يطلّ علينا الشَّاعر المصري جورج حنين، في ذكرى رحيله الخمسين (1914 – 1973)، بكلّ إنجازاته المتعدّدة – المتناقضة، فهو السوريالي العربي الأوّل، والناقد، والصحافي والفرانكفوني الملمّ بالعربيّة والثوري “الراديكالي” المناهض للناصريّة من موقعه الليبرالي والطبقي. هذه التناقضات تصفّت في ريادته السورياليّة، التي بادأها في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، في الوقت الذي تجلّت فيه في لبنان في الستينات.
هذا الفتى، كأنّه لم يعرف الجمود، تَرَكَ مِصر إلى باريس مع الفنّان رمسيس يونان، فدَرَسَ بحيويّته المتفجّرة الحقوق في السوربون، والآداب، والتاريخ معا. وهناك كانت الصدمة الرائعة، جذبه سحر السورياليّة التي كانت آنئذٍ، في توهّجها بقيادة “الماريشال” آندره بريتون، الذي تأثّر بدادائيّة الشاعر تريستان تزارا، وانخرط فيها، ثمّ ورثَ ما ورثَ منها، وصنع سوريّاليته، تلك التي تشبهه، بمواصفاتها الحيويّة، الرافضة، الثوريّة، (لكن بعقلانيّة ديكارتيّة)، ورافقه في هذه الرحلة الفنّان رمسيس يونان: ويعني ذلك قيام جناحي السورياليّة: الشِّعر والفنّ التشكيلي. فترافقا وتمازجا في هذه المغامرة، وهناك قام حنين بتأسيس “ملتقى باريس” مع مباركة السورياليين، وفي طليعتهم بريتون، وعدد من الشعراء الفرنسيين أبرزهم الشاعر هنري ميشو الذي قارَبَ السورياليّة لكنّه تجاوزها رافضا الانضمام إلى أيّ مذهب فنّي أو أدبي.
لكن المفارقة الأخرى أنّ حنين، ابن الباشا، لم يكتفِ بالاندماج بهذه المدرسة السورياليّة بل كأنّه راحَ، على خلاف كثير من ممثّليها، يطبّق نظريّة رامبو “تغيير الحياة” إضافة إلى شعار السورياليّة “تغيير العالم”. وهذا يدلّ على ربط الثورة الشِّعريّة بالثورات الأيديولوجيّة كالشيوعيّة ليختار المفكّر الراديكالي تروتسكي في مواجهة الستالينيّة، جَمَعَ الطرفَين، في كتاباته وأفكاره، وضمن هذا الإطار تنقّل بين القاهرة وبيروت التي لم تكن تعرف السورياليّة ولا السورياليّين آنئذ.
العتبة الممنوعة
أصدر جورج حنين ديوانه الأوّل “العتبة الممنوعة”، وهو أوّل إطلالة شِعريّة للسورياليّة المصريّة والعربيّة. ثمّ عمل مع الفنّان التلمساني مؤسّس جمعية “الفنّ والحريّة” تحت رعاية المفكّر التقدمي الكبير سلامة موسى. وفي هذه الفترة، كأنّه أراد أن يستقلّ عن مجموعة بريتون، فبدأ بتنظيم “الجماعة السورياليّة” مع أصدقاء له أمثال إدمون جابيس (مواليد مصر)، والصحافي إميل سيمون، والرسّام كامل التلمساني وأنجلو ديمارين والفنّان رمسيس يونان وسُمّيت “جماعة الفن والحرّية” تعبيرا عن انتمائه الثوري إلى تروتسكي (وهذا العنوان مستلهم من بيان آندره بريتون الأوّل)، ومن خلال هذه التحرّكات نَشَرَ ديوانا (عبثيّا) بعنوان “لا معقوليّة الوجود” مُزيّنا برسوم الفنّان كامل التلمساني.
وأثناء وجود حنين خارج باريس وجّه إليه آندره بريتون رسالة عام 1939 يقول فيها “أنت واحد ممّن أفتقدهم في باريس”، ولتأكيد هذه الازدواجيّة أسّس جريدة “دونكيشوت” في باريس، لتكون منبرا للسورياليّة والماركسيّة.
لكن، الأهم في مغامرته السورياليّة تجسّد في إصداره مجلة “التطور” الشهريّة بالعربيّة، عام 1940، وفي 1942 نَشَرَ مع رمسيس يونان كرّاسا بعنوان “حصة الرمل” أعلن فيه للمرّة الأولى سورياليّو مِصر أنّهم سيشاركون في المعرض الدولي للسورياليّة في باريس الذي أقيم عام 1947، وعندها شكّل بروتون “سكرتارية دوليّة للسورياليّة” مؤلفة من ثلاثة عشر عضوا كان حنين من بينهم.
انشقاقات
وفي هذه الفترة بدأت الانشقاقات والخلافات تدبّ بين السورياليّين، فطرد بروتون عددا من الشُّعراء الذين خالفوا “بياناته”، وانسحب عدد آخر منهم أنطونان أرطو، وجاك بريفير، وأراغون وايف بونفوا ورينيه شار. ولم يلبث أن جاراهم جورج حنين، فأكّد انسحابه من الحركة السورياليّة بخطاب وجّهه إلى بطريركها بريتون عارض فيها فصل السورياليّة عن الماركسيّة والتروتسكيّة، وتابع منفردا مع بعض الشُّعراء، فانتقد الفاشيّة بعنوان “يحيا الفنّ المنحط” اعتراضا على منع النازيين “الفن الحديث”.
لكن لم يكتفِ جورج حنين بتحرّكاته في باريس وسواها، بل قام بنشاطات في القاهرة نفسها، وفتح التعبير الفرانكفوني إلى العربيّة، فبدأت طلائع الشُّعراء السورياليّين في القاهرة. وهناك في بلده الأُم أحدث انقلابا على الثقافة السائدة في تلك المرحلة، من خلال طرح أفكار غيّرت المشهد الأدبي والثقافي المصري بالسورياليّة وكانت القاهرة في تلك المرحلة متعدّدة اللغات والثقافات. ولهذا لقيت السورياليّة استجابة كبيرة فيها، بل إنّ بعض النقّاد وصفوا السوريارليّة المصرية “بالأخطبوط” الذي امتد إلى مختلف الفنون والإبداع، فهي لم تكتفِ بالشِّعر الفرانكفوني، بل في انتقالها إلى العربيّة (كأوّل محطّة عربيّة)، أنتجت إبداعات كثيرة منشورة بالعربيّة في تلك المرحلة، منفتحة إلى أعمال أخرى، فترجم الفيلسوف الكبير ألبير كامو وكذلك فرانز كافكا.
لكن المهم في هذه القفزات التي حقّقها حنين ورفاقه المصريّون من فنّانين وكتّاب، أنهم تميّزوا في أعمالهم التشكيليّة والشِّعريّة، باختلافات عديدة عن الفنون الأوروبيّة. فقد صرّح الفنّان كامل التلمساني عام 1932، معلنا انتماءه إلى “تربيته الشرقيّة” أن أفكارنا وهواجسنا الشرقيّة أيضا أن تلد فنّا جديدا متحرّرا من التطورات الغربيّة. وهكذا فَعَلَ بعض كبار السورياليّين العرب، في تميّزهم عن الأوروبيّين كالشاعر العراقي صلاح فائق، والشاعر اللبناني شوقي أبو شقرا.
وإذا كان السورياليّون الفرنسيّون، منذ بريتون قد تنوّعت مقارباتهم بين مَنْ استوحوا بيانات بروتون، وما برز من بنوده، مثل فيليب سوبو، فإنّ آخرين حاولوا الجمع بين بقايا الرومانسيّة، والغنائيّة والتقليل من الغموض، والغريب والمتناقض واللاوعي والحلم والفوضى والصدفة الموضوعية و(الوعي الباطني) أي الفرويديّة المبالغة، ومنهم بول إيلويار، وأراغون، وجاك بريفير، وغيفيك، وإيف بونغوا، وجورج شحادة وكذلك جورج حنين، فهو بدا، على غرار بعض هؤلاء، يوارب “قوانين بريتون” ويوافي بشكل من الأشكال نوعا من الغنائيّة الشرقيّة، جامعا بين تفجير اللغة، وبين نوعٍ من “الصفاء” من دون أن يخون ركائز هذه المدرسة. بمعنى آخر انفصل انفصالا كليّا على الدادائيّة أي التي استمرّ بروتون في الاستفادة من بعضها، ورمي ما كان تطرّفا فيها مثل ديمقراطيّة التعبير أي أن لا شاعر أو غير شاعر يمكن أن يساهم في ذلك، وأنّها ثورة شاملة على العقلانيّة، والمجتمع، والأدب، والنص والقصيدة.
اجتماع النقائض
شاعرنا، ربّما تمسّك بالثورة السياسيّة والأيدولوجيّة نحو الشيوعيّة والتروتسكيّة لكنه، لم يضع شِعره في خدمة الثورة.. فهو أبقى الخطب الأيديولوجيّة في نطاق النثر أي الوعي الثوري بتمرّده على مجمل الاتجاهات اليمينيّة والمحافظة، بشكل جعل سورياليّته مُندمجة بماركسيّته الراديكاليّة. والدليل أنّه انسحب من “المجتمع” السوريالي عندما انفصل عن الماركسيّة.
وهذا يعني تلازم الفكر الواعي الحاد واللاوعي المتّسع، (وصولا إلى فرويد)، في الشِّعر، نقيضان اجتمعا، في فضاء واحد؛ وقد أدّى انفصالهما إلى انفراط عقد السورياليّين، واتجّاههم إلى أساليب أخرى.
بعد خمسين عاما من رحيله، يبقى جورج حنين الرائد العربي الأوّل للسورياليّة العربيّة، التي انبثق بعضها في لبنان مثلا بعد بروزها عنده بنحو ثلاثين عاما، أي في الستينات مع شعراء أمثال أُنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وسليم بركات؛ وعصام محفوظ في بداية انطلاقها. كن هذه الظاهرة السورياليّة في لبنان لم تقترن فعلا بثورة اجتماعيّة يساريّة أو اجتماعيّة أو بتمرّد “لتغيير الحياة”، و”العالم”، كما عبّر رامبو وبعده السورياليّون.
إنّ جورج حنين، إلى مزجه بين الفكرة الملتزمة بالتغيير الشامل، جامع الفن التشكيلي والثورة السورياليّة وهذا كان منفصلا في العالم العربي. يضاف أنّ معظم الذين انخرطوا في السورياليّة في لبنان، خرجوا منها إلى أشكال أخرى من التعبير، فبعد دواوين “لن” و”الرأس المقطوع”، و”ماضي الأيام الآتية” وهي ثلاثيّة شِعريّة مهمّة، انتقل أُنسي الحاج إلى طُرق أخرى من التعبير؛ لكن شوقي أبي شقرا بقي إلى حدّ ما، ممارسا في كتاباته السورياليّة خاصّة، مدموغة ببصماته.