقيمها الكبرى، وقامت بدور المحفّز السرديّ الأساس للصراعات المحتدمة بين الشخصيّات، وملأت العالم التخيّليّ بالأفكار والعلاقات فى صعودها وأفولها، لكنّها أخذت فى رواية «أولاد حارتنا» مستوى ميتافيزيقيًّا كاملاً، ففى هذه الرواية يتعالى الأب عن الوصف، فقوته وجبروته وغموضه وهيبته، تضفى عليه سحرًا أخّاذًا، فيقبع متجبّرًا فى «البيت الكبير»، وينظر من علٍ إلى ذرّيّته المتصارعة حول شؤون الحياة بجوار بيته الكبير، من أجل أن تحظى برضاه، أو تمارس السلطة باسمه.
المعصية والمعرفة
لا يعرف الأب الكبير «الجبلاوي» الرحمة، وليس من سجاياه الغفران، وتقوم علاقته مع أبنائه على ركيزتين أساسيّتين: الطاعة والجهل، ينبغى أن يتذلّل الجميع طائعين له، وينبغى أن يظلوا جاهلين بوصيّته السرّيّة التى خُطّت فى كتاب موشّى بالذهب، وحفظت فى صندوق فضّيّ فى غرفة منيعة داخل البيت الكبير. ولا وجود للعصيان والمعرفة من ذلك البيت. أبدى إدريس عصيانًا فنفاه الأب إلى الأبد خارج البيت الكبير، ورغب أدهم فى معرفة سرّ الوصيّة الأبويّة، فرمى من بيت الأب. استوت المعصية بالمعرفة، هذان سببان كافيان لشقاء ذرّيّة الأب التى استبعدت من البيت الكبير، وحُرمت من نِعم الحديقة الغنّاء، لأنّ إدريس وأدهم، كلاًّ لسبب خاصّ به، أرادا معرفة غير مسموح بها. وصورة الأب المتعالية لا تعرف التغيير، فهو «جبّار بلا جدال»، وهو» الطاغية المتوارى خلف أسوار بيته».
يبدو الجبلاوى المعتكف بغموض فى البيت الكبير المملوء بالحدائق والخدم، وكأنّه يستمدّ قوّته من تنازع الأبناء حول ميراثه، فقد ارتقى رمزًا تتجدّد أهمّيّته بمقدار استخدام اسمه فى الصراعات الدنيويّة. ولا يفلح أحد فى كشف وصاياه المحفوظة فى مجلّد ضخم داخل صندوق فضّيّ فى قلب بيته. وكلّ الصراعات بين أبنائه وأحفاده استندت إلى تأويلات ذاتيّة لها، واعتقاد شخصيّ بالامتثال للميراث الذى يتّصل به. يقع الاضطراب الملحميّ فى العالم التخيّليّ للرواية خارج البيت، ولأنّ الصراع حول الاستئثار بميراث الأبوّة يكون موضوع تنازع دائم، فلا يفلح أحد فى الحصول عليه بصورة دائمة. يعتقد الابن «عرفة» أنّ ذلك الصراع يمكن أن ينتهى بمعرفة سرّ كتاب الأب؛ فالرواية كناية عن التنازع بين الدنيويّ والدينيّ، لا ينحبس النفوذ الأبويّ للجبلاوى فى المستوى الميتافيزيقيّ المقدّس إنّما يتعدّاه إلى المستوى الدنيويّ المدنّس الذى يمثّله إيقاع الحياة اليوميّة القائم على الغلبة والسيطرة والقتل.
حاول كبار أبناء السلالة: أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، الاستئثار بالمكانة والقيادة والهيبة، استنادًا إلى تفسير خاصّ بكلّ منهم لما يريده الجبلاوى القابع فى بيته من القدم، وكلّ منهم يتبوّأ مكانته بناء على إقناع الآخرين بأنّه الأقرب إلى مقاصد الأب. ويظلّ الصراع قائمَا ما دام الجميع يتنازعون حول سلطة الأب، إلى أن يظهر عرفة فيتسبّب فى قتل أسطورة الأب من خلال السحر. ذلك أنّ كتاب الأب هو» كتاب السحر الأوّل، سرّ قوّة الجبلاوى الذى ضنّ به حتى على ابنه». اندلع فى الجيل الأوّل من أبناء الجبلاوى ضربان من الصراع، صراع قدَر وصراع مطامع. صراع القدر مثّله انقسام الجيل الأوّل إلى عقماء ومنجبين: عباس وجليل عقيمان، ورضوان لم يعش له ولد، وعلى هذا المستوى جرى تحييد ثلاثة من الأخوة الخمسة، فانغمروا فى ملذّات خالدة «يأكلون ويشربون ويقامرون»، ولا شأن لهم بشيء غير المتعة. فهم السعداء المطلقون الذين لا يفكرون بالمستقبل، والخالدون فى البيت الكبير، أمّا صراع المطامع الدنيويّة فاقتصر على إدريس وأدهم. حظى أدهم برضا الأب لطاعته ودرايته بشؤون البيت الكبير وإدارته، ولأنّه «على علم بالكتابة والحساب» فيما أعلن إدريس التمرّد لأنّ الأب تخطّاه إلى أخيه الأصغر فى إدارة «الوقف»، ومن هنا انبثق صراع المطامع والأدوار فى العالم. لا يكشف أدهم نيّة للاستئثار بشيء أوّل الأمر، فيرضخ لإرادة الأب، فيما أفصح إدريس عن رفضه للقرار منذ اللحظة الأولى. ظهر إدريس وكأنّه متمرّد بالطبيعة، فنُبذ وطُرد ولُعن، وأصبح رمزًا للعصيان والضياع، وعاش فى الخلاء المجاور، وقد نذر نفسه لإغراء الآخرين فى تخريب سلطة الأب. فيما دعا الجبلاوى أدهم، وسلّمه شؤون البيت الكبير، وأمره: «املأ هذا البيت بذرّيّتك، وإلاّ ذهب عمرى هباء».
عُدّت «أولاد حارتنا» على هذا المستوى تجسيدًا لرغبة الأب الذى لن يكون أبًا بلا ذرّيّة تحمل اسمه، ولكنّها على مستوى آخر تجسيد لصراعات الأبناء والأحفاد وذرّيّاتهم، عبر التاريخ حول مطامع دنيويّة، يريدون حيازتها من خلال تفسير رغبة الأب وتأويلها. سكن ذرّيّةَ الجبلاوى نازع القتل. مرّت بلحظات سلام قصيرة فى عهود جبل ورفاعة وقاسم، لكنّها سرعان ما خرجت على الأعراف التى سنّها هؤلاء، وكلما أبتعد الزمان تفاقمت صعاب الذرّيّة، وازداد اعتكاف الأب فى بيته حتى أصبحت رؤيته مستحيلة. وكما يقول إدريس فعلاقة الأب بأبنائه قائمة على الطاعة وعدم الغفران. يؤدى هذا التنازع إلى ضياع كلّ شيء. فى النهاية يخاطب الشيخ شقرون الجبلاوي: «يا جبلاوي، حتى متى تلازم الصمت والاختفاء، وصاياك مهملة، وأموالك مضيّعة، أنت فى الواقع تُسرق كما يُسرق أحفادك يا جبلاوي»، فالأب «لم يره سوى أبنائه». ولم يرَ أحفاده، ولم يروه.
لا تحتلّ النساء إلاّ هامشًا ضيّقًا فى الفضاء العامّ للرواية، ومكانتهنّ دونيّة، وهنّ اللواتى يُنسب إليهنّ الخطأ فى معظم الأحداث الكبرى، وقد حرم الأب دخولهنّ حديقة البيت، أميمة تغرى أدهم بالخطأ، فيطرد عن البيت الكبير بسببها، وياسمينة تشى بزوجها رفاعة لدى الفتوّة بيّومى وتخونه، حينما يقرّر الهرب من الحارة، وباستثناء قمر زوجة قاسم الأولى، تكاد صور المرأة تكون معتمة. وأغلب النساء يكنّ موضوعًا لرغبة «الفتوّات»، وباستثناء «عرفة» الذى ينتسب لأمّه، فالجميع ينتسبون للآباء. فالمرأة هى ما ينبغى أن يسمو عليه كلّ من يتّصف بالرجولة، أنّها منتقصة كجنس، ودونيّة كنوع، وحضورها مفسد، وهى كائن لا يؤتمن فى تاريخ السلالة المجيدة التى تركها الجبلاوى تتنازع حول السلطة والجاه والثروة، فى بيداء لانهائيّة.
تسهم الطرائق الشفويّة فى الحفاظ على القيم الأبويّة، وتثبّت تاريخ السلالة عبر العصور، فبالإنشاد الشفويّ دوّن تاريخ متدرّج بداية من الجبلاوى وصولاً إلى عهد قاسم. كثير من الأحداث التى قام بها الأب وأبناؤه تحوّلت إلى مرويّات تغنّى بها الشعراء فى المقاهي. أعاد الشعراء بناء أحداث الماضى عبر التخيّل الغنائيّ، ولا يظهر الراوى الأخير (نجيب محفوظ) إلاّ فى مقدّمة الكتاب حيث يوقف التنامى المتضارب للأحداث، ويقرّر تدوين الحكايات المرويّة. اقترنت الشفويّة بعصور الأبناء الأوائل: أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، فيما ارتبطت الكتابة بعصر عرفة، فأحد أصحابه هو الذى اقترح على المؤلّف ما يأتي: «إنّك من القلّة التى تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ وبظهور عرفة تتوقّف المرويّات الشفويّة، وينتهى دور الأب الذى يشكّل محورها الأساس، ويبدأ التدوين. يوقف عصر عرفة مدّ المرويّات الشفويّة، وتعميم القيم الأبويّة التى غذّت السلالة منذ خلقها، فعرفة نفسه يقوم بمهمّة القضاء على الأب وأسطورته التى توارثتها الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل.
وتبدو رواية «ملحمة الحرافيش» التى صدرت بعد نحو عقدين من صدور «أولاد حارتنا» وكأنّها استمرار لها. لا يقتصر التماثل على النظام السرديّ للحكايات شبه المكتملة فى الروايتين، وتمركز الوقائع حول شخصيّة تظهر لفترة من الزمن ثمّ تتوارى لتظهر شخصيّة أخرى، إنّما تتشارك الروايتان بما هو أكثر من ذلك، فأحداثهما تتنزّل على خلفيّة متماثلة من الأمكنة والأزمنة، وفيهما تهيمن الأبويّة الذكوريّة، وتشيع سيطرة «الفتوّات» على الحارة واحدًا إثر آخر، وشخصيّاتهما تتوزّع الإقامة فى الخلاءات المهجورة والمقابر والحارات الفقيرة.
ارتسم أوّل وهلة نوع من التوازى السرديّ بين ظهور الحكايات وظهور الأجيال فى الروايتين، وهذا صحيح حينما نخدع بتمركز الأحداث حول شخصيّة ما فى كلّ حكاية من الحكايات المكوّنة للروايتين، لكنّ نمو الشخصيّات وأفولها، انبثق كتيّار جارف فاكتسح الإطار الخارجيّ للحكايات، وهو منهج سرديّ اقترحه محفوظ فى «الثلاثيّة» وطوّره فى «أولاد حارتنا»، ثمّ كرّسه على نحو شديد البراعة فى «الملحمة». إلى ذلك فقد وظّف فى الروايتين طريقة تراكم الأحداث، وهى طريقة دفعت بها المرويّات السرديّة الشفويّة القديمة، حيث تتمركز الأحداث حول شخصيّة رئيسة، ثمّ تطوى تحت موج من أحداث لاحقة حول شخصيّة أخرى، فيدفع كلّ سيل من الأحداث السيل الذى سبقه إلى الوراء، فلا يتيح ذلك للمتلقّى إمكانيّة ربط الشخصيّة بطبقة الأحداث التى تتّصل بها، إن لم يسجل ذلك ليعود إليه حينما تطمس حكايةٌ الحكايات التى سبقتها. وهذا الضرب من السرد هو الأكثر شيوعًا فى المرويّات الخرافيّة والشعبيّة.
جنون الخلود
أظهرت سلالة الناجى فى «الملحمة» صمودًا بوجه العاديات، لأنّها منغلقة على نفسها فى المراحل الأولى من تاريخها، وممتثلة لشروط الأبويّة القائمة على السيطرة المطلقة، كالتحصّن من الغرباء، والعزوف عنهم، والحيلولة دون تأثيرهم فى ولائها المطلق للأب الكبير عاشور الناجي، فتمضى متمتّعة بهناءة القوّة والسيطرة، ولكن فى الجيل السابع، جيل «عزيز قره الناجي» انعدم وجود ذكور صالحين لهم القدرة على تولّى أمور السلالة والفَتْوَنَة. ثم بدأت السلالة بالتفكّك حينما وقع فى الجيل الثامن تغيّر هائل فى تاريخها، على يد «جلال عبد ربه الفرّان»، وهو العقيم الباحث عن الخلود، والمستغرق باللذات. لاح الانهيار فى بنية السلالة، فكلّ الشخصيّات الكبرى، بعد ذلك، وصولاً إلى الجيل الثالث عشر عانت عيوبًا أخلاقيّة، وعوزًا فى الاستقامة، فقد مُحقت الفحولة الصلبة، وشاع الاضطراب فى العالم التخيّليّ، وأصبح من غير الممكن وقف التدهور، فقد شاع الغدر فى السلالة، وعُرف الشذوذ وقتال الأخوة وسِفاح المحارم، والإفراط فى الملذّات، وجنون الخلود، وتجارة الجنس والمخدّرات، وبتواصل الأحداث ارتسمت صورة قاتمة للعالم السرديّ الذى ما برحت تتوالد فيه المآسى والخيانات والقتل، إلى أن ظهر عاشور الأخير، فختم الرواية برفض الزواج، مؤكدًا أنّه لن يهدم بيديه ما شُيّد من بناء شامخ.
قُفلت «الملحمة» بإيحاء قيميّ لا يخفى، فتسلّل الأنوثة إلى العالم التخيّليّ فى الحقب الأخيرة من تاريخ السلالة تسبّب بأفول مجدها، ولهذا قرّر آخر فحولها الامتناع عن الزواج، ذلك أنّ وجود النساء يهدّد السلالة ويهدّم بناءها. ولكنّ السمة العصاميّة-الأبويّة لمؤسس السلالة عاشور الناجى ظلّت هى المحفّز الأكثر أهميّة فى توزيع الأدوار عبر الأجيال المتعاقبة، فمن القيمة الرمزيّة لأبوّته استعار الأبطال العظام فى تاريخ السلالة مجدَهم، وكلّما ابتعدت الشخصيّات عن مدار قيمه وقعت فى مأزق معقّد من الأخطاء، وهى أخطاء تتضافر من أجل القضاء على السلالة. انتهى الأمر بأبويّة عاشور الناجى إلى أن تمارس دور الحماية المقدّسة للأحفاد، الذين يحرصون على الاتصال الكامل بها. وكلّ من شذّ عن روح الامتثال جنى عقابًا مباشرًا أو غير مباشر. وكلّ مَنْ استبدل بأبوّة الناجى الأسطوريّة، لذّة أو امرأة أو رغبة أو مالاً، كان مصيره الهلاك. ثمّ لعب الزمن دوره فى إنتاج أسطورة عاشور الناجي، فكفاحه الشخصيّ طفلاً لقيطًا مجهول النسب، وعدالته فى إنعاش الحرافيش وحنينه العميق المصحوب بحزن تقويّ للأناشيد المتعالية من «التكيّة» ومجاورته لها، ثمّ الاختفاء الغامض المفاجئ، كلّها أسباب صنعت أسطورته الشخصيّة، ومع أنّ بعض الأحفاد الغاضبين، كانوا يذكّرون بالجدّ اللقيط، فإنّ طابع القداسة ظلّ يتراكم حول شخصيّة الناجي، فتحوّلت أسطورته إلى حكاية تروى، على المنوال نفسه الذى كانت تروى فيه حكايات إدريس وأدهم وجبل ورفاعة وقاسم، فى رواية «أولاد حارتنا».
ولا يمكن فهم المحفّز السرديّ المكين وراء أحداث استغرقت قرونًا عدّة، ومئات الشخصيّات المتناثرة، وثلاثة عشر جيلاً من سلالة الناجي، دون أخذ بالحسبان التعارضات الأخلاقيّة والقيميّة مأخذ الجدّ فى العالم التخيّليّ للرواية، فالموجّه الأوّل الذى حرّك الشخصيّات هو موجّه أخلاقيّ، وثنائيّة الخير والشرّ هيمنت فى ذلك العالم. وكرّست بعض الشخصيّات حياتها لأعمال الخير، فأغدقت الأموال على الحرافيش، وكَبَحت الوجهاء والأثرياء، وحالت دون إفساد أهل الحارة، فيما أمعنت أخرى فى إذلال الحرافيش من خلال انغماسها فى الجنس والخمر والثروة والشذوذ، وكلما خُيّل للمتلقّى أنّ موجة الخير ستكون الأخيرة، اندفعت موجة شرٍّ عارمة فأطاحت بكلّ ما تحقّق، وتاريخ سلالة الناجى تاريخ أمواج متتابعة من عمل الخير والعدالة والمساواة، ثمّ الطمع والشرور والتعهّر والعربدة.
وقبع خلف الصراعات التى خاضها آل الناجى عالم شبه ساكن من الحرافيش والأثرياء، الذين يتحيّنون الفرصة للانخراط فى دعم منتصر خيّر، أو موالاة منتزع شرير للسلطة، وهم يشكّلون الخلفيّة التى تعطى عمقًا دلاليًّا للنزاعات الرمزيّة فى النصّ، ولكن إلى جوار الشخصيّات النموذجيّة والحرافيش والوجهاء، تظهر النساء بخفر ودونيّة. وباستثناء «زهيرة الناجي» التى كَبَتت حرمانًا كبيرًا فى صباها، ثمّ كشفت عن مكر وجمال هائلين فى شبابها، فسعت إلى تدمير تطلّعات الرجال فى السيطرة على الحارة، وجعلتهم يتساقطون طامعين بها واحدًا إثر الآخر، فإنّ كلّ النساء الأخريات سلبيّات، تعلّق بعضهنّ فجأة بالشخصيّات القويّة الفحوليّة، وكنّ واهنات أمام القوّة الجسديّة للرجال، يقترنّ بالأقوياء كمعادل موضوعيّ لضعفهنّ، ويحلمن بحماة يروون عطشهنّ الجسديّ، ويؤمّنون لهنّ الحماية الاجتماعيّة، وبعضهنّ عاهرات وغوانٍ يوقعن الرجال عبر إغراءات جسديّة فجّة.
توارت الصورة الإيجابيّة للنساء فى «الملحمة»، فقد حال الفضاء الأبويّ دون إبراز أدوارهنّ الإيجابيّة، فهنّ فاعلات فى تدمير البطانة الداخليّة لسلالة الناجي، وبمتعهن ورغباتهنّ، قُدن السلالة إلى نهايات فاجعة. ظهرت المرأة فى «الثلاثيّة» و»أولاد حارتنا» باعتبارها كائنًا ثانويًّا، ومكمّلاً للرجل وتابعة له، لكنّها قد تُسهم فى تخريب مسار حياته، وتَعمّق هذا الدور فى «الملحمة». فقد تحكّمت ثنائيّة العقم والشهوة المدمّرة فى تشكيل صورة المرأة. تُعزى الشرور إلى النساء فى النظام الأبويّ؛ إذ دبّ الفساد فى سلالة الناجى بسببهنّ. حدث انحراف خطير فى تاريخ السلالة بسبب امرأة، فقد توارى مجد الأبوّة الذى أرساه عاشور الناجي، حينما قامت امرأة بإحلال قيم بديلة محلّ القيم الأبويّة الموروثة، فبدل مواصلة مسار الجدّ الكبير الذى شقّ طريقه بالقوّة، دُفع حفيداه إلى التعليم، ثمّ التجارة، وبدل ممارسة العنف وفرض السطوة بالقوّة الجسديّة، صارا تاجرين وجيهين، وبدل أن يضفى «سليمان الناجي» حمايته على الآخرين، كما فعل أسلافه، احتمى هو بفتوّة الحسينيّة، فانحسر نفوذه عن الحارة، ومال إلى الخمول والبدانة، ثمّ الترهل، وفقد كلّ السمات التى تجعل منه حفيدًا جديرًا بعاشور الناجي، وانتهى بلا نفوذ ولا سطوة.
حكاية ثلاثة عشر جيلا
تتعزّز الأبويّة بمنأى عن التفاعل الإيجابيّ مع الأنوثة، وتأفل ثمّ تتلاشى بحضورها، كما تريد ملحمة الحرافيش الإيحاء به؛ فقد انزلقت الأسرة إلى الدنس والعلاقات المحرّمة، فقد تزوّج «قره» من عزيزة البنان، وهو يعرف أنّها على علاقة بأخيه «رمانة»، وتزوّج رمانة من «رئيفة» وهو يعلم أنّ زوجته تعرف بعلاقته مع أختها، ورمانة يعلم بأنّ الأختين على بيّنة من علاقته بهما معًا، والأختان عارفتان بالأمر أيضًا، فيقوم رمانة بقتل أخيه وقتل الشيخة ضياء، وحينما تنجب عزيزة وليدها عزيز لا يعرف أباه الحقيقيّ، وفى النهاية يتّضح أنّ رمانة كان عقيمًا. يكبر عزيز ويتزوّج «ألفت الدهشوري» ويشترى «دار البنان»، التى كان جدّه الأكبر عاشور الناجى قد استولى عليها إبان الوباء فى أوّل أحداث الرواية، فيما يسبّب شذوذ «وحيد» قلقًا كبيرًا لابن أخيه عزيز. وخلال هذه الفترة يلوح فى عالم السرد طيف «زهيرة الناجي»، التى تتسبّب فى انتقال نسب السلالة من الذكور إلى الإناث.
ملحمة الحرافيش هى حكاية ثلاثة عشر جيلاً متعاقبًا من سلالة «الناجي»، بداية بعاشور الأوّل وانتهاء بعاشور الأخير، أجيال مسكونة بنوازع متناقضة، وهى منقسمة بين العدالة والطمع، والتقوى والفحش، والعفاف والعربدة، والقوّة والضعف، والعالم التخيّليّ للملحمة مشبع بالشهوة والتقوى، وبحبّ السيطرة والقوّة. ومن عمق الخمول العامّ لمجتمع هلاميّ شبه ساكن، ينبثق أبطال شعبيّون يقيمون مجدهم على القوّة، ثمّ ينتهون نهايات متناقضة، بعضهم يستغرقه العدل كعاشور الأوّل وعاشور الأخير، وبعضهم تستغرقه اللذّة والخمر مثل جلال الفرّان، وبينهم نماذج تحوم فى آفاقها الشكوك الكبرى، والبحث عن الخلود، كجلال ابن عبده الفرّان الذى يتّصل بآل الناجى عن طريق أمّه زهيرة الناجي، والشذوذ الجنسيّ كوحيد سماحة الناجي، والتورّط فى قتل الآباء كشمس الدين جلال الناجي، وقتل الأخوة كرمانة سماحة الناجي، والحقد الأعمى بين سماحة وفتح الباب ولدى شمس الدين الناجي، وبعضهم ينحدر عن علاقات محرّمة كجلال جلال الناجي، وتجارة المخدّرات والجنس، كفائز ربيع الناجي. لكنّ هاجس البحث عن السلطة والأبوية حاضر فى «الملحمة» منذ حكايتها الأولى إلى حكايتها العاشرة، ويحوز الجميع أدوارهم الإيجابيّة والسلبيّة، إمّا لامتثالهم للقيم الأبويّة أو لخروجهم عليها، فهى المحدّد الثقافيّ لأدوار الشخصيّات الفاعلة فى مجتمع الرواية.
الواقعيّ الاجتماعيّ إلى بعدها الميتافيزيقيّ، ثمّ إلى الملحميّ، واتّضح التدرّج فى نسق القيم الأبويّة الذى قام رهانه على تبنّى مفهوم القوّة الذكوريّة المهيمنة، واختزال النساء إلى مجموعة دونيّة، فالنماذج الكبرى منهنّ، يترددن بين الصبر والطاعة المطلقة والإغواء ومحاكاة الذكور فى أدوارهنّ. على أنّ مفهوم الطاعة والخضوع والتراتب فى العلاقات والمكانة وأهميّة الدور الاجتماعيّ، كلّها مقترنة بمقام الأب الواقعيّ أو الرمزيّ، الذى يفيض مقامه على الجميع، فيمنح لهم مكانتهم فى العالم التخيّليّ، ولا نكاد نعثر على شخصيّة سويّة تمكّنت من ابتكار سويّتها الخاصّة بها دون أن تنهل من التركة الأبويّة التى تتحدّر إليها عبر الانتساب أو الطاعة أو المحاكاة، والشخصيّات التى نزعت إلى التمرّد على الموروث الأبويّ ارتسمت صورها السلبيّة بوضوح لا يخفى، وآلت مصائرها إلى نهايات مأساويّة، ذلك أنّ العالم التخيّليّ ثبّت معايير تقويم أخلاقيّ مستمدّة من القيم الأبويّة الذكوريّة، وكلّ شذوذ يعد مروقًا، فلا تستقيم قيمة أخلاقيّة بذاتها، إنّما بمقدار امتثالها لنظام متراكم من القيم المتوارثة، من أب تعالت صورته فى الذاكرة والمخيّلة، فأصبح مصدرًا ثرًّا للسجايا، ومنبعًا لا ينضب للفضائل.
شكّلت القيم الأبويّة المدار الذى تطوف فيه الشخصيّات الفاعلة، فيما نبذت ورميت بالمروق الشخصيّات الساعية للخروج على مدارها، وترافق ذلك بضروب من السرد التفسيريّ المسند إلى راوٍ عليم، يحيط علمه بكلّ شيء، وبخاصّة البعدين الأخلاقيّ والنفسيّ للشخصيّات، فكان يحرص على بيان المزايا والعيوب عبر الأسانيد المشتقّة من أفعال الشخصيّات، فيما حرص محفوظ على بناء سرديّ تتتابع الأحداث فيه، وقد حرص ذلك البناء على تقديم سير الشخصيّات منذ ظهورها إلى موتها ضمن هدف تكوينيّ، يضع أمام المتلقّى إخفاقات الشخصيّات ونجاحاتها كسلسلة متواصلة من العِبر الأخلاقيّة.