المصطفى السهلي
دلف إلى المركز بحذر شديد كأنه يسير في حقل ملغوم… ورمق خلف فاصل زجاجي شخصا منهمكا في قراءة جريدة وقد أخفى كامل وجهه وراء صفحاتها… توجه نحوه بعد أن بقي مترددا بعض الوقت… أخرج من جيبه الاستدعاء الذي حمله إليه اليوم شخص بلباس مدني ووقّع نظير استلامه في دفتر كان معه… وضعه تحت نصف الدائرة التي فـُتحت أسفلَ الفاصل الزجاجي للمكتب لتُمرَّر منها الوثائق، ثم اصطَنع سعلة خفيفة ليثير انتباه الشخص الغارق في قراءة الجريدة… لكنه لم ينتبه إليه إلا بعد فترة… خفض الجريدة قليلا حتى بدت عيناه المنتفختان وقد خالطتهما حمرة كأنها الشرر المتطاير… ودون أن يقوم من مكانه قال مزمجرا:
“انتظِر هناك… العميد مشغول الآن”.
التفت حيث أشار الرجل، فرأى كرسيا خشبيا مستطيلا موضوعا بجانب الجدار… ألقى بجسمه النحيف على طرف منه، بعد أن تفادى الجلوس على بقعة من الدم ما تزال عالقة به… ثم استرق نظرة إلى الرجل خلف الزجاج وهو مشغول عما حوله بقراءة الجريدة… واستغرب كيف لم يرَ صورة الحاكم بزِيِّه العسكري وهي تتصدر وسط المركز بحيث لا يمكن أن تخطئها عين الداخل إليه… حدق في عينيه ملِيًّا ربما لأول مرة… وأحس أن الحاكم ينظر إليه شزْرًا كأنما قرأ ما بداخله… غضَّ بصره سريعا… وشعر كما لو أن أطرافه تقلصت وانكمش على نفسه… كيف يجرؤ على رفع بصره إلى ذلك المستوى ليحدق في عيني الحاكم وهو في حصن من حصونه؟ ساوره ندم شديد على ما بدر منه من جرأة لا تليق في هذا المكان بالذات… أشاح ببصره عن مكان وجود الصورة… فرأى على الجدار الآخر، بين أبواب المكاتب المتراصة، سبورة خشبية وقد ثـُبـِّتـَتْ فوقها صورٌ لأشخاصٍ بعضُهم من الشباب الملتحين، والبعض الآخر ارتسمت على وجوههم ندوب عميقة لجروح غائرة… خمَّن أنهم مبحوث عنهم من قِبَل الشرطة… وفوق السبورة لوحة كُتِب عليها بخط كوفي كبير: “الشرطة في خدمة المواطن”… وفي اللحظة التي همَّ فيها بتأمل دلالة هذه الجملة سمع لغطا وهرجا يسبقان الوافدين إلى المركز… رأى اثنين من رجال الشرطة يقتادان مجموعة من الأشخاص، يبدو من خلال هيآتهم، ومن آثار الضرب عليهم أنهم خرجوا على الفور من اشتباك طاحن… كان وجه أحدهم ملطخا بدم ينزف بغزارة من جبينه وأنفه… فتح أحد الشرطيين بابا، ودفع الشرطيُّ الآخرُ المجموعة أمامه فانقطع ضجيجهم تماما… ظل يتابع المشهدَ عن كثب، بينما الرجل خلف الفاصل الزجاجي لا يكُفُّ عن قراءة الجريدة وكأنه منقطع عن هذا العالم كُلّيًّا…
حيَّره أمر هذا الاستدعاء. ماذا تريد منه الشرطة، وهو الذي ظل طول حياته حريصا على أن يتجنّب كل ما قد يوصله إلى مراكزها؟ لولا بطاقة الهوية التي استلمها هنا، ثم اضطُر إلى تجديدها بعد انتهاء صلاحيتها لما عرف هذا المركز بتاتا. أيكون أحد أبنائه قد تحرّش بإحدى بنات الجيران فتقدموا بشكوى ضده؟ أم تكون زوجته اشتبكت في عراك مع إحدى الجارات لسبب من الأسباب؟ لقد كان صارما في تنبيههم جميعا إلى الابتعاد عن الشنآن مع الجيران دَرْءًا لمثل هذا الموقف الصعب… وهو في خضم تساؤلاته، دخل إلى المركز شاب مُكبَّل اليدين خلف ظهره يتبعه رجلا أمنٍ بالزي المدني… دفعاه بعنف في اتجاه باب آخر غير الذي دخلت منه المجموعة السابقة… وحمد الله كثيرا لأنه، هو على الأقل، احترمته الشرطة، ولم تأتِ به إلى المركز مكبّلا أمام أعين الملأ. طمْأنَه ذلك بعضَ الشيء. فالشـرطة إذن تثِق به، واكتفت باستدعائه كتابةً… لا شك أن في الأمر سوءَ فهم، أو ربما هو تشابُه في الأسماء، أو خطأ في العنوان. وفجأة سُمع جرس يرن… ثم رأى الرجل الغارق خلف الجريدة يشير إليه بحركة من يده إلى باب قريب منه.
طرق الباب طرقا خفيفا، ثم انتظر قليلا قبل أن يفتحه ببطء شديد ويدخل على استحياء. أشار إليه الرجل الذي يملأ الجانب الآخر من المكتب بجثته الضخمة، أشار إليه بالجلوس. ملأ عليه الرجل تفكيره بالكامل، فركّز عليه اهتمامه كاملا ولم يلتفت إلى تفاصيل الغرفة. جلس على كرسي إلى الجهة اليسرى ثم ساد صمت طويل خالَه دهرا. نظر خلسة إلى الرجل فوجده يقلب مجموعة من الأوراق استخرجها من ملف موضوع أمامه. بدا شاربُه كثا ومعقوفا في جانبيه كجناحيْ نسر، بينما حاجباه الكثيفان ترتسم تحتهما عينان صغيرتان لا تبعثان على الاطمئنان. همَّ أن يستفْسره عن سبب استدعائه، لكنه خشي ردة فعل عنيفة من قِبَل المسؤول الأمني. أخيرا، وبعد فترة من التعذيب النفسي المقصود، قال بعد أن تفرّس جيدا في وجهه:
“أنت لم تشتكِ من أحد. ولم يشتكِ منك أحد. ما شأنك؟ ومن أي طينة أنت؟ ألا تعيش في هذا المجتمع؟ أنت لستَ منخرطا في أي حزب سياسي… ولستَ مناضلا في صفوف أي نقابة من النقابات… ولستَ عضوا في أي جمعية من جمعيات المجتمع المدني… ولستَ منتميا إلى أي ناد من الأندية الرياضية… لا تشارك في المظاهرات، ولا تحضُر الوقفات الاحتجاجية… ولا تدخل إلى ملاعب كرة القدم… ولا تتردد على دور السينما، ولا تذهب إلى المسرح… ولا تجلس في مقهى ككل خلق الله في هذه البلاد… لك مسار واحد لم تخرج عنه قط كأنّك قطار… من البيت إلى العمل، ومن العمل إلى البيت… حتى زملاؤك في العمل تنتهي علاقتك بهم بمجرد خروجك من مقر عملك… لا تحضُر حفلات الزفاف، ولا تشارك في تشييع الجنائز… من أي طينة أنت؟”
ذُعِر الرجل كأنما صُفع على قفاه على حين غفلة… أحس كأن ماءً باردًا صُبَّ على جسده… لم يُحِر جوابا، ولم يـَقـْوَ حتى على تحريك لسانه في فمه… وتذكر مأساة والده الذي اختطفته أجهزة الأمن ذات فجر من أمام أفراد أسرته، بعد أن وضعت عصابةً على عينيه واقتادته إلى مكان مجهول. عرفوه مناضلا سياسيا صلبا… ونقابيا لا تلين قناتُه… يَجهَر بالحق في وجه المسؤولين والحكام، ولا يخشى في الحق لومة لائم… وانتهى به المطاف كغيره من رفاقه في النضال إلى مصير مجهول… تذكَّر ذلك وأدرك أن العميد يعلم دون شك تلك الأمور كلها… حاول أن يُوَضِّح أنه استوعب الدرس تمام الاستيعاب… لكن العميد واصل حديثه وكأنه يقرأ مضمونه من الأوراق الموضوعة أمامه:
“هل تعتقد أن هذا السلوك، يوهِمُنا بأنك مواطن صالح؟ نحن نعرف عنك كل شيء… نحن نعلم أن نفسك الأمَّارة بالسوء تُدبِّر أمرا في الخفاء… ثمة دون أدنى شك جهات خارجية تتواطأ معك… وثمة بالتأكيد جهات أخرى تدعمك بالمال لتنفيذ مخططاتك… كل هذا التكتّم الذي تحيط به حياتك الخاصة يجعلنا نشك… لا… لا… بل نحن على يقين أنك تخطط لأمر خطير… سنعرفه في الوقت المناسب… وعندها سنصل إليك قبل أن يرتد إليك طرفك… أعتقد أن خطابي واضح… وأن الرسالة قد وصلت… يمكنك الانصراف الآن… وسنلتقي هنا كثيرا”.
أشار نحو الباب بيده الغليظة مثل عصا، إيذانا بانتهاء الزيارة… نهض متحاملا على نفسه وقد أذْهَلَته المفاجأة… وانسلّ من الباب مثل قط مذعور… ثم بدا له الرجل الجالس خلف الفاصل الزجاجي وهو ما زال يدسُّ وجهه في الجريدة.
ما إن غادر باب المركز إلى الخارج حتى تنفس بعمق… لكنه أحس كأن الكائنات من حوله تحولت إلى عيون ترقبه وتترصّد حركاته… وانتابته رغبة جامحة في البكاء… ثم أطلق صرخة مدوية كأنها زئير أسد مجروح… وانطلق يعدو في اتجاه الصفوف الأمامية لمظاهرة احتجاجية كانت تعبر الشارع القريب…